د. سليمان عبدالمنعم لا يطاوعنى قلمى أن أكتب اليوم قبل أن أسجل ابتداء دعواتى بأن يمن الله بالشفاء العاجل على الدكتور محمد حسين أبو الحسن الكاتب الملتزم صاحب الاهتمام الوطنى الدءوب والعميق بقضية السد الإثيوبى، ليعود قلمه ناهضا معافى إلى صفحات الأهرام وجمهور قرائه. والواقع أنه برغم كثرة ما كُتب عن سلوك المفاوض الإثيوبى فى قضية السد فمازالت مراوغاته فى المفاوضات الجارية مع دولتى المرور والمصب السودان ومصر كاشفة عن استهتار بالغ بأحكام القانون والأعراف الدولية وحسن النية. والحقيقة أن سلوك المفاوض الإثيوبى خلال السنوات العشر الأخيرة تراوح بين أربعة مواقف بدأت بالكذب والتضليل، ثم استهلاك الوقت فى مفاوضات يعيدها فى كل مرة إلى مربع الصفر من جديد، ثم الجهر برفض تطبيق الاتفاقات الدولية ذات الصلة وأحكام القانون الدولى للأنهار عابرة الحدود، وأخيرًا حالة التخبط التى يعيشها خصوصا مع تغير موقف السودان والدخول فى أزمة جديدة معه. وكانت السمة العامة لموقف المفاوض الإثيوبى خلال هذه المراحل أنه يقول الشيء ونقيضه فى مشهد للتذاكى أصبح مكشوفا لدى الآخرين حتى من خارج القارة الإفريقية. الوجه الصارخ والسافر لسلوك الشيء ونقيضه لدى المفاوض الإثيوبى يتمثل فى إصراره المعلن على رفض أى اتفاق ملزم بشأن قواعد ملء وتشغيل السد. وهو سلوك خارق للمنطق وحسن النية ويكاد المريب فيه أن يقول خذوني! لأنه إذا لم تكن هذه المفاوضات طوال كل هذه السنوات بهدف الوصول إلى اتفاق ملزم بين الدول الثلاث إثيوبيا والسودان ومصر فما هى العلة والجدوى إذن من المفاوضات؟! هل كان كل هذا الوقت والجهد فى عشرات الجلسات التفاوضية ووساطات الآخرين من البنك الدولى والولايات المتحدة والاتحاد الإفريقى والاتحاد الأوروبى هو للنقاش من أجل النقاش واحتساء القهوة الإثيوبية أم أن أى مفاوضات غايتها بالتعريف والوظيفة صياغة اتفاق ملزم؟ يقول الإخوة الإثيوبيون إنهم يريدون الوصول إلى اتفاق توجيهى استرشادى وليس اتفاقا ملزما فماذا يتبقى إذن من المفهوم القانونى للاتفاق؟ هذا الضرب من ضروب التفكير والسلوك هو دليل إضافى جديد لأدلة كثيرة سابقة على سوء نية المفاوض الإثيوبي، وتملصه المكشوف من أى سعى جاد لحل هذه الأزمة على قاعدة لا ضرر ولا ضرار. السلوك المخادع والكاذب بقول الشيء ونقيضه تجلّى أيضا فى موقف الحكومة الإثيوبية من الأراضى السودانية التى احتلتها وقام السودانيون ببسط سيطرتهم عليها مؤخرا. ففى البداية كان الزعم الإثيوبى أن الذين اغتصبوا هذه المناطق السودانية الحدودية، وهى من أكثر أراضى الدنيا خصوبة، هم من الميليشيات الإثيوبية وحينما تمكن السودانيون من دحرهم واستعادة أراضيهم تغيرت التصريحات الإثيوبية وسرعان ما وجهت الاتهامات إلى السودان وكأن من يسترد جزءا من أرضه يصبح معتديا. والأخطر ما أعلنه السودان من أن سياسة فرض الأمر الواقع من جانب إثيوبيا تهدد حياة 20 مليون سودانى يعتمدون على مياه النيل الأزرق. هكذا تضيف إثيوبيا لسجلها صفحة مخزية جديدة لتصبح هى الدولة الأكثر إثارة للقلاقل والتهديدات فى شرق إفريقيا. وإذا اُضيف ذلك إلى انتهاكات معالجتها لأزماتها العرقية فى إقليم تجراى فإن المشهد برمته ينزع عن إثيوبيا كل مصداقية وينعتها بوصفها المستحق كدولة مارقة. هذه النظرة لإثيوبيا ليست عن تحامل بسبب موقفها من قضية السد بل يشاركها الأوروبيون أنفسهم. ولهذا قام الاتحاد الأوروبى بتعليق مساعدات مالية لإثيوبيا