عبدالمحسن سلامة الزيارة التى قام بها الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى «جوبا» عاصمة جنوب السودان فى الأسبوع الماضى هى الزيارة الأولى التى يقوم بها رئيس مصرى إلى دولة جنوب السودان منذ استقلالها عام 2011، فى إطار «تدشين» حقبة جديدة من العلاقات بين مصر وجنوب السودان على كل الأصعدة. سلفا كير، رئيس دولة جنوب السودان ، وصف الزيارة ب «التاريخية»، وأنها تأتى انعكاسًا للإرث البشرى والحضارى المتصل بين البلدين، مؤكدًا فى الوقت نفسه، وجود «آفاق رحبة» لزيادة التعاون بين البلدين الشقيقين فى مختلف المجالات. أما الرئيس عبدالفتاح السيسي فقد أكد دعم مصر الكامل وغير المحدود لجهود حكومة جنوب السودان فى تحقيق السلام والاستقرار والتنمية هناك كامتداد للأمن القومى المصرى. جنوب السودان هى جزء من دولة السودان الشقيق نالت استقلالها عام 2011 لتصبح دولة مستقلة بعد تاريخ طويل من الصراع والصدامات المسلحة التى امتدت عبر عقود طويلة. لم يكن الآباء المؤسسون لدولة جنوب السودان يرغبون فى الانفصال عن السودان وعلى رأسهم د.جون جارنج الذى تجنب تمامًا الدعوة إلى الانفصال؛ بل أعلن تمسكه بوحدة السودان، وأطلق على الجناح العسكرى لحركته اسم الجيش الشعبى لتحرير السودان، وكان يهدف إلى سودان موحد فيدرالى يحترم التنوع ويتمسك بالمواطنة، غير أن المعالجات الخاطئة للحكومات السودانية المتعاقبة وآخرها حكومة عمر البشير أدت إلى تفاقم الأزمات، وجعلت من وحدة الأراضى السودانية واقعا مستحيلاً بسبب السياسات الخاطئة التى تبناها عمر البشير طوال فترة حكمه لينتهي الأمر بانفصال الجنوب رسمياً فى 9 يوليو عام 2011 عقب الاستفتاء الذى أظهرت نتيجته موافقة سكان الجنوب على الانفصال بنسبة بلغت 98.83% من الأصوات. قبل الاستقلال قامت مصر بجهود حثيثة من أجل تقريب وجهات النظر بين الحكومة السودانية وحركات المعارضة فى الجنوب وأطلقت العديد من المبادرات فى هذا الإطار؛ بل إن الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك قام بزيارة إلى جوبا فى إطار زيارته السودان عام 2008، حيث أكدت مصر أنها تتعامل مع الشمال والجنوب على قدم المساواة وأنها تسعى إلى تعميق العلاقات مع الشعب السودانى (شماله وجنوبه)، وأنها تستهدف تسوية الصراعات والنزاعات. المبادرة المصرية ارتطمت «بعقلية» البشير وعدم تقديره للموقف، بسبب التحالف غير المقدس بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين فى السودان؛ بهدف البقاء والاستمرار فى الحكم حتى لو أدى ذلك إلى انفصال الجنوب. بعد الاستقلال احترمت مصر الإرادة الشعبية لشعب جنوب السودان، وسارعت إلى إعلان دعمها لحق شعب جنوب السودان، فى تقرير مصيره، والاعتراف بدولة جنوب السودان كدولة مستقلة، وأقامت علاقات دبلوماسية كاملة معها، وشارك وفد مصرى رفيع المستوى فى احتفالات إعلان الدولة التى أقيمت فى جوبا. توطدت العلاقات بين رئيسى مصر وجنوب السودان منذ عام 2014 وكانت البداية استقبال الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس جنوب السودان سلفا كير فى نيويورك على هامش أعمال الدورة التاسعة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة. بعدها قام رئيس جنوب السودان بزيارة مصر 3 مرات فى أعوام 2014، 2017 ، 2019 تخللها العديد من اللقاءات فى المحافل الدولية؛ مما أدى إلى ترسيخ العلاقات بين الدولتين، وزيادة مساحة التفاهم والثقة المتبادلة بين الرئيسين؛ وهو الأمر الذى انعكس على التنسيق فيما بين الدولتين على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية. زيارة الرئيس السيسي فى الأسبوع الماضى دولة جنوب السودان عكست حجم التفاهم العميق بين الجانبين إزاء التعامل مع جميع الملفات؛ خاصة تلك المتعلقة بالتعاون الاقتصادى، والسياسى والعسكرى، والرؤية المشتركة