د. طه عبدالعليم بعد جائحة كورونا تأكدت مجددا حتمية الارتقاء بتصنيع مصر، وفرضت نفسها على برامج تعميق التصنيع أسبقية إنتاج الأدوية للعلاج ومستلزمات الوقاية الصحية , وتزايد إدراك أهمية الاعتماد على الذات فى التصنيع لمضاعفة الاستثمار الصناعى ، وتأكدت ضرورة الارتقاء بالقدرة الوطنية فى مجالات البحث و تطوير الصناعة . وظهرت إشكاليات جديدة فى المفاضلة بين إستراتيجية التصنيع لإحلال الواردات والتصنيع بغرض التصدير، واشتدت أزمة العولمة المرتكزة الى الاندماج فى سلاسل انتاج القيمة فيما يسمى بالمصنع العالمى، وأكتفى هنا بإيجاز تقرير مهم لمنظمة الأممالمتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، والتنويه الى ما تضمنه التقرير الأحدث للبنك الدولى عن التنمية فى العالم. وأسجل، أولا، تأكيد أونكتاد أن ضمان أمن الصحة العامة الوطنية يستوجب تعزيز القدرة التصنيعية للدول النامية، وأن هذه الأسبقية تجلت بوضوح فى نقص كمامات الوجه والقفازات وبدلات العاملين الصحيين فى إفريقيا، وهى مواد بسيطة التصنيع بشكل عام، ومع ذلك كان يتعين شحنها فى كثير من الأحيان من على بعد آلاف الأميال.ووفقا للأونكتاد، فإن 40 فى المائة من السوق العالمية لمعدات الوقاية الشخصية يتم توريده من قبل مصنعين فى ثلاث دول فقط، و35 فى المائة من المنتجات الطبية المتاحة عالميا تباع فى ثلاث دول فقط، وتعتمد صناعة المستحضرات الصيدلانية العالمية اعتمادا مفرطا على موردين فى عدد محدود جدا من الدول، وان ما لا يقل عن 47 دولة وضعت قيودا على صادرات المنتجات اللازمة ل مكافحة وباء كورونا . وثانيا، أن أونكتاد قد خلصت الى أن الاستجابة الدولية لجائحة كوفيد- 19 تفتقر إلى حد كبير إلى إستراتيجية شاملة بشأن كيفية ضمان الصلة المفقودة بين البحث والتطوير، من جهة، والتوزيع، من جهة أخرى، أى التصنيع على نطاق واسع.وفى هذا السياق، حثت المنظمة على تعزيز القدرة الإنتاجية المحلية فى الدول النامية لضمان الأمن الصحى القومى والأمن الصحى العالمى، إضافة الى دور هذه القدرة الإنتاجية فى امتلاك الخبرة الفنية وتوفير فرص العمل وتسريع التحول الهيكلى والنمو الاقتصادى.وتشدد الأونكتاد على أنه ليس هناك وقت، وعلينا أن نتصرف على وجه السرعة،لأن إنتاج اللقاحات، على سبيل المثال، فى جميع أنحاء العالم لن يكون كافيا لتلبية الطلب الهائل. وثالثا، أن أونكتاد تسلم بأن تعزيز تصنيع المستحضرات الصيدلانية فى معظم الدول المنخفضة الدخل وبعض الدول المتوسطة الدخل يواجه اختناقات رئيسة، أهمها: نقص رأس المال والتقنية والدراية الفنية والمهارات، تلبية المتطلبات المتعلقة بسلامة الأدوية وجودتها وفعاليتها، وافتقار السلطات التنظيمية للقدرة على التحقق من التزام الشركات بمعايير الجودة والممارسات التصنيعية الجيدة، وتثبيط الاستثمار الأجنبى بالقواعد غير المواتية المتعلقة بالاستثمار والملكية الفكرية وتنظيم العقاقير،والتعريفات والضرائب المفروضة على المكونات اللازمة للإنتاج المحلى تجعل التصنيع المحلى أقل جاذبية، وضعف القدرة الشرائية المحلية التى تقيد اجتذاب الاستثمار لغياب مزايا وفورات الحجم، وصعوبة الوصول إلى المريض فى الدول المنخفضة الدخل ذات البنية التحتية الضعيفة. ورابعا، أن أونكتاد تشدد على ضرورة إنشاء نظام للمشاريع الصحية الوطنية،وللتغلب على المعوقات السابقة تقترح،الاستثمار فى تنمية المهارات لضمان الإنتاج المتوافق مع الجودة والممارسات التصنيعية الجيدة، وتنفيذ برامج لنقل المعرفة الفنية ذات الصلة بكوفيد- 19 لضمان الاستفادة السريعة من جودة الإنتاج الواسع بأسعار معقولة، وتمويل الحكومة للبحوث ذات الصلة بمكافحة فيروس كورونا.