أزمة تفشى وباء كورونا ، التى فرضت العزل والحظر على البشر ،وأدت إلى شلل فى حركة المواطنين وتحول الشوارع المزدحمة إلى شوارع مهجورة، منحت الحياة البرية فرصة لالتقاط أنفاسها ، بعد أن أسفرت عمليات الإغلاق والإجراءات الاحترازية عن انخفاض مستوى تلوث الهواء وانبعاثات الكربون مما ساهم فى إنقاذ مالا يقل عن 77000 كائن حى، ولطالما دق خبراء وجمعيات حماية البيئة ناقوس الخطر وتعالت صيحاتهم واحتجاجاتهم مطالبين بضرورة وضع خطة قوية لحماية البيئة،ولكن بعد كورونا أصبح المطلب عالميا حتى تتمكن البيئة من حماية البشرية. وقد أطلق الباحثون مبادرة لتعقب الحياة البرية قبل وأثناء وبعد الإغلاق ،وأعد الفريق الذى تقوده المملكة المتحدة دراسة اسموها «إنسان»،وقد نشرموقع» بى بى سى نيوز» تقريرا حول الدراسة وأهدافها وما توصلت إليه النتائج التى يمكن عبرها أن نتشارك كوكب الأرض المزدحم مع الكائنات الأخرى. وباعتبار أن جائحة كورونا قد تعيد التوازن للطبيعة،فقد أشار كريستيان راتس من جامعة سانت اندروز ورئيس جمعية البيولوجيا الدولية-إلى أن هناك فرصة بحثية قيمة نجمت عن أكثر الظروف مأسوية،وأن المعرفة العلمية المكتسبة خلال الأزمة سوف تمكن من وضع استراتيجيات مبتكرة ،لتقاسم الحيز على هذا الكوكب مع تحقيق فوائد لكل من الحياة البرية والبشر. و تمكن العلماء من دراسة أثر وجود الإنسان ونشاطه على الحيوانات البرية خلال فترة الإغلاق وتم التتبع طوال الوقت من خلال الأجهزة المتطورة ،وتم رصد العديد من الروايات التى عرضتها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى عن الحياة البرية ،التى يبدو انها استفادت من غياب البشر إلى أقصى حد ، حيث تحركت بحرية فى البيئات الحضرية .ولكن فى المقابل هناك أماكن تضررت من نقص النشاط البشرى حيث زاد الصيد غير المشروع بدافع الفقر وغياب السياحة البيئية . وأكدت الدراسة أنه لا ينبغى أن نظل فى حالة إغلاق دائم ،ولكن يمكن إحداث تغيرات بسيطة قد تعود علينا بفوائد كبيرة مثل تعديل شبكات النقل واستعمال الطرق، وقام فريق البحث بمقارنة الاثار المترتبة على كارثة محطة تشيرنوبيل النووية منذ أكثر من 30عاما،على المنطقة المهجورة التى تضررت من التسريب وأصبحت مثالا للتضرر البيئى .وأثبت البحث أن هذه الكارثة وكوفيد19تجبران العالم على ضرورة «الضغط على زر وقف الضرر البيئى الذى حقق خسائر اقتصادية وبشرية باهظة». و أثبتت الإحصائيات التى تم إعدادها من خلال بعض جهات بحثية أخرى،أن تفشى الأمراض تضاعف ثلاث مرات منذ الثمانينيات، وأن أكثر من ثلثى تلك الأمراض نشأ فى الحيوانات، وأن معظمها ينتقل مباشرة من الحيوانات البرية إلى البشر، وأن فقدان التنوع البيولوجى سيؤدى إلى تفشى المزيد من الأوبئة ،حيث تجبر إزالة الغابات تلك الحيوانات الناقلة للأمراض على الاقتراب من البشر، ما يسمح بسلالات جديدة من الأمراض المعدية ، وأنه لم يبق سوى 15 % فقط من غابات العالم التى ما زالت سليمة بعد التدهور البيئى الذى أحدثه الإنسان مثل قطع الأشجار والحرائق، وأن ملايين الأنواع الحيوانية والنباتية تواجه خطر الانقراض بسبب تدمير مواطنها الطبيعية .