بقيمة 88 مليون يورو. وجاءت اللطمة الأكبر على لسان رئيس الشئون الخارجية فى المفوضية الأوروبية جوزيب بوريل حين قال مؤخرا إن رئيس الوزراء الإثيوبى آبى أحمد محتاج للارتقاء لجائزة نوبل للسلام التى حصل عليها منذ عدة سنوات. ولعلً المشهد اليوم بشأن قضية السد الإثيوبى يمكن إيجازه فى جوهر الأزمة ووسائل معالجتها. جوهر الأزمة تبلور تماما وبدا واضحا بلا لبس أو غموض وهو أن إثيوبيا تريد أن يكون السد سلاحا سياسيا واقتصاديا فى مواجهة مصر بالذات. وهى تكذب حيت تختفى وراء لافتة التنمية لأن الخبراء أنفسهم يؤكدون أن المواصفات التى بُنى بها السد، والتى تغيرت بكثير عن المخطط الأصلي، تتجاوز مسألة الاحتياجات التنموية وتوليد الكهرباء، ودليل ذلك الموثّق أن الحكومة الإثيوبية المارقة قد أعلنت العام الماضى على لسان أحد وزراء حكومتها أن النيل أصبح بحيرة إثيوبية وليس نهرا دوليا عابرا للحدود، فما حاجة إثيوبيا لخزان مياه سعته 74 مليار متر مكعب وهى دولة تعتمد فى الزراعة أساسا على مياه المطر إضرارا بمصر التى تعتمد فى أمنها المائى بنسبة 90% على مياه النيل؟ هذا تصريح يجب إدراجه فى أى ملف يُعرض لاحقا على مجلس الأمن الدولي، ليس فقط لأنه يكشف عن سوء نية إثيوبيا فى التعامل مع حقوق شركاء النهر فى دولتى المرور والمصب، ولكنه ينطوى أيضاَ على تهديد السلم والأمن الدوليين باعتباره تحريضا لكل دولة منبع نهر دولى أن تتعامل معه كشأن داخلى بحت إضرارا بحقوق الدول الأخرى المتشاطئة. والملاحظ أن إثيوبيا تحاول دائما جر النقاش وحصره فى إطار اتفاقيتى عامى 1929 و1959 والزعم بأنها اتفاقيات مبرمة فى حقب استعمارية تجاوزها الزمن ولم تكن طرفا فيها بقدر ما تتجاهل مبادئ وأحكام القانون الدولى للأنهار. وتدرك إثيوبيا أن مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول الذى تنظمه المواد 7،6،5 من اتفاقية قانون استخدام المجارى المائية الدولية فى الأغراض غير الملاحية المبرمة فى عام 1997. هذا المبدأ يرقى إلى حد اعتباره من مبادئ النظام العام الدولي. وتدرك إثيوبيا أيضا أن مفهوم الانتفاع المنصف والمعقول بمياه الأنهار عابرة الحدود ينبغى تقديره على ضوء سبعة عوامل ومعطيات نصت عليها المادة 6 من الاتفاقية تتوافر جميعها لصالح مصر. أما عن وسائل معالجة المروق الإثيوبى وانتهاكه لمبادئ المسئولية الدولية وقواعد القانون الدولى للأنهار فالأرجح أنها ستقود لا محالة إلى أروقة مجلس الأمن الدولي. فالاتحاد الإفريقى فى عهد رئاسة جنوب إفريقيا لم يفعل شيئا يُذكر، وبدا يخفى انحيازا للجانب الإثيوبي، لا نريد أن نصّدق أن جنوب إفريقيا الملهمة ذات التاريخ النضالى والحقوقى تعاملت مع القضية من منطلق تحيز عرقى لأن مصر فى النهاية بلد إفريقى منحدر من طين ودمِ إفريقيين، لكن يبدو أن هذا ما حدث. يصعب القطع بمآلات بعينها لقضية السد لكن الملاحظ أن الاتحاد الأوروبى بدأ يدخل على خط الأزمة، وهو أمر طبيعى لأن أى تهديد للأمن المائى والغذائى فى مصر لا ينفصل عن مخاطر ملفى الإرهاب والهجرة لأوروبا التى لا تبعد بعض سواحلها الجنوبية عن مصر سوى عدة مئات أميال فقط. ربما تختلف التحليلات والتقييمات لكن خلاصة الأمر أن إثيوبيا لن تهنأ ولن تأمن باستخدام السد سلاحا سياسيا واقتصاديا ضد مصر. والمشكلة ليست مع الشعب الإثيوبى الطيب، شركاء النهر وجيران القارة، المشكلة مع حكومة مراوغة ومارقة تبث الفتنة فى إفريقيا وتهدد السلم والأمن الدوليين!.