في الخطوط الأمامية للحرب على الإرهاب والتطرف الديني المقيت، ما من أفغاني التقيته في مدينتي هرات وكابول إلا وحدثني بكل خير عن مصر العظيمة، وعن أزهرها الشريف، باعتباره منبرًا مرموقًا لوسطية الإسلام السمحة وللاستنارة. في الكلمة التي نقلتها هنا الأسبوع الماضي على لسان السفير محمد محق، المستشار الثقافي السابق للرئيس الأفغاني، أشرف غنى، عبر الدبلوماسي الأفغاني عن أمنيته بمساعدة مصر لبلاده حتى تقدم للعالم - كما أسلفت- شخصيات عظيمة مثل: الرومي وابن سينا والبيروني. خلال إقامتي في العاصمة الأفغانية، جاءتني فرصة ذهبية للإطلاع - عن قرب - على دور فعلي وحيوي، تقوم به البعثة الأزهرية في كابول، وهي البعثة التي تعتبر من أكبر البعثات الخارجية للأزهر الشريف. يبلغ عدد البعثة – حاليا - 34 من العلماء الأفاضل، الذين يحملون أعلى الدرجات العلمية، وهم مؤهلون لنشر وسطية الإسلام السمحة، في دولة أنهكتها الحروب بسبب التفسير الخاطئ للدين الإسلامي الحنيف. تجدر الإشارة هنا، إلى أن وجود الأزهر في أفغانستان ممتد منذ فترات بعيدة، وفي أروقة الأزهر الشريف تخرج اثنان من رؤساء الجمهورية في أفغانستان، هما الرئيس صبغة الله مجددي، والرئيس برهان الدين رباني، بالإضافة إلى رئيس الوزراء موسى شفيق، وقاضي القضاة، وغيرهم من الوزراء والعلماء ورموز المجتمع الأفغاني الشقيق. امتدادًا لدور الأزهر التاريخي في أفغانستان، تم إنشاء المعهد الأزهري في كابول عام 2009، ويضم حاليًا 840 طالبًا من الصف الأول الابتدائي وحتى الثانوية العامة. لا يدفع الطالب أي مصروفات في أثناء دراسته بالمعهد، الذي يعتبر من أكفأ المدارس العاملة في كابول. بعد إتمام الطالب دراسته الثانوية بنجاح يجري ابتعاثه إلى القاهرة لاستكمال دراسته في جامعة الأزهر. في الوقت نفسه، يقوم أعضاء بعثة الأزهر بتدريس اللغة العربية، ومادة الشريعة، في 7 جامعات أفغانية، من بينها جامعتا كابول والتربية. كما تقوم بعثة الأزهر في كابول بإعداد وتقديم برامج دينية ثابتة في 8 قنوات تليفزيونية أفغانية، تحقق تفاعلا كبيرًا بين مختلف أطياف المجتمع الأفغاني، ويظهر ذلك – بوضوح - في المداخلات التي يتلقاها علماء الأزهر الأجلاء. بالإضافة إلى كل ما سبق، تقوم بعثة الأزهر في كابول بعمل دورات تدريبية، وورش عمل لتأهيل الأئمة الأفغان، بالإضافة إلى إعداد الدروس والخطب التي يجري إلقاؤها في أكبر 15 مسجدًا في العاصمة، ويوجد عليها إقبال كبير من المصلين. تبقى الإشارة إلى قيام بعثة الأزهر بتدريس اللغة العربية لعدد من منتسبي المؤسسات الحكومية الأفغانية على رأسها وزارة الخارجية. في أفغانستان، هناك من يستغيث بالأزهر الشريف لتقديم المزيد، وتحديدًا تبني خطة إستراتيجية تنويرية، وهذا في الحقيقة ما لمسته - بنفسي - خلال حضور مؤتمر "هرات" الأمني السابع، الذي نظمه المعهد الأفغاني للدراسات الإستراتيجية، أواخر شهر أكتوبر الماضي، بعنوان: أزمة أفغانستان.. الأسباب والحلول. لقد استمعت - بكل تفصيل - إلى تشخيص دقيق للصراع الدموي الأفغاني، المستعصي على الحل، بأبعاده الثلاثة – المحلي والإقليمي والدولي - في هذه المنطقة المنكوبة من العالم. سوف أتطرق في مقال اليوم إلى نشأة وتطور الأفكار الدينية المتطرفة في أفغانستان وعلاقتها بالأزمة، فيما أخصص المقال المقبل - بعون الله - للبعدين الإقليمي والدولي في الأزمة الأفغانية. فأفغانستان کانت وطنًا طبيعيًا مستقرًا، وبلدًا تقليديًا في معظم جوانب حياتها، إلي منتصف القرن العشرين. بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت الأيديولوجيات