ووباء كورونا أحدث مثال على أن تدمير البشر لمواطن الكائنات الحية فى الحياة البرية يؤدى لانتشار الأمراض المعدية، فقد أثبتت بعض الأبحاث أن الفيروس يحتمل أن يكون قد نشأ فى خفاش ثم انتقل منه لحيوان آخر، ويعتقد باحثون أن أكثر من 3000 سلالة من الفيروس يمكن أن توجد بالفعل فى الخفافيش وقد تنتقل إلى البشر. وفى بيان لمكتب الأممالمتحدة المعنى بالمخدرات والجريمة ،أكدت الدكتورة غادة والى المدير التنفيذى ، أنه من أجل الحفاظ على التنوع البيولوجى ومنع الطوارئ الصحية ،يجب ايقاف التجارة غير القانونية فى الحياة البرية ،لأنها مأساة تهدد البيئة وجريمة ضد صحة البشرية،والدليل على ذلك السماح بالاتجار فى حيوان البنجول – المتهم بنقل الفيروس للإنسان - وذبحه وبيعه فى الأسواق بطرق غير شرعية حيث يعتبر من أكثر الحيوانات البرية التى يتم الاتجار بها فى العالم ،وقد زادت حجم هذه التجارة غير المشروعة 10 أضعاف منذ عام 2014 . وبالفعل استجابت الصين للمطالبات الدولية، واتخذت السلطات أربعة قرارات مهمة ،فرض حظركامل على تناول الحيوانات البرية ومنتجاتها ،وينطبق الحظر على جميع الحيوانات البرية، المدرجة فى قائمة الحيوانات المحمية من قبل الدولة ،والحيوانات ذات القيمة الاقتصادية أو العلمية المهمة ، وتلك التى تنمو وتتكاثر فى ظروف طبيعية ،وكذلك الحيوانات البرية التى يربيها البشر ،والتى تربيها الدولة لغرض الاستهلاك فى الغذاء ،كما تم حظر صيدها تماما، إلا فى حال القيام بذلك من قبل مؤسسات علمية لأجل إنجاز بحوث ودراسات ،ومنع بيعها سواء فى الأسواق العادية أو عبر الإنترنت واعتبارها تجارة غير مشروعة.وحتى يتوقف المزارعون عن تربية الحيوانات البرية ،قررت السلطات الصينية تعويضهم عن الخسائر ومن المحتمل أن تقوم السلطات بشراء الحيوانات من المزارعين لأجل وقف تربيتها أو تسويقها ،وسوف تقدم حوافزمالية من أجل الانتقال إلى العمل بأنشطة أخرى مثل انتاج الشاى والأعشاب الطبية ،أو تربية الحيوانات التى لاتسبب أمراضا تضر بصحة البشر .وأقدمت الصين على إصدار تلك القرارات بسبب الانتقادات الكثيرة الموجهة إليها بسبب انتشار وباء كوفيد 19، وكانت الصين وفيتنام قد منعتا بيع الحيوانات البرية لأجل الغذاء، إثر تفشى فيروس كورونا، لكن الاتجار فى تلك الكائنات ظل متواصلا، وهى تجارة تقدر بنحو74مليار دولار. وجدير بالذكر ،أن منظمة الصحة العالمية صرحت بأنه وبالرغم من احتمال أن يكون سوق بيع الحيوانات فى مدينة يوهان الصينية، قد لعبت دورا فى ظهور فيروس كورونا وتفشيه فى أنحاء العالم، فإنها لن تقدم توصية بإغلاق مثل هذه الأسواق، وطالبت السلطات المعنية فى كل دولة بالعمل على تنظم بيع اللحوم فى هذه الأسواق وتحسين خدماتها، حتى لا تصبح مركزا لتفشى الأوبئة ،وترى أن تحسين معايير النظافة وسلامة الأغذية فى هذه الأسواق هو الحل الأمثل لمنع انتقال الأمراض من الحيوانات إلى البشر،و يجب على الحكومات فرض حظر صارم على بيع الحيوانات البرية. ومن ذلك يتضح أن وباء كورونا أيقظ العالم