د. محمد السعيد إدريس على الرغم من الإدراك الإسرائيلي لمحورية وإستراتيجية الارتباط بالولاياتالمتحدةالأمريكية باعتباره «ارتباطاً وجودياً» أى يؤمِّن الوجود والبقاء لكيان دولة الاحتلال الإسرائيلى، إلا أن الفكر الاستراتيجى الإسرائيلى اضطر لاستشعار الخطر والتحسب له بخصوص هذه العلاقة الارتباطية خشية حدوث أى تغير فى هذه العلاقة. دوافع هذا التحسب والتخوف من حدوث أى تغير أو تحول فى هذه العلاقة الارتباطية أخذت تتراكم فى السنوات الأخيرة فى ظل بروز اختلافات فى الرؤى بين تل أبيب وواشنطن حول قضايا وأزمات شرق أوسطية، وفى ظل إدراك الإسرائيليين، مثل غيرهم، لوجود «معالم أفول» للقوة الأمريكية المهيمنة عالمياً وظهور قوى عالمية أخرى باتت قادرة على مناطحة ومنافسة الولاياتالمتحدة على الزعامة العالمية مما حفزهم على طرح السؤال الصعب: هل يمكن أن يحدث تغير فى علاقة الارتباط الإسرائيلية- الأمريكية؟ وهل تستطيع إسرائيل أن تعيش دون الحماية الأمريكية؟ وهل أمام إسرائيل بدائل لتجنب حدوث أى تغير أو تحول فى الارتباط الإسرائيلى بالولاياتالمتحدة؟ هذه الأسئلة الصعبة أعاد الجنرال فى الاحتياط عاموس يادلين رئيس معهد دراسات الأمن القومى، طرحها منذ أشهر قليلة مضت أمام مؤتمر هرتسيليا الشهير بعرض «مؤشرات خطر جديدة» تؤثر، من وجهة نظره، سلبياً في مستقبل العلاقة مع الولاياتالمتحدة. فقد طرح يادلين خطرين جديدين يؤثران سلبياً على هذه العلاقة. الخطر الأول هو احتمال أن تشهد الولاياتالمتحدة، فى السنوات القليلة المقبلة، حدوث حركات احتجاج شعبية ذات جذور مغالية فى النزعة القومية والاتجاهات اليمينية المتطرفة والشعبوية على نحو ما تشهده القارة الأوروبية حالياً، ما يمكن أن يؤدى إلى احتمال ظهور أحزاب أمريكية جديدة أكثر شعبية تتوارى معها، إن لم تسقط كلية، الأحزاب الأساسية الحالية ذات الارتباط التاريخي والاستراتيجي بإسرائيل وبالتحديد الحزبان الجمهورى والديمقراطى. عندها لن تكون لإسرائيل الحظوة التى تتمتع بها حالياً مع الحزبين الحاكمين: الجمهورى والديمقراطى، وعندها سيكون الحديث عن علاقة ارتباط وجودى بين إسرائيل والولاياتالمتحدة نوعا من أطلال الماضى. أما الخطر الثانى، فهو الحرج المتنامى فى العلاقة الإسرائيلية الأمريكية بسبب التوجه الإسرائيلي لنسج «علاقات مصالح» اقتصادية مع الصين، حرصاً على عدم تفويت الفرصة لتأسيس علاقات قوية مع الصين كقوة عظمى صاعدة، إن لم تكن من أجل الاحتماء بها ضد أعدائها فيكون من أجل تفويت الفرصة على أعدائها الإقليميين للتحالف استراتيجياً مع الصين. عاموس يادلين أشار إلى وجود تحفظات، ترقى إلى درجة الرفض، من جانب الولاياتالمتحدة ضد هذه العلاقة الإسرائيلية مع الصين ، وأشار إلى الرفض الأمريكى لإعطاء إسرائيل توكيلاً للصين لإدارة أحد أرصفة ميناء حيفا البحرى خشية أن يؤثر الوجود الصينى فى ميناء حيفا على أمن القاعدة العسكرية الأمريكية القريبة من هذا الميناء، كما أشار إلى التحفظ الأمريكى على تنامى الاستثمارات الصينية فى إسرائيل وخاصة مشروع بناء الصين لمحطة تحلية المياه المسماة