د. سليمان عبدالمنعم ثمة حديثٌ يتصاعد عن مسئولية قانونية محتملة للصين عن انتشار فيروس كورونا المستجد. منذ أيام قدّم تسعة أعضاء فى مجلس الشيوخ الأمريكى مشروع قانون يفوّض الرئيس الأمريكى فى مساءلة الصين حال عدم تعاونها فى التحقيقات، وتقديمها تقريرا كاملاً لكشف أسباب وملابسات انتشار الفيروس. أخطر ما فى هذا القانون (حال صدوره) أنه يجيز تجميد أصول صينية، ويحظر الاكتتاب فى الشركات الصينية ، أو إدراجها فى البورصة الأمريكية. قد نصبح أمام تشريع جديد آخر من سلسلة تشريعات أمريكية عابرة للحدود تؤذن بعصر Paxa Americana الذى يشبه التشريعات الرومانية القديمة فى عصر Paxa Romana. والغريب أن ما قدمته أمريكا للعالم من نموذج دولة الحلم والقوة الناعمة كان أكبر فى تأثيره من هذه الحقبة الترامبية الهابطة التى بسببها يتراجع النموذج الأمريكى فى العالم كله. بدأت هذه التشريعات ب قانون JASTA ACT فى 2016 برغم استخدام الرئيس الأمريكى السابق أوباما حق الفيتو ضد صدوره دون جدوى، ويكمن هدفه فى ابتزاز السعودية بسبب تفجيرات 11 سبتمبر الإرهابية، وكذلك قانون Magnitsky Act الصادر فى 2012، وكان يستهدف بالأساس مساءلة بعض الشخصيات الروسية المسؤولة عن قتل المحاسب الروسى الذى كشف بعض وقائع الفساد الكبرى لكن القانون يختزن قوة مضمرة تجيز تعميمه على حالات أخرى فى أى مكان بالعالم. فى الاتهام الموجه إلى الصين يختلط بشدة ما هو قانونى وسياسى وعلمى، بل إن مناقشة المسئولية القانونية للصين لا يمكن أن تتم بمعزل عن استحضار جوانبها السياسية والعلمية لا سيّما فى موضوع بالغ الغموض والتعقيد مثل الفيروس التاجى . وابتداء فالتفرقة واجبة بين مسئولية الصين عن (انتشار) الفيروس التاجى وبين مساءلتها عن (نشر) هذا الفيروس. فانتشار الفيروس شيء ونشره شيء آخر، وهو يكاد يشبه فى الإنجليزية والفرنسية الفارق بين كلمتى expansion/ dissemination. بالطبع يجوز نظرياً الحديث عن دور الصين فى (انتشار) فيروس كورونا، والصين نفسها لا تنكر ذلك لأن الفيروس ظهر بالفعل على أرضها لأول مرة ثم انتشر بفعل حركة انتقال البشر من دولة إلى أخرى. ولهذا فإن الدول الخمس الأكثر إصابة بالفيروس يوجد بها أكبرخمسة مطارات (وربما موانى بحرية) فى العالم وهى نيويورك، وروما، وفرانكفورت، وهيثرو، ومدريد التى تمثل جهات الوصول والعبور الأشد كثافة كنقاط تواصل بين أركان الكرة الأرضية. أما (نشر) الفيروس فأمر يتطلب فعلاً غائياً ومقصوداً من جانب الصين، وهو ما لم يثبت ولم يقل به أحد سوى الرئيس الأمريكى ترامب فى تصريحاته الأولى المتخبطة. يتعين استجلاء الأبعاد السياسية فى القول بمسئولية الصين عن نشر الفيروس التاجى ، ليس من باب إقحامها ولكن لأنها بالفعل حاضرة وبقوة فى قلب مشهد الجدل الدائر.ثمة وقائع يصعب تجاهلها تشوّش عملية البحث عن الحقيقة عموماً والمسئولية القانونية المحتملة للصين على وجه الخصوص. هناك أولاً موسم الانتخابات الأمريكية حيث يحاول الرئيس الأمريكى من خلال اتهام الصين خلق حالة احتشاد حوله، وتشتيت الانتباه عن حقيقة استخفافه بفيروس كورونا والتهوين من خطورته فى بداية الأمر.