ها هو الشاب يجلس في الظلام في أحد الميادين الكبرى وحوله خيام منصوبة وأناس يهرولون وضجيج القاهرة يتداعى إلى المشهد ؛ يرتدي الشاب نظارة سوداء وسترة محكمة حتى العنق يقبع في الجو البارد غير عابيء بالعواقب فقد حركته غاية أسمى ومستقبل وطن اختطفه الاستبداد والقهر وخنقت فيه الحرية على مدى ثلاثة عقود. إنه يجلس بهدوء شديد ويروي ما الذي جاء به إلى ذلك المكان، إنها قصة آلاف من الناس وفي الوقت ذاته قصة هذا الميدان وهذه الثورة. إنه يحكي كيف رأى في الخامس والعشرين من يناير هذا الجمع من البشر يسير أسفل منزله متجهاً نحو ميدن التحرير وكيف تدفق الناس من كل حدب وصوب وكأنه حج الديمقراطية ليجتمعوا على قلب رجل واحد من أجل اسقاط النظام وظل يحكي كيف تحدى نظام مبارك رافضا العودة إلى بيته وكيف كافح يوماً بعد يوم في الميدان من أجل حريته وحرية بلاده، وكيف تم القبض عليه وكيف تم تعذيبه، وكيف ظل في محبسه لأسابيع طوال دون سبب. ظل يروي الشاب تلك الأحداث كلها بهدوء وارتياح ويسردها بحنين جارف. وما يدفع المستمعين إليه إلى البكاء هو أنه لم يستطع أحد ولا أي شيء إيقاف هذا الشاب، وكيف تم إصابته وتم اعتقاله وتعرض للتعذيب، وبرغم ذلك كله لم يتراجع. من البديهي ألا يحدث ذلك إلا في قصة ميدان التحرير في قلب القاهرة وقصة هؤلاء الذين كافحوا من أجل الحرية والديمقراطية، إنها قصة: "أنا في الميدان". يُعتبر هذا الفيلم الوثائقي للمخرجة ألفت عثمان واحد من الأفلام العربية الستة التي تُعرض في الفترة من 17 إلى 23 أكتوبر الجاري في مهرجان لايبتسج للأفلام الوثائقية وأفلام الرسوم المتحركة بألمانيا. ومن فاعليات المهرجان فئة البرنامج الدولي الربيع العربي والتحولات في العالم العربي، حيث تستعرض ستة أفلام من تونس ومصر بشكل خاص وقائع الأحداث قبل وأثناء وبعد الثورة. تقول ألفت عثمان: "كان من المهم بالنسبة لي توضيح أن الثورة قد بدأت في التو". بدأت أحداث فيلمها في 25 يناير 2011 وانتهت في 1 أغسطس 2011 ، والذي جمع بين البداية والنهاية هي نداء الحرية من قبل المتظاهرين. وتواصل ألفت حديثها قائلةً: "لم يتغير شيئاً ومن المهم بالنسبة لي عرض ذلك". وتدع ألفت عثمان الأبطال المحوريين في فيلمها يحكون عن تجاربهم وآمالهم، فهي تأخذ الجمهور في رحلة عاطفية من خلال المراحل المختلفة للثورة، وتبين كيف تواجد الأبناء والبنات والآباء والأمهات معاً في الميدان للكفاح من أجل مصر حرة وجديدة. وقد تبعت ذروة المشاعر العاطفية التي تفجرت في 11 فبراير عندما سقط مبارك ضربات عميقة حينما تعرضت مسيرة في يوم المرأة العالمي في 9 مارس للضرب بوحشية، كما تم إلقاء القبض على كثيرين على يد الشرطة العسكرية. "أنا لا أرى أي تغيير، سأبقى في الميدان"، وتحولت هذه العبارة آنذاك إلى شعار محبب. وإلى جانب ألفت عثمان يعرض كل من أمل رمسيس (مصر، إسبانيا) ومراد بن الشيخ (تونس) ورضا التليلي (تونس) ونادية الفاني (فرنسا، تونس) وتامر عزت (مصر) أفلاماً وثائقية عن فترة الثورة في بلدانهم. ويحكون جميعاً في تصويرهم الشخصي لأوطانهم عن الناس الواقفين وراء الثورات، حيث إن الناس هم الذين أعطوا الثورة رخما. وتسمح تلك الأفلام للمشاهد بإلقاء نظرة قريبة لحالة الروح المعنوية للشعب، والتي لا تزال بالنسبة لمن يشاهد الأحداث من الخارج في كثير من الأحيان مرفوضة. وكانت الشجاعة هي أبرز الأشياء التي تحلى بها الناس في العالم العربي، حيث واجهوا إرهاب وقهر الدولة في أحيان كثيرة. وتُعد الأفلام شاهدا على هذا الكفاح التاريخي الذي لم ينته بعد، وهو الأمر الذي يعرفه جيداً الأبطال.