"صولو الخليفة" مجموعة قصصية من ثماني عشرة قصة للقاص المتميز شريف عبدالمجيد، وتأتي تلك المجموعة بعد رحلة إبداع مثمرة للكاتب منها كانت مجموعة "تاكسي أبيض"، وقد كتبتُ عنها من قبل، فضلاً عن قصص الجرافيتي التي نشرها القاص، حيث كانت معبرة عن ثورة عظيمة قام بها المصريون هي ثورة 25يناير2011. والكاتب مهموم بالشخصية المصرية، بخاصة تلك التي صادفته في حياته وعرف عنها الكثير، فحاول تصوير ذلك بقلمه، مع العلم أنه مصور فوتوغرافي، والصورة قريبة من القصة القصيرة؛ لأنها تحمل التكثيف والإيجاز. وأعتقد أن التصوير الفوتوغرافي هو ما جعله يبدع في كتابة القصة القصيرة، لذلك فهو مدرك لما يقول. وتأتي هذه المجموعة التي بين أيدينا في قسمين: الأول منهما يتناول شارع الخليفة، وذلك المكان التاريخي الحاضر في عقل الكاتب، ليس لأنه قد عاش فيه طفولته وريعان شبابه فقط، بل لأن هذا المكان يحمل قيمًا عبَّرت عنها شخصياته التي استلهمها بالفعل من الواقع الذي عاشه من قبل وحاول بقدر المستطاع إبراز الجانب الروحي والإنساني فيها، وحاول تغليف ذلك بإظهار بعض العادات والتقاليد للشخصية في ذلك المكان وطبيعة الحياة فيه، وكان ذلك من وجهة نظره هو باعتباره فنانًا لديه حس راق يتجلى في كتاباته، بينما القسم الثاني من المجموعة حمل العديد من الدلالات الحداثية للزمن الذي نحياه من خلال " قبل وبعد " أي قبل الأحداث وبعدها بصفة فلسفية فيها إدراك وعمق في التعامل مع كتابة القصة القصيرة، كما في قصة ضيف الحلقة التليفزيونية وغيرها. والمجموعة في مجملها حملت في طياتها مخزونًا ثقافيًا واسعا من الكاتب. تطالعنا أول قصة في المجموعة تحت عنوان "في مسألة التوك توك" وفيها يبني الكاتب الحدث على فعل الشخصية؛ فالأبناء جميعًا عاقون لأمهم، لدرجة أن الناس يعاملونها كالعاقر، بخاصة بعد وفاة والدهم الذي طاف البلاد شرقًا وغربًا ليبني لهم مكانًا يعيشون فيه. وينتهي به الحال إلى الجلوس أمام فاترينة لبيع الأدوات الكهربائية، وكان ابنها الأكبر يحتاج إلى المال لتعويض ما افتقده، وتُصدم الأم بما حل بها وبأولادها الذين أرادوا النيل من بعضهم البعض، فيتدخل أولاد البلد، حيث تظهر روح شخصية أولاد البلد في حل المشكلات، وما أحزن الأم أكثر حين ضاع تعبها وخرجت الطيور والرومي من بيتها وتُصاب بهبوط في ضغط الدم بسبب السكر الذي تملك جسمها ويحكم للابن الأكبر بألف جنيه كي يسترد التوك توك الذي أخذته منه الشرطة. وقد أراد الابن الأكبر أن يأخذ من أمه 20 ألف جنيه ليشتري به توك توكًا جديدًا بدلًا من الخردة التي معه على حد وصفه، وكان مصرًا على بيع المحل الذي يقتات منه جميع إخوته، وهي تعلم أن ابنها "ماشي شمال". ويحاول الكاتب إظهار روح أولاد البلد وروح الشخصية حين تعبت الأم في قوله "وحملها الأخ الأصغر على توك توك أحد أصدقائه، بينما تبعه الآخرون فى السيارة السوزوكى الصغيرة التابعة لمحل الموبيليا فى أول الشارع". هكذا أراد الكاتب إظهار روح الشخصة المصرية التي تقف بجوار الآخر في الملمات أو الشدائد، كما أن شخصية الابن الأكبر تظهر في حبها للأم في آخر عبارة كتبها القاص في قوله "والأخ الأكبر يقول ما تموتيش يا مه اوعى تموتي"، وقد كثف