داخل فواخير مصر القديمة، وخلف مكينة بدائية الصنع، يجلس "عم السيد" الراجل الخمسيني، الذي يعمل بتركيز شديد، يحرك بقدمه قرصا خشبيا لإدارة المكينة، وفي ذات الوقت يصنع بيديه؛ تحفة فنية من الطين، مختلفة الأشكال والألوان، بداية من "القلة القناوي وأواني الطعام"، وحتى الأشكال الفنية، التي تزين القصور. ارتسمت على وجه الرجل الأشيب، علامات التركيز الشديد، لاسيما أن كل حواسه تعمل في توقيت واحد تقريبًا، بينما يتولى "فارس"، صاحب الست سنوات، وبنت صغيرة عمرها 7 سنوات، حمل أواني الطين فوق لوح خشبي، ورصها تحت الشمس لتجف، قبل حرقها داخل فرن تجلس أمامه سيدة، ليخرج في النهاية المنتج النهائي المصنع من الطين، معجون بعرق أطفال ونساء يعملون في ظروف صعبة. حاولت الحكومات المتعاقبة، منذ منتصف القرن الماضي، تطوير صناعة الفخار، إحدى الفنون التي عرفها المصري القديم، فكانت البداية بنقل الفواخير من خلف جامع عمرو بن العاص، إلى منطقة "بطن البقرة"، التي لا تبعد كثيرا عن مجمع الأديان بمصر القديمة. إلا أن مشكلة الفواخير لم تنته، لاستخدام أصحاب الفواخير المخلفات الطبية، في إشعال الأفران، وهو ما جعلها مصدرا للتلوث البيئي بالمنطقة، التي تقع بوسط القاهرة القديمة، بجوار عدد من المعالم الدينية والسياحية، فأصدرت الحكومة قرارًا عام 2004، بهدم ورش الفواخير لتطويرها، بمنحة مقدمة من الاتحاد الأوروبي، ووزارة التعاون الدولي. طبقا لخطة الإحلال والتطوير، كان من المفترض أن يتم الانتهاء من "قرية الفخار"، في عام 2007، وتسليمها لأصحاب الورش، إلا أنه بالرغم من بناء القرية، التي تضم 154 فاخورة، ومكانا مخصصا لعرض المنتجات وتسويقها، إلا أن القرية تفتقر للمرافق، ولا تزال تعمل بنظام بدائي، ويعمل بها نساء وأطفال. عمالة الأطفال في فواخير مصر القديمة عمالة الأطفال في فواخير مصر القديمة معاناة أم لسبعة أطفال في فواخير مصر القديمة "نحات طين": نفسي أهرب من المهنة يعمل السيد أحمد زكي، الذي يلقب ب"عم السيد"، في مهنة الطين، منذ كان طفلًا صغيرًا، خلف مكينة تعمل يدويًا، يستخدم كل حواسه تقريبًا؛ لإخراج قطعة فنية، كما يستخدم قطعة من السلك؛ لتقطيع الطين ووضعه على لوح خشبي، ليتولى الأطفال نقله للخارج، في منظومة عمل متكاملة. يقول الرجل الخمسيني، وهو مشغول بعمله: "المهنة دي مهنة طاهرة، نتعامل خلالها مع الطين، ولكن مشاكل المهنة حاليًا، كثيرة، والصنيعية والحرفيون يهربون منها ويهجروها، وأنا اتمنى اشتغل أي شغلانه تانية.. نفسي أهرب من المهنة دي". يعاني العاملون في الفواخير، من أمراض المهنة، أقلها متاعب العمود الفقري؛ بسبب عملهم المستمر، على مكينة تشكيل الطين البدائية، والتي تطلب تحريك الجسم كله في توقيت واحد. مازال "عم السيد"، يتذكر وقت دخوله المهنة، عندما كان طفلا صغيرًا، أحضره والده للعمل، وقتها كان يحمل الطين، بعد تصنيعه لوضعه في الشمس، مثلما يفعل الأطفال الآن، وكان يتقاضى عن اليوم كله "قرش صاغ" واحد، بعدها تدرج في المهنة وتعلمها وتشبع بها، حتى أصبح صنيعي، يتقاضي يوميًا 100 جنيه، لا تكفيه للإنفاق على أسرته المكونة من زوجته وأربعة أولاد. أمام تحديات المهنة، رفض السيد إحضار أولاده للعمل معه، أو تعلمهم أصول الصنعة يقول: "الناس بتهرب من المهنة دي؛ لأنها مهنة شقى وتعب، واللي بيبطلها بيمسكه المرض، طول ما الواحد شغال سليم، يبطل يموت على طول، هي المهنة دي كده"، لا يوجد للعاملين في الفواخير تأمين صحي أو اجتماعي، يصنعون قطعا فنية ولا يهتم بأحوالهم أحد. يشرح "عم السيد"، مراحل التصنع داخل