الحديثة تنتشر في الأوساط الشبابية الأفغانية، في الثانويات العامة وفي الجامعات وبعض المدارس الشرعية. من أوائل الأيديولوجيات انتشارًا، کانت المارکسية اللينينية، وبجانبها المارکسية الماوية، ثم بدأ رد الفعل تجاهها في الأوساط الدينية بطريقتين: التقليدية من جانب بعض العلماء التقليديين، من أشهرهم، مولوي محمد نبي، الذي أسس حزبًا باسم جمعية علماء الإسلام، انتهت بظهور طالبان من مدارسها، بعد عقدين من الزمان. المجموعة الثانية: بدأت بحشد الشباب المتحمس دينيًا ضد الشيوعية، کانت متأثرة بفکر جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، ثم الجماعة الإسلامية بباکستان للمودودي. هذه المجموعة کانت أکثر نشاطًا في الجامعات والثانويات العامة وکليات الشريعة، وأحسن تنظيمًا من الناحية الحزبية. عندما احتل الاتحاد السوفييتي أفغانستان في الثمانينيات، کانت المجموعة الإخوانية الإرهابية، أکثر استعدادًا للقيام بما أسمته الجهاد وحشد الناس وتجييشهم في الحرب ضد جيش الاحتلال. في ذلك الوقت، بدأت کثير من حكومات البلدان المرتبطة بالقضية الأفغانية استثمار موقف هذه الجماعة الإرهابية، التي انقسمت بدورها إلي فروع وفصائل، کل فصيل تبنى نشر الأفكار المتطرفة، نفسها. في هذه الفترة، التحق بالجماعات الإرهابية کثير من الراغبين فيما سمي بالجهاد ضد السوفييت، من البلدان الإسلامية والعربية، ومن أشهر من توافدوا إلي بيشاور، الإرهابي الهارب أيمن الظواهري، والقيادي الإرهابي عبدالله عزام، وغيرهما من عصابات الفتنة والتطرف المنتمية للتنظيم الدولي لجماعة الإخوان الإرهابية. المجموعة التقليدية الأفغانية المنتمية لفكر مولوي محمد نبي، والتي کانت منعزلة علي نفسها، بدأت تقترب - هي الأخرى - من السياسة، في منافسة للأحزاب الإخوانية، وتأخذ عينات من فکرها لتکون عندها أيديولوجية مماثلة، وكانت حرکة الطالبان وليدة لهذه الإرهاصات الأولية، انضم إليها - في نهاية المطاف -القياديان والإرهابيان، أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. بقي التنظيم الدولي لجماعة الإخوان الإرهابية هو الملهم والرمز والقدوة لکثير من المتطرفين الدينيين في أفغانستان، الذين انشطروا إلى أکثر من حزب وجماعة، وبدت بشائر النصر تلوح أمامهم إبان الحقبة السوداء التي اعتلى فيها التنظيم الإرهابي حكم أرض الكنانة. بعد سقوط خطط التنظيم الدولي لجماعة الإخوان الإرهابية بإزاحة دولة الإمارة الطالبانية المظلمة في أفغانستان، وإسقاط نظيرتها اللقيطة في مصر، يتطلع قادة الرأي والعلماء والنخبة السياسية الحاكمة في أفغانستان، إلى الجهود التنويرية للأزهر الشريف، وإلي مبادرات المفكرين والمثقفين المصريين، للقيام بدورهم الحيوي لاستئصال الفکر الديني المتطرف، وتغيير البنية الفكرية لعناصر ورواسب وشذرات كثيرة لحقبة ما سمي بالجهاديين في أفغانستان. حتى ينجح الأزهر الشريف في أداء هذا الدور التنويري المرموق في أفغانستان، تطالب النخبة الأفغانية بأن يتسع نطاق خطابه ومخاطبيه إلي شرائح مختلفة في المجتمع، وهذا يتطلب - بطبيعة الحال - وضع تخطيط إستراتيجي، خاصة، أن في أفغانستان تتوطن فيها مراکز فکرية أخري مثل المدارس الدينية الباکستانية، وکذلك مدارس وأفكار التنظيمات المنتمية لجماعة الإخوان الإرهابية، الوافدة على المجتمع الأفغاني المسالم. في الوقت نفسه، ترى النخبة الأفغانية أن تعزيز دور الأزهر وتأثيره الفکري في الأوساط العلمية مهم جدًا، غير أن هذه العملية، كما قلنا، تحتاج لتخطيط إستراتيجي، طويل المدي، والمثابرة الدءوبة، ومواجهة التحديات. [email protected]