د. محمد فايز فرحات أحد المداخل المهمة لفهم التحولات الكبرى التى يشهدها النظام العالمى هو متابعة ما يجرى فى آسيا، والتى شكلت دائما مسرحا مهما لفهم الاتجاهات والتحولات الكبرى فى السياسات الدولية. أحد الاتجاهات الكبرى التى سادت آسيا خلال عقود الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحالى هو هيمنة مفهوم آسيا الباسيفيك Asia-Pacific، الذى جاء تجسيدا لحالة التكامل الاقتصادى التاريخى والطوعى بين أقاليم شرق، وجنوب شرق، وشمال شرق آسيا، وأمريكا الشمالية واللاتينية. هذا التكامل وصل إلى حد الحديث عن تطور مجتمع الأمن security community فى آسيا الباسيفيك، وهو المجتمع الذى تنتفى فيه احتمالات استخدام العنف كوسيلة لتسوية النزاعات كشرط من شروط حالة التكامل الإقليمى وفقا ل «كارل دويتش». وكما مثل مفهوم آسيا- الباسيفيك تجسيدا لحالة التكامل التاريخى بين مجموعة من الأقاليم المرتبطة ب المحيط الهادئ ، فقد مثل أيضا مدخلا لفهم طبيعة السياسات والظواهر الدولية الرئيسية خلال العقود الثلاثة الماضية، وعلى رأسها تعددية الأطراف، والعولمة الاقتصادية، وحرية تدفق الاستثمار والتجارة، وحرية الملاحة ، وتحييد النزاعات الحدودية والسياسية. وكما قام مفهوم آسيا المحيط الهادئ على فلسفة تجاوز المفاهيم الجغرافية الضيقة، فقد أسس لتطور مفاهيم أخرى مهمة مثل الإقليمية المفتوحة open regionalism التى مثلت خروجا عن الفلسفة الأساسية التى قامت عليها معظم تجارب التكامل الإقليمى قبل انتهاء الحرب الباردة. مفهوم آسيا- المحيط الهادئ بات يواجه تحديا كبيرا مع طرح الإندو- باسيفيك كمفهوم بديل؛ فرغم الاتصال الجغرافى الطبيعى بين المحيطين الهادئ والهندي، لكن لم تعرف أدبيات العلاقات الدولية استخدام هذا المفهوم بالمعنى الجيو سياسى أو الجيو اقتصادي، إلا منذ سنوات قليلة، عندما طرحه رئيس الوزراء اليابانى السابق شينزو آبى فى كلمة له أمام البرلمان الهندى فى أغسطس 2007، فى سياق اقتراحه تشكيل ما سماه قوس الحرية والرخاء، اعتمادا على قوى أربع رئيسية، هى الهند والولايات المتحدةوأسترالياواليابان، واستنادا إلى ما يجمعها من قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأمن وحرية الملاحة البحرية كمصلحة مركزية. وهكذا، ارتبط طرح المفهوم منذ البداية باستبعاد قوة مهمة فى المنطقة وهى الصين. لقد لقى مفهوم الإندو باسيفيك دفعة قوية بعد طرحه من جانب شينزو آبي، حيث راج استخدامه بشكل مكثف من جانب الأكاديميين الهنود واليابانيين والاستراليين. وسرعان ما تم اعتماده من جانب السياسيين. ففى 28 أكتوبر 2010 استخدمت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، هيلارى كلينتون، المفهوم فى سياق تأكيدها أهمية التعاون الأمريكى مع البحرية الهندية كشرط لضمان حرية الملاحة فى المنطقة. ومع وصول إدارة ترامب حدث ما يشبه التحول الكامل من مفهوم آسيا المحيط الهادئ إلى مفهوم الإندو باسيفيك . وتأكد هذا التحول مع طرح كل من اليابانوالهند والولايات المتحدة والآسيان وعدد من دول جنوب شرقى آسيا استراتيجيات محددة تجاه الإندو- باسيفيك، كما تم تضمينه فى الوثائق الرسمية الصادرة عن وزراتى الدفاع والخارجية فى أستراليا. استحداث مفهوم الإندو باسيفيك جاء فى جزء منه استجابة لتحولات مهمة فى موازين القوي، أبرزها محاولة اليابان توسيع نطاق حركتها الخارجية، وصعود الهند، وتزايد حضورها السياسى والاقتصادى داخل الأقاليم الآسيوية. لكن يظل العامل المشترك بين القوى الأربع التى تقف وراء تطوير مفهوم الإندو- باسيفيك هو العمل على احتواء النفوذ الصينى المتزايد، والتداعيات الاستراتيجية للحزام والطريق، خاصة فى الدول المرتبطة بالمحيطين الهادئ والهندي. مفهوم الإندو باسيفيك مازال فى مراحله الأولي، لكن الاتجاه الأغلب أن المفهوم وما ارتبط به من استراتيجيات سوف يثير تفاعلات صراعية مع الصين وضد المبادرات والسياسات الصينية الكبري. من ناحية، هناك احتمالات كبيرة لتطور سباق تسلح، سواء على مستوى ثنائى بين الهندوالصين، أو على مستوى جماعى بين الدول الأربع والصين. من ناحية أخري، فإن مفهوم الإندو باسيفيك يؤسس لامتداد الدور الأمنى الهندى ليشمل منطقة بحر الصينالجنوبي، والتى تقع معظمها - وفقا للرؤية الصينية داخل نطاق السيادة الصينية. ويزداد هذا الاحتمال على خلفية الموقع الجغرافى للهند التى تمتلك ساحلا ضخما على خليج البنغال الذى يرتبط بمضيق ملقا. وقد فتحت الهند مجالا للحضور العسكرى اليابانى فى المنطقة من خلال السماح لها فى عام 2017 بالمشاركة فى التدريبات العسكرية الهنديةالأمريكية المشتركة Exercise Malabar فى خليج البنغال . العامل الأهم يتعلق بتطور العلاقات الأمنية بين الدول الأربع مع تشكيل الحوار الأمنى الرباعي. وكانت فكرة هذا الحوار قد طُرحت فى عام 2007 من جانب شينزو آبي، لكن بسبب ردود الفعل الصينية وتردد الهندوأستراليا انهار هذا الحوار فى عام 2008 قبل أن يُستأنف مرة أخرى فى نوفمبر 2017. ورغم أن الحوار مازال صيغة فضفاضة تواجه العديد من المشكلات، لكن لابد من النظر إليها باعتبارها جزءا من عملية تطور على مدى زمنى أبعد. هذا لا يعنى موت مفهوم آسيا الباسيفيك، لكنه بات وما ارتبط به من ظواهر وقواعد عمل دولية يواجه تحديا كبيرا. جزء من قدرة هذا المفهوم على البقاء ستحددها طريقة تعامل إدارة بايدن معه. نقلا عن صحيفة الأهرام