الفواخير، ففي البداية يتم جلب الطين من الأراضي الزراعية، وخلطه بتراب مصانع السيراميك ومواد أخرى ليتماسك، مع نسبة من الطمي الأسواني، يوضع هذا الخليط في حوض كبير، يطلقون عليه اسم "الكوز"، يتم بداخله تنقية الطين ومزجه وتقليبه بشكل جيد بالأقدام. في المرحلة الثانية، بعد مزج خليط الطين، يتم تشكيله على "الدولاب" وهي مكينة بدائية الصنع، يبذل الجالس عليها مجهودا كبيرا، في تحريك قدميه، وتشكيل الطين بيديه، ووضعه على لوح حشبي، يتم نشره تحت إشاعة الشمس لمدة يوم كامل، ثم يدخل الفرن للحرق، تحت درجة حرارة تزيد على 100 درجة مئوية، ليخرج بعد ذلك المنتج الطيني، ويتم زخرفته والرسم عليه وتجهيزه بالجليز العازل، لاستخدامه في الطعام كأوانٍ فخارية، ويعاد حرقه مرة أخرى ليتجانس ويتماسك بشكل جيد. تعتمد المهنة على أيادٍ عاملة مهرة، وأعداد كبيرة من الأطفال، فكما يقول "عم السيد"، "المهنة دي مينفعش يتعلمها حد كبير، كل الصنيعية دخلوها عيال صغيرة؛ لأن تعليمها مثل النقش على الحجر، ومحدش كبير يقدر يستحمل ويتعود على تعابها". طفل أمام النار في فواخير مصر القديمة عمالة الأطفال في فواخير مصر القديمة أطفال يحملون الطين تحت الشمس بينما يعمل "عم السيد"، بحرفية وتركيز شديد، يتحرك حوله مجموعة من الأطفال، لا يتعد سن أكبرهم عشر سنوات، يحملون الطين بعد تشكيله على ألواح خشبية، ويأخذونها بسرعة للخارج؛ لتعريضها لأشعة الشمس، من هؤلاء طفل صغير يعمل في صمت ممزوج بالخوف من العقاب يدعى "فارس". يستيقط "فارس"، صاحب الست سنوات، في الساعة 7 صباحًا يوميًا، ليس للذهاب للمدرسة مثل باقي أقرانه في مثل سنه؛ بل لاستلام عمله في إحدى فواخير مصر القديمة، حيث يتولى حمل المنتجات الطينية، والأواني الفخارية، على لوح خشبي فوق كتفه، ورصها بجوار بعضها تحت أشعة الشمس. يلتزم الطفل الصغير للأوامر ببراءة الأطفال، يؤدي عمله بسرعة خوفًا من العقاب، وبعد تعرض المنتجات الطينية للشمس، يحملها مرة أخرى لإدخالها للأفران الحرق، وهو ما يعرضه للخطر، وفي نهاية اليوم، تحضر والدته لاصطحابه لمنزله البسيط، لينام من شدة التعب، ويستعد ليوم آخر من التعب. وقف "فارس"، أمام الكاميرا، وهو يرتدي غطاء رأس، وملابس بسيطة رثة لا تقي من البرد، ووجه شاحب يغطي أجزاء منه الطين والطمي، وهو يحمل بصعوبة مجموعة من الأواني الفخارية، يقول الطفل ببراءة وهو يتلعثم: "اسمي فارس وشغال هنا من الصبح، أمي تحضرني وتأتي مرة أخرى لأخذي للمنزل". قال الطفل الصغير، هذه الجملة، ولم يستطع استكمال حديثه أو الإجابة على أي أسئلة عن أسرته أو مكان مسكنه، أو حتى اسمه بالكامل، حتى راتبه اليومي، الذي تحضر والدته أسبوعيًا لأخذه، وهو عبارة عن 120 جنيهًا، أي ما يقل عن 20 جنيها يوميًا، لا يعرف الطفل الصغير معنى اللعب أو اللهو، مثل باقي الأطفال إلا يوم إجازته الأسبوعية. من الممكن أن ترى في الفواخير، عشرات أو مئات الأطفال، يعتبرون هم أساس هذه الصناعة، يعملون في ظروف صعبة للغاية، في العراء بجوار مقالب القمامة، وأمام أفران الحرق، التي تزيد درجة حرارتها على 200 درجة مئوية، وهو ما يعرضهم لحوادث ومخاطر شديدة أثناء عملهم. يحضر هؤلاء الأطفال أولياء أمورهم، للعمل في الفواخير يوميًا، وعندما يكبر هؤلاء الأطفال في مهنة الطين، يصبحون صنيعة أو حرفيين في المهنة، لينقشوا الفنون على الطين والحجر، كما نحتت بداخلهم المهنة وتعلموها في الصغر. فواخير مصر القديمة فواخير مصر القديمة أم لسبعة أطفال تحرق "الطين" أمام النار أمام فرن حرق الطين، لتحويله لصورة صلبة، تجلس