تبدأ اليوم (السبت) في الخرطوم ثالث جولة مباحثات خلال 36 يومًا فقط بين وزراء الري والخبراء الفنيين من مصر والسودان وإثيوبيا، وسط آمال بحدوث تقارب أكبر بين وجهات النظر بالاتفاق ولو على واحد من الموضوعات محل الخلاف حول ملء بحيرة سد النهضة وقواعد تشغيله والآلية التي سيتم من خلالها مراقبة تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه. فمن غير المتوقع إنجاز اتفاق شامل خلال الجولة التي ستمتد أيضًا إلى الغد، وعلى ذلك ستكون جولة أديس أبابا الرابعة والأخيرة هي الحاسمة إما بالتوصل لاتفاق يتم وضع لمساته الأخيرة في اجتماع موسع يضم وزراء الخارجية أيضًا يوم 13 يناير أو الفشل، وعندئذ ستدخل المفاوضات في طور جديد. هذا الطور تتحول خلاله مشاركة الولاياتالمتحدة والبنك الدولي فيها من صفة مراقب إلى وسيط وفقًا لما تم الاتفاق عليه في واشنطن يوم 6 نوفمبر الماضي بحضور ممثلين عن الإدارة الأمريكية والبنك. فالمادة العاشرة من اتفاقية إعلان المبادئ التي وقعها الأطراف الثلاثة في الخرطوم في 23 مارس 2015 تنص على أنه في حالة فشلهم في التوصل لاتفاق عن طريق التشاور أو التفاوض يمكن لهم مجتمعين طلب التوفيق أو الوساطة، ثم جاء اجتماع واشنطن الأول ليضع سقفًا زمنيًا للتفاوض هو 15 يناير 2020 تبدأ بعده الوساطة. في اجتماع واشنطن الثاني أوائل هذا الشهر أكد وزراء الخارجية الثلاثة حدوث تقدم في المفاوضات الفنية، وأن إثيوبيا ستنفذ القواعد و المبادئ التوجيهية التقنية لملء بحيرة السد وتشغيله ، وقالوا في بيان مشترك إنه تم تحديد مسار المفاوضات والعناصر الواجب تناولها للتوصل لاتفاق. ومما أثار جوًا أكبر من التفاؤل إعلان وزارة الخزانة الأمريكية التي استضافت الاجتماع بحضور رئيس البنك الدولي أن وزراء خارجية مصر وإثيوبيا والسودان يخططون للاجتماع في واشنطن يوم 13 يناير لمحاولة التوصل لاتفاق نهائي ووضع لمساته الأخيرة. الخلافات أصبحت محصورة الآن في عدد سنوات ملء البحيرة وقد تسربت أنباء عن أن إثيوبيا تزحزح موقفها عن فترة السنوات الثلاث التي أصرت عليها مرارًا، وأصبحت تتحدث عن فترة تتراوح بين أربع وسبع سنوات، وهو ما اقترب كثيرًا من المطلب المصري (سبع سنوات على الأقل)؛ لتخفيف الضرر إلى أدنى حد ممكن. أما الخلاف الثاني فيدور حول كيفية تشغيل سد النهضة وفق منظومة هيدروليكية موحدة بالتنسيق مع تشغيل السد العالي وسدود السودان حتى لا يعمل هو ويتوقف عمل السدود الأخرى أو تقل كفاءتها في إنتاج الكهرباء وهو ما يتطلب الاتفاق على تصريف كمية مياه من السد الإثيوبي لا تقل عن 40 مليار م3 سنويًا وألَّا ينخفض منسوب المياه أمام السد العالي عن 165 مترًا فوق سطح البحر، وأن تراعي إثيوبيا سنوات الفيضان المنخفض والجفاف؛ بألَّا تعيد ملء البحيرة بمعدلات كبيرة؛ حتى لا تقتطع كميات تقلل من حجم المياه المنصرفة عما هو متفق عليه، وهو ما رفضته الحكومة الإثيوبية حتى الآن. فإثيوبيا أصرت طويلًا على قصر التفاوض حول ملء البحيرة وتشغيل السد على فترة الملء الأولى فقط، وهو ما يعني إذا تم الرضوخ لطلبها أنه سيكون بإمكانها أن تفعل ما يحلو لها عند إعادة ملء البحيرة وألّا تراعي سنوات الجفاف والفيضان المنخفض، وهو ما رفضته مصر بقوة، وأصرت على أن يكون هناك اتفاق ينظم تلك الأمور ويتم الالتزام به. وفيما يتعلق بالخلاف الثالث حول الآلية التي ستقوم بمراقبة تنفيذ الاتفاق الشامل والدائم وذي المنفعة المتبادلة، والقائم على التعاون بين الدول الثلاث كما هو منصوص عليه في اتفاق واشنطن الأول، فلابد أن تكون آلية واضحة لا تترك مجالًا لأي تحايل أو التفاف عليها أو إساءة تفسير لأي من أحكام إنشائها لمنع نشوب خلافات جديدة. لقد سبق أن أكد الرئيس الأمريكي ترامب للرئيس السيسي اهتمامه شخصيًا بنجاح المفاوضات وخروجها بنتائج إيجابية وعادلة تحفظ حقوق كل الأطراف، واستقبل وزراء خارجية الدول الثلاث قبل اجتماع واشنطن الأول؛ لحثهم على ذلك بإبداء المرونة اللازمة للتوصل إلى اتفاق. كما كلف وزير الخزانة الأمريكية الذي تتولى وزارته شئون المساعدات والمنح للدول الأجنبية برعاية المباحثات؛ مما يشكل إنذارًا مبطنًا لأي طرف يعوق نجاحها. وأعلنت واشنطن وقتها أيضًا عن دعمها للدول الثلاث في سعيها للتوصل لاتفاق على قواعد الملء والتشغيل؛ بما يحقق المصالح المشتركة لها، وطالبتها بإبداء حُسن النية لإبرام اتفاق يحافظ على الحق في التنمية الاقتصادية والرخاء (وهو مطلب إثيوبيا)، ويحترم بموجبه كل طرف حقوق الطرف الآخر في مياه النيل (وهو مطلب مصر التي رحبت بالموقف الأمريكي). يضاف إلى ذلك مشاركة البنك الدولي الذي تنظم قواعده استغلال مياه الأنهار التي تتشاركها أكثر من دولة وتحظر قيام أي بلد ببناء منشآت لإنتاج الكهرباء أو لأغراض الري على النهر أو فروعه أو روافده إلّا بعد موافقة بقية دول الحوض؛ خاصةً دول المصب مثل مصر والسودان حتى لا يتسبب في انقطاع المياه أو نقصانها أو تأخير وصولها إليها، وهو ما جعل مشاركة البنك في المفاوضات مفيدًا جدًا في تذليل العقبات التي تعترضها على أسس علمية ومنطقية ومحايدة وبناءً على تجاربه في نزاعات أخرى. كما يلزم القانون الدولي المنظم لاستغلال مياه الأنهار العابرة للحدود دولة المنبع التي تقيم سدًا جديدًا بألَّا يضر بالسدود والمنشآت المائية السابقة على إنشائه على النهر، وبأن تبقى تعمل بكامل طاقتها، والمقصود في حالتنا هذه السد العالي في مصر وسدود الرصيرص وسنَّار ومَروى في السودان. ووفقًا لاتفاقية إعلان المبادئ لعام 2015 يحق لمصر والسودان الحصول على تعويضات عن أي أضرار اقتصادية أو بيئية أو اجتماعية قد تلحق بأي منهما بسبب سد النهضة.