إلى عوالم أخرى لم تحظ باهتمام ملموس وفعلى كقضية الحفاظ على الحياة البرية ،ولكن أصحاب القضية أنفسهم عبروا عن ذاتهم وقضيتهم ، بخروجهم واحتلالهم الشوارع التى هجرها الناس ، وتناقلت وسائل الإعلام المختلفة المقروءة والمرئية العالمية ووسائل التواصل الاجتماعى صورا وفيديوهات للحيوانات وهى تتجول بحرية وأمان فى أشهر شوارع العالم . استغل أسد الجبال، الحيوان المفترس، خلاء شوارع عاصمة تشيلى، سانتياجو ليمشى بها دون خوف باحثا عن طعام قبل ان تقبض عليه الشرطة بعد محاولات استمرت أكثر من 3 ساعات . وفى بلدة لاندودنو فى ويلز، استمتع قطيع من الماعز الجبلى البرى بوقته بينما كان القرويون يراقبونه من نوافذ منازلهم . وفى أوكلاند بكاليفورنيا، شوهدت الديوك الرومية البرية فى ساحة مدرسة وهو ماحدث ايضا داخل حرم جامعة هارفارد الشهيرة فى بوسطنالولاياتالمتحدة وكأنها تسعى لتلقى العلم بدلا من الطلاب المعزولين بمنازلهم ، كما تجول البط فى شوارع باريس تاركا ضفاف نهر السين . وعاد حيوان الكوالا للتجول بحرية فى غابات أستراليا ،وجابت الشوارع الإيطالية الأغنام و الخنازير والأحصنة ،وفى اسبانيا سار الطاووس مزهوا فى طرقاتها الخاوية ، وظهرت الذئاب فى شوارع سان فرانسيسكو ،وعلى شواطئ البرازيل شوهدت مئات السلاحف البحرية ،وحتى المياه عادت لها طبيعتها البرية فملأت الحيتان ممرات الشحن فى موانى البحر المتوسط.فلقد اتاح فيروس كورونا الفرصة للحيوانات البرية الفرصة لتستعيد طبيعتها وتعيش وتتجول دون خوف أو ازعاج من البشر. كما استعادت الحياة البرية وجودها فى متنزهات وحدائق أمريكا ،بعد أن منع دخول الزائرين ، فتجولت ظباء البرونجورن فى وادى الموت، و تضاعف عدد الدببة السوداء أربع مرات فى منتزه يوسمايت،وللحفاظ على هذه الحيوانات بعد إعادة فتح المتنزهات اقترح المسئولون الحد من عدد الزائرين يوميا ،ونقل هذه الحيوانات إلى أماكن آمنة بعيدة عن تطفل الزوار. ولقد تطوع فريق من الشباب لمعاونة حراس وموظفى حديقة بارادايس بارك الأمريكية فى تغذية وتنظيف الحديقة والبقاء بقرب الحيوانات وأكدوا أنهم أفضل حالا معها، فى ظل الشعور بالعزلة بسبب التباعد الاجتماعى، وتضم بارادايس بارك حاليا أقل من 1200 من الطيور والثدييات الفردية، وتتميز بوجود الباندا الحمراء. ولكن على الجانب الآخر ،حذرالعلماء من مخاوف زيادة الصيد غير المشروع ، ففى كمبوديا قتل ثلاثة من طيور أبو منجل العملاقة المهددة بالانقراض فى أوائل أبريل ، وتم قتل 6 من وحيد القرن الأسود فى بوتسوانا فى مارس الماضى ،وأن الطلب على لحوم الحيوانات البرية سيرتفع إذا لم يكن هناك من يراقب الأنشطة داخل المحميات الإفريقية .وفى كولومبيا ارتفع عدد القطط الكبيرة التى تم صيدها وتم قتل نمرين . ممايجعل هناك ضرورة لتغليظ عقوبات الصيد والتعدى الجائر على الحياة البرية سواء بصيد الحيوانات وذبحها ، أو إزالة الغابات والتعمد بحرقها ،حتى نحمى صحة البشر من جراء تدمير الحياة البرية وإعادة التوازن البيولوجى للطبيعة والبيئة المحيطة بنا والتى نعيش فيها . نقلا عن صحيفة الأهرام