الكاتب في وصف الحدث الذي تمثل في فعل الشخصية المحورية مع الأم والابن الأكبر بخاصة في الحوار الذي دار بينهما. وفي "صولو الخليفة" التي تعد "متوالية سردية" نراه يعزف فيها أيضًا على تلك الروح المصرية الأصيلة المحبة للفن والجمال والثقافة والفهم لمجريات الحياة، فهذا كمال المحب للفن والغناء والطرب تعلو روحه وتسمو في هذه القصة "عزف منفرد" التي بنى الكاتب الحدث فيها على فكرة التراث وإعلاء شأن الفن، فكمال كان من المحبين لعبد المطلب رغم أنه فنان، ولكنه لم يأخذ مكانته، فقد كان في معظم الأغاني الوطنية والمعبرة عن الأمة العربية مثل "وطني حبيبي الوطن الأكبر". وهو يأسف على فعل الزمن؛ لأن صوته لا يقل عن أصوات مطربين كبار نحو محمد فوزي وعبد الغني السيد وعبد الحليم حافظ، وفريد الأطرش، ومحمد رشدي، ويحاول الكاتب تبيان من هو كمال هذا، ليخبرنا بأنه من حي الخليفة الذي كان يعيش فيه وكان في الأغنية الشهيرة التي غنتها الفنانة "إلهام بديع" التي تقول في أولها "يا حضرة العمدة ابنك حميدة حدفني بالسفندية" وهي أغنية من الفلكلور الشعبي، وهنا يبدو لنا أن الكاتب يحاول تكثيف الحدث المبني على فكرة الماضي القريب الذي عاشه في ذلك المكان، وكأنه يقول من بين السطور "أنا عشتُ في هذا المكان الذي عاش فيه هذا الفنان"، وهنا إعلاء أيضًا لفكرة المكان وحب المكان وما أسميه عبقرية المكان ذلك المكان الذي طالما تحدث عنه غاستون باشلار في كتابه "جماليات المكان" وغيره من الكتاب والباحثين عن فكرة عشق المكان، وكيف يعبر الكاتب عن المكان بأسلوب فيه حب للمكان. وقد ربط الكاتب المكان بالشخصية التي تعيش في المكان، فهي التي تعيش الحدث في المكان وكانت شخصية كمال شخصية محبة للحياة قادرة على تخطي الصعاب فقد علَّم أولاده جميعًا تعليمًا جيدًا وعكف في نهاية حياته على بيع الآلات الموسيقية التي انتهى عصرها تقريبًا مع عالم الانترنت. وتنتهي حياته مرتديًا أفخم الملابس في مكتب بريد الخليفة حين كان في انتظار أخذ معاشه وقد تفاجأ الموظفون جميعًا بموته، وكأن الكاتب أراد أن يقول: عليك أن تعيش حياتك كما ينبغي إلى آخر نفس في عمرك، كما فعل ذلك الفنان الذي أحبه حي الخليفة والأحياء الأخرى. وفي قصة "سماعي" يبرهن الكاتب أيضًا على ما تبناه منذ البدء، وهو تبيان تلك الروح المصرية وما ينتابها من جمال وعشق وحب للحياة. فعلى الرغم من أن البطل يموت في نهاية القصة كما كان الحال في القصة السابقة، فإن هذا البطل، وهو الأسطى ربيع، قد أكد لنا على عشقه للفن والموسيقى، فقد كان محبًا للسيدة أم كلثوم كما كان محبًا للحمام الذي كان يسعد حين يراه يتسابق مع حمام الغير، وكان يقضي معظم أوقاته مع الحمام في الغية الخاصة به، بل عرف عنه في حي الخليفة ذلك الحب فضلًا عن تخصيص ساعة يومية للاستماع إلى السيدة أم كلثوم من 5- 6 مساء، وهو الوقت الذي كان الحمام يطير فيه عبر الأجواء، محلقًا في منطقة الخليفة وباعثًا جوًا من الفرحة والسعادة حين يرى الحمام على مآذن السيدة عائشة، والسيدة نفسية والسيدة سكينة والإمام، وكل تلك المنطقة التي تعرف بمنطقة الخليفة. وما يؤكد ذلك أكثر أن الأسطى ربيع الذي كان عاشقًا للحمام قد نسي أمر الزواج تمامًا