د. مجدي العفيفي و.. لا أزال في الطابق السادس ب«الأهرام». تطول اللحظة.. تتفتت ألف لحظة ولحظة.. وكل لحظة مثقال سنوات.. تعود إلى أزهى فترات هذا الطابق بل أزهى حقب الثقافة في النصف الثاني من القرن العشرين، فهو أكبر من مجرد طابق، والمبنى الذي يحتويه أكبر من مجرد مبنى، إنه رئة فكرية وصحفية في تعادلية يصعب تحققها بهذا الشكل والمضمون، وبهذا التشكيل والدلالة، إذ إن عمالقة الفكر في مصر والعالم العربي قاطبة، يتجاورون في مكان واحد، ويتجادلون بالأطروحات الراقية، ويتحاورون مع المجتمع والناس، على اختلاف المشارب، وتباين الثقافات، وتميز الأطياف. و.. لا أزال في الطابق السادس ب«الأهرام». الثقافة أسبق من الصحافة ..! هذه العبارة هي شفرة دالة على شفرات الطابق السادس بالأهرام، يعود الفضل الكبير في تشكيلها إلى «الأستاذ» هيكل. الجذر الثقافي متأصل في تربة أستاذنا هيكل، وهو ما يتكشف في أسلوبياته وسردياته واستشهاداته، في لغته الأنيقة، في لهجته الصحفية، في حروفه وقلمه الذي يشبه عصا موسى يهش به على أفكاره لتصطف مقالات، وتصبح عنوانًا لكتلة سردية «بصراحة» للقاء أسبوعي يمكن أن أصفه بمانشيت «قراء ينتظرون» كل يوم جمعة..! كمثل لظاهرة سأذكرها بعد سطور. ولقد صدق ما ورد في كتاب «هيكل يتذكر.. عبدالناصر المثقفون والثقافة» إذ ذكر مؤلفه الكاتب يوسف القعيد (ص19) أن هيكل كان «صاحب تجربة ثقافية وفكرية، قبل الصحافة، وبعدها، من أهم تجارب القرن العشرين في مصر والوطن العربي، أقصد تجربة جعل الأهرام منبرًا فكريًا وثقافيًا يحافظ على الاستقلال، وأن ذلك يمكنه أن يعمل على مسافة من السلطة (....) ذلك أن هيكل خلال هذه الفترة من 1952 حتى 1970 لم يجلس في مكتبه منتظرًا أن يأتي إليه من يأتي، لم يجلس مستفيدًا من سحر اسمه، ومن لمعان اسم الأهرام، ولا من تلاقي الصحفي والصحيفة، ولكنه ذهب إلى المثقفين وسعى إليهم.. لقد حكى لي د. جمال حمدان، كيف ذهب إليه في منزله، بصحبة مصطفى نبيل رئيس تحرير مجلة الهلال السابق، ولأن د. جمال حمدان كان لا يفتح باب شقته لأحد، ترك له رسالة، احتفظ بها جمال حمدان حتى وفاته، وسوف نتوقف قليلا أمام التجربة التي وضعها على رفوف المكتبة. و.. لا أزال في الطابق السادس ب«الأهرام». كثيرة ويانعة هي ثمرات نخيل هذه التجربة التي نجح فيها هيكل نجاحًا باهرًا بقدرته على استقطاب رموز الإبداع والفكر والثقافة في تشكيل لو تعلمون عظيم بالطابق السادس بالأهرام، ويشعر بعظمته ويشهد له، من عاصر ومن شاهد ومن شهد ومن شارك ومن ساهم. ومن هذه الثمرات ثمرة «الكتاب المقالي». هذه النوعية من الكتب التي يطلق عليها في علوم الإعلام «الكتب المقالية» يتخذها معظم المفكرين سبيلًا معرفيًا إلى المتلقى، حيث يجمعون مقالاتهم في كتب، وقد أقاموا صروحهم الفكرية استنادًا إلى