د. صبحي عسيلة قبل أن يمر عام على إنشاء إسرائيل اعترفت تركيا بإسرائيل فى مارس 1949 لتحفظ مكانها كأول دولة مسلمة تعترف بالدولة الإسرائيلية وتدافع عبر سنوات العلاقة الحميمة بينهما عن حق إسرائيل فى البقاء. لم تقدم تركيا عبر تاريخ للصراع العربى الإسرائيلى للفلسطينيين والعرب سوى الكلمات والتصريحات الرنانة، بينما قدمت وما زالت تقدم كل مساعدة وتعاون مع إسرائيل. سحب السفير التركى من إسرائيل حدث أكثر من مرة دون أن يؤثر على العلاقات بين البلدين، فالعلاقة بينهما أقوى من أن تتأثر بما يقوم به الإسرائيليون تجاه الفلسطينيين، ولكن سحب السفير كان ورقة جاهزة دائما يتم استدعاؤها ذرا للرماد فى العيون وللمزايدة بها على العرب، بينما العلاقات مستمرة وفى ازدهار بين تركيا وإسرائيل. سحب السفير التركى من إسرائيل وطرد السفير الإسرائيلى لعبة يجيدها النظام التركى دون أن تغضب الإسرائيليين أو الأمريكان! طبعا لم يحدث ولن يحدث أن أطلق الجيش التركى رصاصة واحدة دفاعا عن الشعب الفلسطيني. لم يحدث يوما أن هدد أردوغان مثلا بسحب سفيره من الدوحة التى لم تعد علاقاتها بإسرائيل خافية حتى عن العميان. فقط اليوم يهدد بسحب السفير التركى من أبو ظبى اعتراضا على الاتفاق الإمارات ى الإسرائيلي! وكأن الرجل فى عداء مع إسرائيل أو كأنه لا ينام فى فراشها يوميا أو كأن دولته لم تعترف بإسرائيل وبحقها فى البقاء، وكأنه لم يكن عرابا للعلاقات الخليجية الإسرائيلية بترتيبه علاقات لقاءات خليجية بإسرائيل تم بعضها فى تركيا كشف عنها الوزير الإسرائيلى الأسبق سلفان شالوم منذ يومين. بينما الحقيقة أن أردوغان يكره الإمارات فقط لأنها أحد أضلاع مربع مقاطعة حليفته وممولته قطر. السؤال الذى لا يريد أردوغان أن يسمعه الآن هو لماذا لم تهتز إسرائيل يوما لأنه سحب سفيره، ولماذا لن تهتز الإمارات إن سحب سفيره؟ الإجابة باختصار لأن الجميع ليس فقط فى المنطقة بل فى معظم دول العالم يعرفون جيدا أن الرجل بات نموذجا للظاهرة الصوتية، هو حنجرة أكثر من كونه أى شىء آخر، هو لا يملك غير الفنكوش، الذى أهداه لنا الزعيم عادل إمام فى فيلم واحدة بواحدة لنعبر به عن مثل تلك الظواهر الشاذة. متاجرة أردوغان بالقضية الفلسطينية لمقايضتها بمصالح أخرى يبحث عنها بات أمرا معروفا ولا يقلق أحدا كثيرا باعتباره تاجر أزمات يبحث عن ثمن مواقفه، أما أن يسير على دربه رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية السيد محمود عباس فتلك كارثة حقيقية. فعباس هو مهندس اتفاقات أوسلو وهو من قاد مع عرفات التحول التاريخى فى منظمة التحرير الفلسطينية ومنظمة فتح للدخول فى المفاوضات مع إسرائيل عبر مفاوضات سرية ناله ما ناله. بل إن السلطة التى هو رئيسها اليوم هى نتاج منهج السلام الذى اختطه فى العلاقة مع إسرائيل. وهو أيضا الذى اعتلى السلطة الفلسطينية محمولا على رغبة الإسرائيليين والأمريكيين فى البحث عن