أحمد عبدالمعطي حجازي طبعا، فى فرنسا وفى أوروبا عامة تيار معاد للإسلام والمسلمين. لكن الاسلام له أيضا فى فرنسا وأوروبا أصدقاء يحترمونه ويعرفون قدره ولايطلبون من المسلمين الموجودين فى بلادهم إلا أن يعاملوهم بالمثل فيتعرفوا على ثقافة أوروبا ويحترموا قوانينها. وفى المقالات السابقة من هذه السلسلة تحدثت عن مثقفين أوروبيين كبار يمثلون هذا التيار الصديق. فى هذه المقالة أتحدث عن التيار المعادى فأعترف أولا بوجوده لسبب لايخفى على أحد، هو أن الاسلام وأوروبا جاران متلاصقان، لكنهما مختلفان، فلابد أن تنشأ بينهما علاقة تتراوح بين التزاحم الذى يصل إلى العنف أحيانا، وبين التفاهم الذى يسمح بالتواصل والحوار. والواقع أن هذه العلاقة لم تنشأ مع الاسلام كما قد يفهم من بعض ما يقال فى هذه الأيام، وإنما ورثها الإسلام من العصور التى سبقته. والتاريخ يحدثنا عن شعوب تسميها النصوص المصرية القديمة «شعوب البحر» قدمت من الشواطئ الشمالية للبحر المتوسط خلال الألف الثانى السابق على ميلاد المسيح وتدفقت على الشواطئ المصرية، لكن المصريين تصدوا لها ومنعوها من النزول فى بلادهم فعادت أدراجها لتبحر غربا حيث نزلت كما يقال فى إيطاليا. وكما فعلت شعوب البحر التى كانت تبحث عن وطن فى الجنوب فعلت جماعات أخرى. كانت تتنقل بين جزر البحر ومنها الجماعات الفينيقية التى أنشأت لنفسها مستعمرات عديدة فى قرطاج فى تونس، وفى قبرص ، وفى صقلية، وفى الساحل الجنوبى لإسبانيا. ونحن نعرف بعد ذلك أن الإغريق تدفقوا على شواطئ البحر الجنوبية والشرقية وواصلوا زحفهم حتى وصلوا إلى الهند، وتبعهم الرومان، ثم جاء العرب بعد ظهور الإسلام ليفتحوا ما بين الأناضول فى الشرق وإسبانيا فى الغرب ويدخلوا جنوبفرنسا. والذى حدث بين أوروبا وجيرانها فى ساحات القتال حدث بينها وبينهم فى ساحات التبادل الثقافى والاقتصادى. والمؤرخون يتحدثون عن حضارة متألقة ظهرت فى جزيرة كريت متأثرة بالحضارة المصرية خاصة وبغيرها من الحضارات التى نشأت فى شرق البحر وانتقلت من كريت إلى اليونان وإيطاليا. ثم ظهرت المسيحية لتجمع فى الامبراطورية الرومانية، بين أوروبا وبين جيرانها فى شرق البحر وجنوبه. لكن الامبراطورية الرومانية صارت امبراطوريتين، واحدة فى الغرب عاصمتها روما، والأخرى فى الشرق عاصمتها القسطنطينية . وكذلك حدث فى المسيحية التى صارت كنيستين، الكاثوليكية فى الغرب، والأرثوذكسية فى الشرق. وهذا هو الوضع الذى كان سائدا حين خرج العرب المسلمون من جزيرتهم يبشرون بالإسلام ويصلون عن طريقه بين المشرق والمغرب، وينشئون هذه الحضارة التى اجتمعت فيها ثقافات العرب، والفرس، والهنود، والكلدانيين، واليونان، والروم، والمصريين، والعبرانيين، والأمازيغ، والإسبان. هذه الثقافة الجامعة هى التى أطلعت أبا العلاء المعرى الذى جمع بين تراث العرب وتراث اليونان، وابن سينا الذى كان حجة فى الدين والفلسفة والطب والفلك، وابن رشد الذى عرفه الأوروبيون المعاصرون له بأرسطو، وتمكن من التوفيق بين الفلسفة والدين، لأن الفلسفة حق، والدين حق، فهما يتوافقان ولايتعارضان. لكن هذه الحضارة التى جمعت بين