عودة مجلس الشيوخ حدث سياسى فريد يستدعى الاحتفاء به، لأنه لبنة، أو بنية أساسية، ضرورية لا غنى عنها لنظام سياسى مصرى نتطلع إليه بكل شغف. لقد شكَّل غيابه عددا من السنوات تساؤلا، وليس لعودته أى تساؤلات، لأن مصر، التى سوف تسجل فى السنوات العشر المقبلة 200 عام على قيام نظام برلمانى، واستمراره فى العهدين (الملكى والجمهورى), أصبح لها تاريخ وجذور تشكل لمستقبلنا السياسى قيمة مضافة، وتقاليد برلمانية يجب الحفاظ عليها، والعمل على تنميتها، وليس إهدارها، سواء بالأخطاء أو الغياب، وفى تشكيل البرلمانات المختلفة، عبر تاريخنا السياسى، الذى مر بتحولات وثورات (النواب والشيوخ), فلا يعنى ذلك تقليلا من الوزن والقيمة، التى تكونت لمصر عبر تاريخها البرلمانى الكبير، ومن أهمها وجود النظام النيابى أو البرلمانى، وهذا يستدعى التغيير، والتطور، والنمو المستمر، وليس إهالة التراب. قد تكون لنا ملاحظات، وهى كثيرة، على مجلس الشيوخ المقبل، لأن نظام الدوائر الواسعة والكبيرة لا يتيح للناخب فى النظام الفردى التدقيق فى اختيار الشيخ المناسب له، كما أن نظام القوائم الحزبية المعروفة بالقوائم المطلقة هو الآخر لنا عليه ملاحظات كثيرة، لأنه لا يحترم التمثيل المناسب لاختيار الشيوخ، كما أنه يُهدر أصواتا كثيرة تضيع على أصحابها بلا تمثيل، فى حين تستطيع أقلية منظمة وقادرة تحقيق النسبة التى تؤهلها للفوز، كما أن اختيار الشيوخ القادمين دون معرفة دقيقة بطبيعة التخصصات والدوائر التى ترشح, يجعل للمراقبين للنظام السياسى الكثير من الملاحظات على طريقة اختيار 300 شيخ يمثلون الأمة المصرية فى المرحلة المقبلة. ولأن طريقة الاختيار، والسرعة التى تمت بها الانتخابات، وفى أكثر شهور السنة ارتفاعا فى درجات الحرارة (أغسطس)، كما أن الانتخابات جرت فى زمن كورونا، الوباء اللعين الذى منع الكثير من اللقاءات، والتعارف، والمناقشات، وحرارة العملية الانتخابية، وحِدة المنافسة- فإن هذا لا يمنع أن نحتفى بهذا المجلس الجديد، وأن نقول بكل صراحة إننا فى حاجة ملحة إليه، لنستكمل قدرة مصر على التحول السياسى، والقيام بالإصلاحات السياسية، التى تحمى مكاسبها الاقتصادية، وتطورها، ونموها فى مختلف المجالات، وتصبح المهمة الجديدة أمام المجلس المقبل، الذى تجرى انتخاباته الآن، أن يعمل بكل جدية على إثبات وجوده. شيوخنا الأجلاء لم نملك الوقت الكافى للتهنئة والترحيب بكم، لكننا سنملكه لتقييم تجربتكم فى رصد التحولات السياسية، التى نحتاجها منكم، فدستورنا الحالى، الصادر فى عام 2014، وتعديلاته الأخيرة فى 2019، التى أعادت مجلسكم الموقر للحياة, يحتاج إلى تفعيل كل القوانين المكملة له، التى لم تظهر بعد، ولعلنا هنا نشير إلى المحليات وقوانينها، وهى المؤسسة، أو اللبنة الأساسية لممارسة الديمقراطية، وحكم الشعب لنفسه. هناك الكثير من القوانين، التى تجعل مصر دولة حديثة ومدنية كاملة، مازالت تنتظر الصدور، كما أن دستورنا الحالى فيه الكثير من العيوب، التى تحتاج إلى المناقشة، وتفعيل ما تحقق لمصر فى السنوات الماضية، من فصل الدين عن السياسة ، بل تجريم التنظيمات والأحزاب الدينية، وتخليص الحياة السياسية من جماعة الإخوان المتأسلمين، الذين جعلوا من الدين تجارة فى السياسة، فكل ذلك يحتاج إلى تفعيل وتنفيذ على أرض الواقع، حتى لا تستغله الجماعات الانتهازية. تلك مهمة جليلة وعظيمة الشأن لمجلس الشيوخ الجديد، وكذلك هناك نواحٍ عديدة فى الإصلاحات القضائية لسرعة الحسم والتقاضى، وأن