( آآآآآلوه).. جاءه صوت صاحبه، على غير عادته، واهنا خافتا مهزوما، كأنما الصوت صوت غريق موشك على الهلاك. مالك يا عمّ كفى الله الشر؟.. هكذا سأل هو بنبرة لا تقل وَهنَا عن وهن صديقه فردّ الصديق: أبدا.. مخضوض وتائه ومخنوق وأكاد أجنّ.. مرمطتنى الحبسة بالبيت فأصبحت لا أساوى (خمسة أبيض). رغما عنه ضحك حتى بانت نواجذه ثم همس: واللهِ ومَن سمعك.. إلا أن الفرق أن محدّثك بات لا يساوى (تلاتة أبيض) وليس خمسة!. تغيّر المزاج بينهما قليلا وارتفع الصوت فكان مسموعا. قال هو: يا أخى لقد تبين لى أننا، فى ميزان الكون، لا نزيد على قيمة بصلة إلا أننا نكابر. صحيح ما نحن إلّا لسان. هل تعتقد يا عزيزى أننا، أنا وأنت، وحدنا اللذان نعانى هذا الإحساس بالعدمية واليأس وقلة القيمة أم أن هناك من يشعر بذلك معنا؟ صاح الصاحب: إن نصف سكان المعمورة بهم ما بنا والبقية فى الطريق. لكن.. ما تفسيرك لما نحن فيه؟.. أهذه هى المرة الأولى التى تصيبنا فيها جائحة؟.. أليس الإنسان دائما مصابا ومبتليً فى صحته وعافيته؟. حملق هو فى شاشة الموبايل، حيث كانت تتواتر أمام عينيه كالوميض أرقام مرعبة لأعداد المصابين والراحلين بفعل الفيروس فى البلدان جميعا، ثم هز رأسه ودمدم محزونا: نعم لسنا وحدنا. أنت تسألنى عن التفسير فإليك رأيي: نحن يا باشا مغرورون وخدعنا تقدمنا العلمى والتكنولوجى (الهزيل!) فأنسانا حقيقة أنفسنا. لقد تصورنا أننا سادة الكون ومالكو زمامه فإذا بهذا الكائن الهلامى اللامرئى يزورنا ليعيدنا إلى جادة الصواب.. ولا أحسبنا سنتعلم الدرس. إننى أعتقد، وهذا مجرد اجتهاد من عند نفسي، أن الأرض قد ضجّت من كثرة الدماء والجرائم والمجازر ودعاء المظلومين الزاعقين ألما ورعبا فى قلب الليالى فهرول الفيروس ليوقف الظالمين عند حدهم ويعلمهم الأدب.. فما رأيك أنت؟. تردد الصاحب فبدا غير مقتنع وهمس: يا حبيبي.. أنت تعرفني.. أنا لا أميل إلى تلك التفسيرات الفلسفية الإنشائية المسرفة فى غيبيتها.. ومن ثم فرأيى أن الأمر لا علاقة له لا بظلم ولا بدماء (فالأرض تعشق الدماء !).. ما أراه هو أن ما يحيق بنا الآن إن هو إلّا أمر عادي، وسُنّة من سنن الكون، ويحدث للبشرية من حين إلى حين كى تتخلص من ضعفائها ليبقى الأصحاء القادرون على عمارة الأرض التى لا يمكن أن يعمرها هؤلاء الضعفاء الذين لا قيمة لهم ولا جدوي. وطبعا سيادتك سوف تتهمنى بقسوة القلب، وجمود العاطفة، وانعدام الضمير.. لكن هذا هو تصورى الذى أؤمن به ورزقى ورزقك على الله. فوجيء الصاحب بأن صاحبه لم يعترض أو ينتقده أو يقسو عليه بل قال: هذا صحيح.. أنا معك.. فالقاعدة الذهبية مُذ خلق الله الأرض ومن عليها أن البقاء للأصلح.. وإلا ما رأينا الكوارث الطبيعية والأعاصير والأوبئة.. وبالتأكيد فإن لله تعالى حكمة فى ذلك لا يدركها إلا هو.. ومع ذلك يبقى سؤال هو الأهم: إلى متى ترانا سوف نستمر فى هذا العزل الاختيارى نتكبد كل تلك الآلام؟.. هل شهر.. شهران.. سنة.. أم كم بالضبط؟ أجاب الصاحب على الفور: إلى أن يحدث التوازن. اسمع.. إن لى حسبة حسبتها مع نفسى بالأمس؛ وهى أن كثيرا من القواعد الحاكمة لحركة الكون بدأت فى الاختلال بسبب غباء الإنسان وجشعه وفساده.. وآن الأوان لإيقاف ذاك الجموح. تحير هو حيث لم يفهم.. فقال الصاحب: خذ عندك موضوع البيئة.. ألم تسمع عن أن ثقب الأوزون بدأ ينكمش بعد توقف انبعاثات المصانع التى تحرق المناخ حرقا؟ ألم يأتك نبأ ضياع ثروات الآلاف من الأثرياء الذين غمروا الأرض استهلاكا غير ضرورى وجعلونا، نحن الغلابة ولاد الغلابة، نكاد نشحذ الملح؟.. ألم ترَ إلى الماشية والقرود والأسود والغزلان عادت لتملأ الطرقات والحدائق فى أكثر البلدان تقدما مختالة فخورة بنفسها.. بينما نحن، بنى البشر الطمّاعين، كامنون كالفئران المذعورة فى جحورها، نتطلع إليها من الشبابيك والبالكونات فى ألم وحسرة؟.. إن الطبيعة يامولانا تستعيد توازنها.. وما لم تصل للإنسان (المتبجح) تلك الرسالة فليقرأ على روحه الفاتحة من الآن !. بلل هو شفتيه الناشفتين وتمتم: يا أخى حرام عليك.. كنت أتوقع منك همسة حنونة مشفقة تخفف عنى ما أنا فيه فإذاك لا تقل قسوة عن الفيروس القاتل .. ومع ذلك فاعلم أننى متفائل.. وما هى إلا أسابيع قليلة وسترانا نملأ الطرق والأسواق والحوانيت من جديد. صرخ الصاحب: يسمع منك ربنا يا سيدي.. وهل يكره أحد ذلك.. إنما أردت فقط أن أذكّرك بأن للجائحة دروسا عديدة ليتنا نفيق من غفوتنا فنستوعبها.. همس هو: سوف نتعلم الدرس بإذن الله.. ومن لن يتعلم فعليه وِزر نفسه. نقلا عن صحيفة الأهرام