لأزمة السد «الإثيوبى» وآخر المستجدات المتعلقة بهذا الشأن، حيث تم التوافق حول أهمية التوصل إلى اتفاق قانونى ملزم ومتوازن حول ملء وتشغيل السد، فى إطار تعزيز التعاون بين دول حوض النيل على نحو يحقق المصالح المشتركة لهذه الدول ويجنِّب الإضرار بأى طرف. السودان (شماله وجنوبه) هو العمق الإستراتيجى للأمن القومى المصرى، وظلت مصر والسودان، عبر عدة عقود امتدت إلى نحو 200 عام دولة واحدة وشعبا واحدا، وبالتحديد منذ أن قام محمد علي باشا بضم السودان إلى مصر عام 1822، لتصبحا دولة واحدة حتى عام 1954 حينما تم إعفاء اللواء محمد نجيب من منصبه ليدب الجفاء والتباعد بين البلدين، ويتم بعدها إعلان انفصال السودان عن مصر بدوافع من القوى الاستعمارية الكبرى؛ خاصة انجلترا التى كانت تحتل مصر والسودان وفرضت اتفاقية 1899 التى نصت على أن يتولى الإشراف على حكم السودان ممثل لحاكم مصر، وممثل آخر للاحتلال الإنجليزى. رغم نجاح القوى الاستعمارية فى ضرب وحدة مصر والسودان، إلا أن العلاقات بين الشعبين المصرى والسودانى ظلت فى أوج قوتها على مدى السنين، ولم تفلح كل المحاولات فى التأثير على قوة العلاقات بين الشعبين الشقيقين. ما ينطبق هنا فى مصر على شمال السودان ينطبق على جنوبه، فهناك جالية كبيرة من أبناء جنوب السودان تتعلم وتعمل وتعيش فى مصر مثلهم فى ذلك مثل أبناء الشمال دون تفرقة بين دولة السودان، ودولة جنوب السودان، ودون التفرقة بين أبناء الشعب السودانى وبين أبناء الشعب المصرى. حينما وقعت حادثة «تنمر» فردية ضد طالب من جنوب السودان الشقيق من جانب ثلاثة شباب مصريين، «قامت الدنيا ولم تقعد» فى مصر، وتم إلقاء القبض على الشباب الثلاثة المصريين، وأحيلوا إلى النيابة، ولم يتم الإفراج عنهم إلا بعد أن تنازل الطالب السودانى عن البلاغ، بعد أن اتضح أن هناك علاقة صداقة بين الشاب السوداني والثلاثة شباب المصريين، وأن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد (دعابة سخيفة) من هؤلاء الشباب المصريين مع صديقهم السودانى. الواقعة حدثت منذ عام، لكنها كشفت بوضوح مدى اهتمام الدولة المصرية بعمق العلاقات مع جنوب السودان وشعبها، وأن شعب جنوب السودان هم مواطنون مصريون لهم كل التقدير والاحترام فى وطنهم الثانى مصر. باستثناء بعض الحوادث الفردية التى تقع بين أبناء الأسرة الواحدة، يعيش أبناء جنوب السودان على «الرحب والسعة» فى وطنهم الثانى مصر، وهناك جالية سودانية ضخمة (من الشمال والجنوب) يقدر عددها بالملايين تعيش فى مصر، يقتسمون «كسرة الخبز» مع أشقائهم المصريين مثلهم فى ذلك مثل باقى أبناء الجاليات العربية الموجودين فى مصر. تملك مصر الكثير مما تستطيع تقديمه إلى جنوب السودان؛ خاصة ما يتعلق بخبراتها الهائلة فى مجالات البنية التحتية، والتنمية الزراعية، والمشروعات الصحية، والتعليم والتكنولوجيا وغيرها من المجالات المتنوعة التى نجحت فيها مصر، وأصبحت لديها خبرة تراكمية هائلة تستطيع أن تقدمها إلى شعب جنوب السودان الشقيق لمساعدته فى إقامة دولته التى يحلم بها، وإنهاء الصراعات والمشكلات المتراكمة هناك. على الجانب المقابل، فإن جنوب السودان هى إحدى دول حوض النيل المهمة، والتى يمكن أن تلعب دورا «مؤثرا» فى التوصل إلى اتفاق ملزم وقانونى حول السد الإثيوبى خاصة فى ظل «التعنت» الإثيوبى والمراوغة التى ينتهجها رئيس الوزراء الإثيوبى آبى أحمد للتغطية على فشله فى معالجة المشكلات الداخلية المتراكمة واستخدام السد كورقة فى تلك الأزمات والمشكلات. أخيرا فإن اتفاق السودان وجنوب السودان مع الرؤية المصرية فى معالجة أزمة السد وهو الأمر الذى تحقق مؤخرا يعتبر انجازا هائلا، ونقطة قوة إضافية للسياسة المصرية، «لتعرية» الموقف الإثيوبى «المتهافت» فى المحافل الدولية والإقليمية خلال المرحلة المقبلة. * نقلًا عن صحيفة الأهرام