ب «شورك-2» الكبرى من نوعها فى العالم الذى تستعد الصين لإقامتها فى إسرائيل بتكلفة أكثر من 5 مليارات شيكل (1.5 مليار دولار) وستكون قادرة على إنتاج 200 مليون قدم مكعب من المياه المحلاة سنوياً. تحذيرات عاموس يادلين وغيره من المفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين تجد أصداءها الآن فى ظل حدثين مهمين هزا بعنف القناعات الإسرائيلية حول «علاقة الارتباط الأبدية بين إسرائيل والولاياتالمتحدة». الحدث الأول هو النظرة الأحادية الأمريكية المفرطة فى أنانيتها فى إدارة ملف «جائحة فيروس كورونا»، فلأول مرة تجد إسرائيل نفسها وحيدة أمام أزمة خطيرة دون وجود الظهير أو الحليف الأمريكى، واضطرت إلى طلب المساعدة من أطراف أخرى. هذا الحدث كان بمثابة جرس إنذار للإسرائيليين يقول «احذروا أمريكا لن تدوم لكم». أما الحدث الثانى فهو تفجر الاحتجاجات الشعبية داخل معظم الولايات والمدن الأمريكية الكبرى جراء عملية الاغتيال البشعة للمواطن الأمريكى (أسود البشرة) جورج فلويد فى مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا (25 مايو الفائت) فقد هز هذا الحراك بعنف، ومازال، مكانة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، لسوء إدارته هذه الأزمة واستعانته بقوات «الحرس الوطنى» العسكرية لإخماد التظاهرات وتهديده المتظاهرين بالاستعانة بالجيش. لم يؤد هذا الحراك وتداعياته، التى مازالت فى طور التفاعل فقط، إلى تهديد فرص الرئيس ترامب فى الانتخابات الرئاسية المقبلة (3 نوفمبر 2020) لصالح منافسه الديمقراطى جون بايدن الذي انحاز وحزبه إلى هذا الحراك، بل أدى أيضاً إلى انفضاض رجال الرئيس من حوله وتبرئهم من تصرفاته الرعناء خاصة وزير الدفاع مارك أسبر ورئيس الأركان الجنرال مارك ميلي ورفضهما أي أمر من الرئيس لإقحام الجيش فى التصدى لهذا الحراك الشعبى. أمريكا من المحتمل أن تواجه قريباً أفول عصرها، ودونالد ترامب بات مؤكداً سقوطه فى الانتخابات المقبلة، وفقاً لتقدم بايدن المتصاعد فى استطلاعات الرأى فماذا عسى إسرائيل أن تفعل؟ انكشاف الغطاء، ربما يكون هذا هو أفضل توصيف للعهد الجديد الذى سيواجه إسرائيل فى سنواتها المقبلة، وسيفرض عليها أن تجيب: كيف يمكنها أن تعيش دون الحماية الأمريكية؟ عبر مارتن إنديك صديق إسرائيل الحميم وسفير الولاياتالمتحدة الأسبق فى تل أبيب بقوله لراديو الجيش الإسرائيلى الخميس الفائت عندما سئل عما إذا كان نيتانياهو جاداً بشأن خطته لضم الكتل الاستيطانية بالضفة الغربية إلى السيادة الإسرائيلية قال أنه «يعتقد أن ذلك ( ضم المستوطنات ) يحظى بدعم أمريكي»، وأضاف أن «نيتانياهو مدعوم من رئيس أمريكي لن يكون هنا (فى واشنطن) قريباً». نبوءات إنديك أكدها فرانكلين فوير فى مجلة «اتلانتك» بقوله «أن نظام ترامب بدأ بالانهيار»، وأنه «انغمس خلال فترة رئاسته فى غرائزه الاستبدادية، وهو الآن يقابل المصير نفسه للمستبدين الذين ينقلب شعبهم ضدهم». حقائق باتت تفرض نفسها كواقع من الصعب على إسرائيل الهروب منه، ومن الصعب عليها أن تتهرب من دفع أثمانه. نقلا عن صحيفة الأهرام