شريك للسلام بدلا عن الرئيس عرفات. وهو الذى تلقى كل أوجه الدعم من دول الخليج ولم يعترض يوما على العلاقات المتنامية بين بعض تلك الدول وإسرائيل خاصة قطر التى تقيم علاقات بإسرائيل منذ عام 1996 والتى كانت الدولة الخليجية المحببة لزيارات المسئولين الإسرائيليين، والتى لم يغضب منها كونها تدعم وتستضيف من انقلبوا عليه وعلى الفلسطينيين وتقدم لهم دعما شهريا بعلم وتسهيل الإسرائيليين رغما عنه. ولم يحدث أن هدد إيران أو أوقف علاقته بها كونها تحتل أراضى عربية هى الجزر الإمارات ية الثلاث. ومع غياب القدرة على اقتراح البدائل والاستراتيجيات للتعامل مع الأوضاع المستجدة خلال العقد الأخير من عمر القضية الفلسطينية استهوى الرئيس عباس الدخول إلى سوق الفنكوش التركى فقام بسحب سفيره من الإمارات اعتراضا على اتفاقها مع إسرائيل. أو ربما كان عقابا لها لأنها لم تأخذ إذنه بينما تستضيف غريمه اليوم وصديقه سابقا القيادى محمد دحلان!. السؤال الذى لا يريد أن يسمعه عباس الآن هو ما هو تأثير تلك الخطوة ليس على الإمارات بطبيعة الحال ولكن على قضيته هو وشعبه، وماذا سيفعل حين تحذو دول خليجية حذو الإمارات وهو أمر لم يعد مستبعدا على الأقل فى ضوء ما صرح به الرئيس الأمريكى وصهره جاريد كوشنر؟! فإذن من السهل على أردوغان أن ينفض يديه ويصدر للرأى العام فى تركيا والعالم العربى أنه قام بدوره وانتهى الأمر، فليس الأمر كذلك بالنسبة للرئيس عباس المسئول عن القضية حاليا وعن الفلسطينيين باعتباره رئيسا للسلطة ولمنظمة التحرير الممثل الشرعى والوحيد للفلسطينيين. وألم يكن من الأجدى استدعاء محمد دحلان وأقرانه المغضوب عليهم للملمة الصف الفلسطينى بدلا من استدعاء السفير الفلسطينى؟!. المشكلة الحقيقية الآن أن الرئيس عباس بموقفه ذلك ينزاح الآن رويدا رويدا للاصطفاف مع المعسكر الخاسر والمتاجر بالقضية بكل ما يحمله ذلك من تداعيات خطيرة على القضية الفلسطينية كما حدث قبل ثلاثين عاما بقرار تأييد صدام حسين لغزو الكويت فوصلوا بالقضية إلى ما وصلت إليه الآن، فى وقت ليس من المتصور فيه أن يقبل الفلسطينيون إعادة السيناريو وتضييع ثلاثين عاما أخرى، فلم يعد فى بطارية الصبر الفلسطينى الكثير، ولم يعد لدى الفلسطينيين من زعامات قادرة على إعادة شحن تلك البطارية أو ترشيد استخدام ما تبقى فيها، والشعارات التى كانت تصلح لشحن بطاريات الخمسينيات والستينيات لم تعد هى الأخرى صالحة لشحن بطاريات أجيال الألفية الثالثة. فلا السيوف الخشبية المشهرة على منبر آيا صوفيا باسطنبول باتت ترهب أحدا، ولا الوهم أو الفنكوش المعروض فى سوق القضية الفلسطينية قادر على إقناع ولو طفلا فلسطينيا يخطو خطواته الأولى فى عالم السياسة، ولا قادر على هز قناعة دولة الإمارات باعتبارها دولة ذات سيادة تعرف جيدا ما يجب أن تفعله من أجل شعبها فى المقام الأول ولدورها الذى حددته لنفسها فى المنطقة. نقلا عن صحيفة الأهرام