وتؤكد المنظمة أن المشاريع القصيرة الأجل الناجحة المتعلقة بالتقنيات البسيطة- ولا سيما فى إنتاج مجموعات الاختبار ومعدات الوقاية الشخصية وأجهزة التنفس الصناعي- يمكن أن تكون قدوة حسنة لاجتذاب الاستثمار اللاحق فى مشاريع أكثر طموحا مثل إنتاج العلاجات والتشخيص، واللقاحات قدر الإمكان. كما ينبغى تحسين حوافز الاستثمار، كالحوافز المالية أو الضريبية للشركات المحلية-الوطنية والأجنبية-المصنعة لمنتجات ذات صلة بمكافحة كوفيد 19، وشراء الأدوية، التى يمكن تصميمها فى سياق الصناعة الناشئة بأسعار تفضيلية،وربما بالتزامات شراء مسبقة من المنتج المحلى.، واستخدام أنظمة مبسطة لتيسير الاستثمار والتسجيل والتسويق، والاستثمار فى البنية التحتية اللازمة لإنشاء المشاريع الإنتاجية المحلية، مثل الكهرباء. وخامسا، أن أونكتاد تبرز بين مجالات التعاون الدولى دعوتها للدول الصناعية المتقدمة الى اعتبار البحوث منفعة عامة عالمية ينبغى التنازل عن حقوق الملكية الفكرية المتعلقة بها، وإتاحة الموارد المالية الهائلة التى تستثمرها بهذا المجال لمساعدة منتجى المعدات الطبية والمستحضرات الصيدلانية فى الدول المنخفضة الدخل، ومساعدة فقراء العالم على الحصول على العلاجات واللقاحات الأساسية لكوفيد- 19 بمجرد توافرها. وتبرز أونكتاد الفرص التى يتيحها التعاون الإقليمى لخفض التكاليف والشراء الجماعى، والاستفادة من مزايا إنشاء سلاسل قيمة إقليمية لإنتاج الإمدادات الطبية والأدوية. والاستفادة من فرص المساعدات الإنمائية الرسمية تعزيزا لأمن الصحة العامة على الصعيد العالمى، وضمان استدامة التصنيع على الرغم من وجود سوق لا يمكن التنبؤ بها فيما يتعلق بوباء مثل كوفيد- 19، لا يمكن معرفة متى ينتهى تهديده. وأخيرا، فإن تقرير البنك الدولى عن التنمية فى العالم 2020 (التجارة من أجل التنمية فى عصر سلاسل القيمة العالمية) اثار من حيث لا يقصد- شكوكا بشأن فرص إحراز إستراتيجية التصنيع للتصدير ذات النجاحات التى حققتها فى تسعينيات القرن الماضى، وهو ما يبرر ما طرحته قبل عقود، فإن إستراتيجية التصنيع بإحلال الواردات المصنعة بمنتجات صناعة وطنية قادرة على المنافسة فى السوقين العالمية والمحلية هى الإستراتيجية التى أرى أن تتبعها مصر، خاصة بما تملكه من قدرات بشرية ومعرفية وفنية وتسويقية، وما أضافه من قوة دفع هائلة للتصنيع وتنفيذ المشروعات القومية الكبرى للبنية التحتية فى مجالات الطاقة والنقل وغيرها فى عهد الرئيس السيسى عقب انتصار ثورة 30 يونيو/ 3 يوليو. وفى حسم إستراتيجية التصنيع ينبغى على مصر أن تدرك أيضا القيود الجديدة على فرص الاندماج فى سلاسل القيمة العالمية مع تراجع وتقييد التجارة الدولية قبل جائحة كورونا ، وهو ما يستحق تناولا لاحقا. نقلا عن صحيفة الأهرام