هذا التصنيف، وجعلوها وسيلة اتصال مباشر مع جماهير القراء، بما فيها من تعددية تثري الرؤى، وبما فيها من تمايز الأصوات الصادرة عن نفس واحد وروح واحدة. وكم من هذه «الكتب المقالية» خلدت أسماء كبيرة وشهيرة حتى لتعد بأنها كتب غيرت العالم، تحتفظ بها رفوف المكتبة العالمية الآن، ولا تزال تعطي رحيقها الفكري وتنشر حريقها الثقافي، على مر السنين، ليغتني بها الإنسان والزمان والمكان، وفي كل الأحوال؛ سواء أكان تأليف هذا الكتاب أو ذاك وحدة فكرية موضوعية أم جمعًا وانتقاءً لمجموعة من المقالات، فإن المعيار هو المحتوى والمعنى، أو الرؤية والأداة، أو التشكيل والدلالة. و.. لا أزال في الطابق السادس ب«الأهرام». «الخلود قد يُكتَب للمقال أيضًا».. عبارة صارت من أدبيات علوم الإعلام، إذ تعزز حاجة المكتبة المعرفية للكتاب المقالي، وهنا قد تسعفنا الذاكرة العالمية المعاصرة ببعض المعلومات التي يغتني بها السياق، كشواهد تاريخية لا تزال حية في فضاءات الكتاب المقالي، وفقًا لكثير من دوائر المعارف الأجنبية والعربية، إذ تذكرنا بأن «إرفينغ واشنطن» و«إمرسون» و«ثورو» قد حازوا شهرتهم الواسعة بوصفهم كتاب مقالات أساسًا، ويجمع النقاد في بريطانيا على أن مقالات «جورج أورويل» لا رواياته، هي التي منحته لقب «أفضل كاتب إنجليزي في مرحلة ما بين الحربين العالميتين». والكاتب الفرنسي «ميشيل دي مونتين» (1533 - 1592) الذي يعد رائد فن المقال الحديث، قال في مقدمة كتابه المقالي «محاولات»: «إن ذاتي هي موضوع مقالاتي»، ومنذ ذلك اليوم ظلت المقالة ميدانًا رحبًا لذات الكاتب وصار تقليدًا عالميًا.. ويتم استحضار اسم «إميل زولا» (1840 - 1902) في مناسبات كثيرة، ليس بوصفه روائيًا أو مسرحيًا، بل لكونه كاتب المقال الأشهر: «إني اتهم» ونُشر المقال في الصفحة الأولى من صحيفة «لورور» في 13 يناير 1898، وقد أعيد نشره مئات المرات كما ترجم إلى مختلف لغات العالم. وفيه يقدم زولا مداخلته التاريخية المدوية في كشف قضية «دريفوس» الشهيرة التي شغلت فرنسا وقتئذ؛ وكانت قضية صراع اجتماعي وسياسي حدث في نهاية القرن التاسع عشر في عهد الجمهورية الفرنسية الثالثة. و.. لا أزال في الطابق السادس ب«الأهرام». هناك نماذج أكثر من أن تحصى في هذا السياق، منها مثلًا لا حصرًا، المقال الأسبوعي «بصراحة» لمحمد حسنين هيكل في «الأهرام» كل يوم جمعة، التي كان يتم حجزها من قبل جماهير القراء في مصر طوال عشرين عامًا متواصلة، كما أشرت قبل قليل، ومقال «عودة الروح» لتوفيق الحكيم الذي هز مصر سياسيًا في مطلع السبعينيات، ومقال «أهمية أن نتثقف يا ناس» ليوسف إدريس؛ الذي حرك البحيرة المجتمعية الراكدة في بداية عقد الثمانينيات، وكلها وغيرها من المقالات، ينضوي تحت عنوان عريض: «قراء ينتظرون مقالًا» وغير ذلك كثير ومثير..