كما قال الكاتب: "في ظل انشغاله وعشقه للحمام، نسى الأسطى ربيع أمر الزواج، وأسقطه من حساباته، واكتفى فقط ببيع وتبادل الحمام فى سوق الجمعة، وصنع الغيات، واصطياد الأنواع المختلفة من الحمام"، " و كان قد أوصى بأن تفك قيود الحمام ويطلق عبر الهواء الطلق حين يموت أو يحدث له مكروه، وبالفعل حين مات الأسطى ربيع معلقًا في غيته بعد أن تدلت رجله منها أراد الجميع أن ينفذوا وصيته فقد تجمعوا فور تأخره عن القدوم إلى المسجد وذهبوا فورًا إلى بيته وغيته، وهي الروح الطيبة التي تسأل عن محبيها وعن معارفها وهي روح أولاد البلد، وعلموا أنه قد فارق الحياة، قفاموا بنصب صوان له قبل أن يدفنوه وقد أعلنوا أن دفنه في اليوم التالي وهم في خضم ذلك المشهد الحزين لم ينسوا وصيته حتى لا ينال عذاب حبس الحمام، بل أضافوا على روحه الطيبة أرواحًا أخرى محبة للناس حين جعلوا الحمام يذهب كيفما شاء، وأزالوا الغية الخاصة به؛ حتى لا يعود مرة أخرة ويذهب لصاحب النصيب. هكذا أراد أن يقول لنا الكاتب، وهكذا أراد أن يعبر عما جاشت به نفسه في ذلك الحي الذي عاش فيه ردحًا من الزمان ويظل على هذه الروح العظيمة في باقي القصص الخاصة بالجزء الأول من هذه المجموعة، وهي تعد متتالية سردية تعبر عن المكان المصري الأصيل، وإذا كانت قد عبرت عن جزء من المكان فهذا الجزء قد عبر عن الكل وهي عبقرية من الكاتب حين يرصد تلك الروح في أقسى حالاتها وأيضًا في أسعد حالاتها. وفي الجزء الثاني من هذه المجموعة، الذي حمل عنوان "قبل وبعد"، يحاول الكاتب تبيان العالم المزيف من الحقيقي، وكيف أن هذا العالم هو من يسعى إليه الكثيرون أي أن هناك الكثيرين وهم في حقيقة الأمر مزيفون، ليس فقط في تغيير بعض الملامح، بل أيضًا تغيير في النفوس وتزييفها. نرى آمال في تلك القصة التي حملت العنوان نفسه تريد التغيير، أي تغيير أنفها بتصغيره، رغم أن الجميع يشهد بجمالها، ولكنها تصر على أن أنفها كبيرة، وما زاد الأمر سوءًا أن زميلة لها قد ذكرت لها أن "مناخيرها كبيرة" وهو ما جعلها تعتكف في بيتها محاولة البحث عما يصغر ذلك الأنف. ويظهر لنا العالم المزيف في ذلك الرجل الذي شرب المخدرات وسار في الشارع وظن أن مناخيره طويلة فحاول أن يبتعد عن السيارة القادمة من بعيد حتى لا تصطدم به سعيًا من الكاتب على تأكيد أن معظم حياتنا فيها كثير من التزييف. لقد كان الزوج يعلم حق العلم أن زوجته جميلة ولا تحتاج إلى تلك العملية، فيما أصرت زوجته على الذهاب إلى طبيب التجميل لتشاهد عنده العالم الحقيقي للإنسان قبل إجراء العمليات والعالم الآخر بعد إجرائها، كما هو الحال في التخسيس "قبل وبعد". وفي تصغير الأنف والصدر وغيرهما، أي هناك ما يعزف عليه الكاتب "قبل وبعد"، لدرجة أن الطبيب نفسه تغيرت نظرته إلى الحياة، فقبل أن يدخل كلية الطب كان هدفه دخول تلك الكلية لمساعدة المنكوبين في الحروب من خلال عمليات التجميل، ولكنه بعد أن انخرط في أجواء الطبقات الراقية من المجتمع، أو بالمعنى الدقيق الطبقات الثرية، ورأى التغيير في كل شيء في أجسادهن، نسي ما كان من أجله دخل كلية الطب. إذًا هناك ما هو قبل وهناك ما هو بعد يؤكد عليه الكاتب في تلك المجموعة، بخاصة الجزء الثاني منها.