كان أمرا أصابنى بالذهول أن أجد كتاب «النار والغضب» الذى هز أمريكا والعالم معروضا بكثافة فى جناح سور الأزبكية بمعرض الكتاب فى مقابل قيمة زهيدة لا تتجاوز 25 جنيها بعد المساومات المعتادة. الكتاب بالطبع مزور ولكنه مطبوع بنفس القطع ويحمل نفس الغلاف للكتاب الأصلى الصادر عن دار هنرى هولت الأمريكية. الكتاب الفضيحة كما هو معلوم يحقق أعلى مبيعات فى الأسواق الأمريكية والأوروبية . المدهش أن الكتاب الذى ألفه الصحفى الأمريكى مايكل وولف صادر فى الخامس من يناير الماضى، ومع ذلك وجد بعضهم الطريقة لطبعه وطرحه فى معرض الكتاب الذى بدأ بعد 22 يوما فقط من صدور الكتاب الأصلى فى نيويورك، وقد علمت أن صورة « pdf» من الكتاب سربت إلى مواقع الإنترنت، ومن هناك تفتق ذهن أحدهم لنسخها وطبعها فى صورة نسخة ورقية عرضها بمنطقة الكتب القديمة.. وبهذا السعر الزهيد؟!. لا أعرف التبعات القانونية لهذا الفعل المجرم وفقا للاتفاقيات التى وقعنا عليها، ولكنى أعرف أن خيمة سور الأزبكية تعج بعشرات الكتب المقلدة لكتاب وروائيين مصريين، محدثين وقدامى، والتى يزداد عليها الإقبال لأسعارها التى تقل عن 30 جنيها للنسخة وهو ما لا يزيد على ثلث أو أقل من السعر الذى تباع به هذه الكتب لدى دور النشر المصدرة لهذه الكتب وتعرضها فى أجنحتها على بعد أمتار من خيمة سور الأزبكية.. أكبر أجنحة المعرض على الإطلاق والأكثر ازدحاما ؟!. هذه الظاهرة وهذا التناقض يفضحان أزمة النشر فى بلادنا حيث ارتفعت أسعار الكتب مؤخرا بصورة مبالغ فيها تحت دعوى التعويم وغلاء الورق والأحبار، وسط زيادة كبيرة ومفرحة فى الإقبال على القراءة خاصة بين الشباب، وقد وجد البعض فى هذا التناقض فرصة لتحقيق الأرباح من خلال تدشين تجارة سوداء فى الكتب الأكثر مبيعا، وتخصصت مطابع فى نسخ وتزوير هذه الكتب وطرحها بأسعار تؤكد أن هناك مبالغة واضحة من دور النشر المعتمدة فى تسعير إصداراتها على نحو ما نراه. ولا يمكن الاحتجاج هنا بأن حقوق المؤلفين هى التى تصنع الفارق بين سعر الكتاب لدى الناشر والكتاب المزور، وكما يعلم المهتمون بسوق النشر فإن حفنة قليلة من الكتاب والروائيين هم الذين تتنافس عليهم دور النشر وتعطيهم ما يستحقون، أما الغالبية العظمى من الكتاب وخاصة الشعراء والروائيين فهم يتقاضون مقابلا زهيدا لمؤلفاتهم، وكثير منهم يدفع تكلفة الطبع والنشر أو على الأقل يشارك فيها حتى يرى كتابه النور. عدوى الأسعار المرتفعة انتقلت حتى للكتب الصادرة عن وزارة الثقافة، ولأول مرة أرى كتبا صادرة عن المجلس القومى للترجمة والنشر تتجاوز قيمتها 200 جنيه وأكثر، ومع ذلك فإنها تقل كثيرا عن أسعار الكتب المترجمة عبر دور النشر السعودية واللبنانية التى يزداد نشاطها فى عالم الترجمة حتى أصبحت تستحوذ على حصة نوعية من السوق، كما وكيفا، تزداد اتساعا عاما بعد عام. نشأة الاقتصاد الأسود فى سوق الكتب تمثل دليل فشل للمنظومة الاقتصادية والقانونية لهذا السوق، وفى الوقت الذى تسعى الدولة فيه للحد من الأنشطة غير الرسمية للأسباب المعروفة نجد أن سوقا مثل سوق النشر يغوص فى بحر الاقتصاد الأسود بسبب عشوائية الإدارة وانفلات الأسعار. اليوم كل أطراف صناعة النشر تتضرر مما يحدث، الكتاب والروائيون وهم ثروة الأمة يعانون من صعوبات نشر إبداعاتهم بسبب تمنع الناشرين عنهم، والناشرون يجأرون بالشكوى من انتشار التزوير، والقراء ولاسيما الشباب لا يملكون المال الكافى لمقابلة الأسعار المبالغ فيها، أما الفائز الوحيد فى هذه الديلمة فهم المزورون فى سوق الكتب وهم الأخطر على الصناعة وعلى الاقتصاد كله من حيث كونهم يمارسون تجارة سوداء لا تعرف عنها الدولة ولا الضرائب شيئا. فى هذه المشكلات يظهر دور الدولة ودور غرفة المطابع واتحادات الناشرين والأدباء والمؤسسات الصحفية القومية حيث ينبغى تشكيل لجنة من ممثلى كل هذه الجهات للتوصل إلى حلول تتعلق بالتكلفة وتتعلق بالأرباح المقبولة وبحقوق المبدعين، وقد تكون الطبعات الشعبية حلا معقولا لتخفيض أسعار الكتب للشباب كما يمكن للجامعات أن تلعب دورا فى شراء الكتب الأكثر إقبالا من الطلاب وإعادة بيعها بقدر من الدعم لطلابها باعتبار نشر الثقافة يمثل دورا أصيلا للجامعات، أما وزارتا الثقافة والمالية فلهما الدور الأكبر لمحاصرة الانفلات فى سوق الكتب من خلال مكافحة التجارة السوداء فى الكتب وتشجيع الصناعة المحلية على تطوير نفسها وحل مشكلاتها خاصة على صعيد التسعير.. والأهم على الإطلاق هو عودة النشاط لسوق الترجمة الطليعى فى مصر عبر تشجيع القطاعين العام والخاص لزيادة أعداد الكتب المترجمة سنويا والاهتمام بنوعياتها ومقابلاتها لاحتياجات القراء المتجددة، قبل أن يهرب هذا السوق الذى كنا روادا فيه إلى دول أخرى.