تملك مصر مؤسسة قضائية قوية معاصرة قادرة على أن تصل بالحق لأصحابه، وفى أسرع وقت ممكن، كما أننا نحتاج إلى نظام انتخابى مستقر وقوى يتعارف فيه الناخبون على مرشحيهم فى كل الوقت، ولا يكون عُرضة للتغيير فى كل دورة انتخابية، فاستقرار النظام الانتخابى سيعمق التجربة الديمقراطية المصرية، ويدفعها للأمام، وهو الضمانة الحقيقية لاستقرار نظامنا السياسى، وبقاء الدولة قوية، عبر مشاركة أوسع لكل القوى السياسية والاجتماعية، وبناء نظام حزبى تعددى يعزز الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة. مجلس الشيوخ الجديد بيت للخبرة والقدرة، فقد جاء فى مرحلة التطور الاقتصادى والسياسى والاجتماعى لمصر، وفى وقته وزمانه سيتحمل مع مجلس النواب مسئولية بناء نظام سياسى تسير على دعائمه دولة استكملت إصلاحات اقتصادية وتتجه إلى إصلاحات اجتماعية تقلل من الفقر، كما تتجه إلى بناء نظام تعليمى وصحى يكفل وصول الخدمات لأوسع قطاعات الدولة، فدولة تتخلص من الإرهاب والتطرف، وتُنهى غياب القوانين والعشوائيات من حياتها؛ تستحق نظاما سياسيا يحمى كل هذه المكتسبات، بل يدفعها إلى الأمام، ويمنع انهيار أو سقوط الدولة المصرية فى أيدى جماعات الإرهاب والتطرف، أو المنظمات المتأسلمة، كما يمنع التدخلات الخارجية فى الشأن المصرى. إن سقوط الإخوان، وإنهاء ميراثهم السياسى فى الحياة السياسية، يعنى تطورا هائلا فى النظام السياسى، فقد تركت هذه الجماعات إرثا سياسيا قاتلا للحياة السياسية والديمقراطية، وجعل الشارع هشا، وقابلا للرشوة الانتخابية بكل أشكالها المخيفة والمعيبة فى اختيار الكادر أو السياسى الذى يمكن أن يكون معبرا عن الأمة والوطن فى الوقت المناسب. شيوخنا الأجلاء تقدموا الصفوف، وعَبِّروا عن مصر الجديدة التى نتطلع إليها، فقد حققنا الكثير فى الفترة الأخيرة، منذ صدور هذا الدستور، والتخلص من جماعة الإخوان، وهزيمة الإرهاب والتطرف، ووضعنا الاقتصادى يدعو للفخر والاعتزاز، كما أنه يتطور بانتظام بإصلاحات جذرية تدعو للإعجاب، كما أن وضعنا الإقليمى والدولى قد تغير كثيرا، واستطعنا وضع مصر فى مكانها اللائق، الذى تستحقه عن جدارة، إقليميا وعالميا، ووضعْ المتآمرين فى قفص الاتهام، وتلجيم المتدخلين فى الشأن الداخلى لمصر, بل أصبحنا قادرين على التحرك فى كل الأقطار العربية، وأن نكون منتجين كبارا للغاز والطاقة، وأن نحمى مواردنا فى البحرين الأبيض والأحمر، وأن يتطلع إلينا أشقاؤنا بالكثير من الاحترام. مازال أمامنا شوط كبير لزيادة مواردنا المائية، وحماية النيل فى أعالى النهر، بعد التدخلات الأخيرة، التى اعاقت وصول مصر لاتفاق مع دول الحوض، خاصة إثيوبيا، ونعتقد أن مجلس الشيوخ بما يملك من عقول، وقدرات تفاوضية، ورؤية مستقبلية، سيكون قادرا، مع الحكومة والسلطة التنفيذية، على بناء نظام إقليمى عربى وقارى جديد قادر على حماية الحقوق والمكتسبات المصرية. تطلعاتنا لشيوخنا الأجلاء بلا حدود، خاصة أن مجلسكم الجديد قد استقطب أصحاب الرؤى ، والعمق، فى تخليص واقعنا السياسى من موروثات وأخطاء الماضى، التى كَبَّلته كثيرا، وأعاقت دوره، فأنتم لستم نوابا أو شيوخا للخدمات، أو تحقيق المصالح الصغيرة، بل أصحاب الرؤى ، والعمق، والسياسة الطويلة، وأنتم من تستطيعون أن تجعلوا الاستقرار والتطور السياسى مؤسسيا ومستداما، مثلما نتطلع أن يكون النمو اقتصاديا واجتماعيا مستمرا، ومتطورا مع تطلعاتنا المستقبلية، ومكانة مصر فى عالمها. نقلا عن صحيفة الأهرام