سيدة شابة وبجوارها طفلتها الصغيرة، التي لا يتعد عمرها عامين، تتحرك بين الحين والآخر، لفتح باب الفرن، ووضع كميات من الأخشاب، لرفع درجة حرارته، بحسب الأوامر التي تصدر لها، من القائمين على العمل في الفاخورة. اسمها بالكامل سيدة حنفي، عمرها 37 عامًا، كانت تعمل وهي طفلة في الفواخير، وعندما كبرت وتزوجت، تركت هذه المهنة الشاقة، طمعا في الستر، وانجبت 7 أطفال أصغرهم طفلتها التي تجلس بجوارها، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهى السفن، فتعرض زوجها لمرض شديد، وهو ما أجبرها للعودة للعمل مرة أخرى ومعها أطفالها. تقول وهي تحمل كمية من الأخشاب: "كتب علينا الشقي، منذ صغري أعمل في الفواخير، وعندما مرض زوجي، أحضرت أولادي للعمل، وأتقاضى نظير ذلك 240 جنيها في الأسبوع، ويعمل معي ابني الأكبر وشقيقته، ويحصل كل واحد منهما على 120 جنيها في الأسبوع". تحضر سيدة أبناءها كل صباح، للعمل في حمل الطين، أما هي فتتولى الجلوس أمام الفرن، وبجوارها تجلس طفلتها الصغيرة، على بعد أمتار من الفرن، الذي تزيد درجة حرارته على 200 درجة مئوية، ولكن كما تقول هي وقد ارتسمت على وجهها علامات الحسرة: "لا يوجد أمامي غير كده، جوزي عيان.. أعمل أيه نموت من الجوع". فواخير مصر القديمة
فواخير مصر القديمة "تراثنا": نسعى لتطوير مهنة "الطين" بالقرب من فواخير مصر القديمة، داخل مقر جمعية الفارس النبيل، إحدى الجهات التي تدعم تطوير مهنة الطين، عن طريق تطوير قدرات العمال والفكر التصنيعي، وتطوير الوحدات الإنتاجية، بإدخال معدات حديثة لعملية الإنتاج، وفتح أسواق جديدة للمنتجات. قال "فارس"، صديق المدير التنفيذي لمؤسسة الفارس، إن عمال الفواخير يعملون في ظروف صعبة للغاية، فبالرغم من أن مشروع تطوير الفواخير، بدأت منذ 2004، إلا أنه حتى الآن، لم يتم توصيل المرافق، فلا توجد مياه ولا كهرباء ولا صرف صحي. وأضاف المدير التنفيذ، في تصريحات ل"بوابة الأهرام"، أن العمل داخل الفواخير، لا يزال يتم بشكل بدائي جدًا، عن طريق مكينة تشكيل الطين أو "الدولاب"، مشيرا إلى أن المؤسسة تمكنت من تصنيع مكينة فرنسية الصنع، يصل سعرها 2700 يورو، بتكلفة 13 ألف جنيه بأيادٍ مصرية، وبدأت في تدريب العمال عليها لإنقاذهم من العمل على الميكنة البدائية، التي تؤدي لأمراض خطيرة في العمود الفقري. وأشار إلى أن أمراض مهنة الفواخير كثيرة مثل الأمراض الصدرية والحساسية، التي تصيب العمال جراء استنشاق دخان أفران الفخار، والأمراض الجلدية بسبب التعرض بشكل مستمر للطين والمواد الكيميائية، وأمراض العظام والعمود الفقري، موضحا أن استخدام المعدات الحديثة كفيلة من تقليل هذه المخاطر بشكل كبير. وأكد أن معدلات الآمان منخفضة للغاية داخل الفواخير، فمازالت عملية الحرق، تتم عن طريق الأفران القديمة، التي يتم إشعالها بالخشب، وهو ما يؤدي لتلوث البيئة، انخفاض جودة المنتج النهائي للفخار، لافتًا إلى أنه من ضمن خطة المؤسسة، تشغيل الأفران التي تعمل بالكهرباء أو الغاز، للتحكم في درجة حرارة الفرن وتقليل الانبعاثات البيئة الخطرة. واستطرد مدير المؤسسة، أن الفخار من أقدم المهن الوسائل، التي نحت عليها الفنان المصري تاريخه وسيرته، ونهدف لتطوير الفواخير، لتصبح في يوم من الأيام مزارا سياحيا، ونحتاج دعما أكبر من الحكومة؛ للإسراع بتطوير الفواخير وافتتاحها للعمل، بشكل وضوابط حديثة، وهو ما سيؤدي لناتج اقتصادي جيد، لاسيما إذا علمنا أن العالم يتجه لاستخدام الأواني الفخارية، واستخدام الفخار بشكل أوسع في الحياة اليومية. فواخير مصر القديمة #