ثم ما تبع ذلك من اجتهاداته المضحكة حول كيفية التعامل مع فيروس كورونا. والعجيب أنه لم يكن مضطراً إلى ذلك، لكن تلك هى شخصية الرجل الذى لا بد وأن معجزة تكمن وراء استمرار فترة رئاسته برغم أخطائه الجسيمة وتصريحاته الغرائبية التى يصر عليها، وقد أصبحت مصدرا للتسلية والمرح بأكثر من كونها تصريحات لرئيس دولة عظمى ولشعب خلّاق ومبدع. يدرك ترامب أن فرصة إعادة انتخابه تتضاءل إلى حد كبير برغم حالة الثقة التى يحاول أن يبدو عليها فى اصطناع ظاهر. فعدد الوفيات فى الولاياتالمتحدةالأمريكية يبلغ لحظة كتابة هذه السطور 85 ألف حالة وفاة، وعدد الإصابات يناهز المليون ونصف المليون إصابة، هذا يعنى أن فى أمريكا وحدها نحو ثلث عدد الوفيات، وثلث عدد الإصابات فى العالم تقريباً. نجاح مسعى ترامب فى اتهام الصين واعتبارها سبب ما حلّ بأمريكا من أضرار يعطى له قبلة الحياة ويحيى أمله فى إعادة انتخابه رئيساً فى نوفمبر المقبل. ليس معروفاً الآن بوضوح هل الرئيس ترامب وحده هو الذى يتبنى الاتهامات الموجهة إلى الصين أم أن آخرين يشاطرونه الرؤية نفسها؟ لا أحد يتحمس خارج أمريكا فى اتهام الصين باستثناء تصريحين عابرين للمستشارة الألمانية ميركل والرئيس الفرنسى ماكرون عن الحاجة لتوضيحات من الصين. أما بالنسبة لأمريكا فما هو مفترض إنها دولة مؤسسات، ولهذا ربما يتعين الانتظار حتى يتبلور موقف مؤسسات صناعة الرأى والقرار فيها. وباستثناء وزارة الخارجية التى فقدت منذ مجيء الوزير بومبيو جزءاً من تأثيرها فى ضبط حركة انفلات ترامب فإن دور الكونجرس ما زال (حتى اللحظة) غير واضح وقاطع، والأعضاء التسعة الذين قدموا مشروع قانون لمحاسبة الصين هم بالأساس أعضاء فى الحزب الجمهورى من الموالين لترامب على طول الخط، خصوصاً فى هذه الشهورالحاسمة قبل انتخابات الرئاسة، ولا يمثلون بالتالى كل التركيبة السياسية فى الكونجرس. باقى المؤسسات والقوى لا يبدو أنها تساير الرئيس فى مطلق مزاعمه باتهام الصين. ليس معروفاً بعد موقف وكالة الاستخبارات الأمريكية، أوالإعلام الأمريكى، والمؤسسات العلمية والطبية الحكومية. بل إن تصريحات وآراء أنتونى فاوتشى مدير المعهد الوطنى للأمراض المعدية بأمريكا وأحد أبرز أعضاء الفريق العلمى للبيت الأبيض تكاد تحمل تكذيباً مستتراً لمعظم أقوال ترامب. على أى حال، وبصرف النظر عن دور الحسابات الانتخابية لدى الرئيس ترامب فى موقفه من الصين، فإنه لا يمكن إنكار أن هناك واقعاً جديداً يتبلور فى أمريكا يعكس حالة الحرب الباردة بين الدولتين والتى بدأت إرهاصاتها منذ نحو عامين تقريباً. لم يعد خافياً أن الصين تتقدم بخطى مدروسة وواثقة وواسعة لتزاحم أمريكا فى ريادتها العالمية التى تكرسّت عقب الحرب العالمية الثانية. فى لعبة الأمم التى لا تتوقف فصولها عبر التاريخ لا أحد عاقلاً يتوقع أن تظل أمريكا بلا حراك ترقب وقع أقدام التنين الصينى وهى تتقدم فى كل مكان بالعالم حتى داخل بعض دول حلف الأطلنطى. من كان يصدق أن تثير الصين ذات الإرث التحررى الشيوعى قلق وغيرة أمريكا وهى تتجه صوب إسرائيل بمشروعات بنية تحتية استراتيجية؟! الصراع التجارى بين الصينوأمريكا ليس سوى السطح الظاهر لصراع أبعد وأعمق. وكمعظم الصراعات العالمية فإنها تكون قد ولدت فى الواقع قبل أن تعلن عن نفسها وتكتسب تسميتها. وليست الاتهامات الموجهة إلى الصين عن مسئوليتها بشأن الفيروس التاجى سوى ورقة فى ملف هذا الصراع. نقلا عن صحيفة الأهرام