ثقافات العالم القديم كان لابد أن تتحول فى ذلك العصر إلى فرق دينية ومذاهب فقهية وفلسفات ودول تتبنى كل منها مذهبا أو عقيدة تعبر من ناحية عن هذا التنوع، وترتبط من ناحية أخرى بالمصالح المادية والأطماع السياسية والعصبيات القبلية والنزعات القومية التى كان لها تأثيرها فى انتقال السلطة من الراشدين إلى الأمويين ومن هؤلاء إلى العباسيين ومن العباسيين إلى الترك ومن العرب إلى الأمازيغ فى إسبانيا وبلاد المغرب. ومن المؤكد أن الغيرة الدينية لم تكن الدافع الوحيد للحملات الصليبية التى شنتها أوروبا الغربية على الشرق الاسلامى، وإنما كانت هناك أيضا أطماع الملوك والأمراء الأوروبيين فى الأراضى التى استولوا عليها وقسموها فيما بينهم. ومن هؤلاء لويس السابع ملك فرنسا، وفردريك الأول امبراطور ألمانيا، وريتشارد « قلب الأسد» ملك بريطانيا. وقد رأينا أن الصليبيين لم يكتفوا بالاستيلاء على القدس وما جاورها من بلاد الشام، وإنما طمعوا أيضا فى مصر واستولوا على دمياط وأنزلوا قواتهم فى تونس،لكنهم هزموا فى النهاية ورحلوا بعد ثلاثة قرون من الحرب المتواصلة، لكنهم ظلوا يحلمون باستئنافها فى الوقت الذى كان فيه المسلمون الأتراك يتوغلون فى أوروبا بعد أن استولوا على القسطنطينية وهى المعقل الأخير للإمبراطورية البيزنطية واندفعوا بعدها ليستولوا على المجر ويحاصروا فيينا عاصمة النمسا. غير أنهم فشلوا فى الاستيلاء عليها كما فشلوا فى المحافظة على ماحققوه فى شرق أوروبا ومثلهم الأندلسيون الذين فشلوا فى المحافظة على مابقى فى أيديهم مما حققه آباؤهم فى غربها. وهذا ما فسره الكاتب الأمريكى واشنجتن إيرفنج فى كتابه «حياة محمد» بالجبرية التى تجعل المسلمين فى نظره سلبيين إزاء ما يمر بهم من أحداث وماينزل بهم من نكبات يعتقدون أنها حكم الهى لايملكون رده ولايعترضون عليه وإلا حق عليهم ماجاء فى حديث يعتبره البعض حديثا قدسيا يقول «من لم يرض بقضائى، ولم يصبر على بلائى فليخرج من تحت سمائى، وليلتمس ربا سواى». ونحن نلاحظ أولا أن فى هذا الحديث ما يتناقض مع آيات فى القرآن الكريم يحضنا فيها الخالق عز وجل على أن نغير ما بأنفسنا ليغير الله مابنا، وأن نصحح ما نقع فيه من أخطاء ، وهو يعطينا الحق فى أن نريد وأن نختار لأننا المسئولون عن نتيجة اختيارنا. ثم إننا ننظر فى لغة هذا الحديث فنجدها بعيدة عن لغة الرسول صلى الله عليه وسلم ولغة العصر الذى عاش فيه الرسول صلى الله عليه وسلم. والحديث إذن معنى ومبنى ضعيف . كما قال الفقهاء المختصون ولايعول عليه. وباستطاعتنا إذن أن نقول إن هذه الجبرية التى يتحدث عنها إيرفنج وأمثاله وينسبونها للإسلام والإسلام برىء منها ليست سببا لما أصاب المسلمين، وإنما هى نتيجة لما أصابهم على أيدى الحكام الطغاة والفقهاء الأجراء الذين صادروا كل الحريات ونسبوا هذه المصادرة للسماء وسموها جبرية لايحق لأحد أن يعترض عليها. هذا فى الوقت الذى كان فيه الأوروبيون يسيرون فى الطريق العكسى ليتمكنوا فى النهاية من بناء امبراطورياتهم الاستعمارية التى ثرنا عليها وأسقطناها. وبقى أن نثور على أنفسنا لنبنى لأنفسنا مستقبلا أفضل.