إذا ما صار الإصلاح موضوعا للنقاش المطول دون إخضاعه للتنفيذ، فإن الضرر الذى قد يعود من هذا يفوق أى فائدة مرجوة. وفى العديد من أكثر الإصلاحات الاقتصادية نجاحا فى التاريخ، تعلمت الدول الذكية من النجاحات التى حققتها سياسات دول أخرى، وعملت على تكييفها مع الظروف المحلية. ففى التاريخ الطويل من التنمية الاقتصادية، تعلمت بريطانيا فى القرن الثامن عشر من هولندا، وفى أوائل القرن التاسع عشر تعلمت بروسيا من بريطانيا وفرنسا، وفى منتصف القرن التاسع عشر تعلمت اليابان تحت حكم ميجى من ألمانيا، وتعلمت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية من الولاياتالمتحدة، وتعلمت الصين من اليابان. وكان بإمكان مصر أن تكون من بين تلك الدول الناجحة لو استطاعت أن تسير بنفس الخطى التى خطتها عقب ثورة 1952، لكنها توقفت بفعل عوامل كثيرة خارجية وداخلية، لعل أهمها إعطاء المصلحة الشخصية الأولوية عن مصلحة الوطن . لقد عشنا لفترة طويلة من تاريخنا المعاصر نعتمد فى مواقع المسئولية على أهل الثقة، وكانت الأخطاء تغتفر طالما أن مرتكب هذه الأخطاء من أهل الثقة. اليوم مصر فى أشد الحاجة إلى أهل الخبرة، حيث إن الأهداف يجب أن تكون مرتبطة بالواقع وبمستقبل له طموحه وآماله ونسعى إليه جميعا. ولا يمكن أن تتحقق الأهداف إلا بسياسات غير تقليدية مستمدة من فكر غير تقليدى. ومن طبيعة أهل الخبرة الإبداع. وكم من المشاكل التى يواجهها مجتمعنا اليوم تحتاج إلى الإبداع والابتكار. فقرار حرب 1967 هو قرار أهل الثقة وقرار حرب أكتوبر 1973 هو قرار أهل الخبرة. وتملك مصر الكثير من القدرات التى تمكنها من استيعاب الجديد فى الأساليب العلمية والجرأة فى تطبيقه قبل غيرنا من الشعوب والإصرار على الوصول إلى النتائج رغم محدودية الإمكانيات. وقد استطاعت مصر فى فترة زمنية قصيرة أن يضرب بها المثل فى التخطيط. لقد سبقت العالم النامى فى إعداد أول خطة اقتصادية واجتماعية، وكانت من أوائل الدول فى اتخاذ التخطيط أسلوبا للتنمية. واعترف خبراء الأممالمتحدة فى ذلك الوقت بأن مصر شهدت حتى منتصف الخمسينيات صرحا إحصائيا جمع بين الدقة والتفصيل والشمول والاستمرارية ووحدة المفهوم مما جعل هذا الصرح لبنة أولى فى إمكانية التخطيط. حيث إنها اتبعت أحدث الأساليب العلمية آنذاك وهو استخدام نماذج البناء الاقتصادى الرياضى والقياسى فى إعداد الخطة. هذا الأسلوب كان وقتها جديدا على العالم كله المتقدم منه والمتخلف . بل إن جامعات أوروبا والولاياتالمتحدة كانت تدرس هذا العلم على استحياء ولم يكن أحد يتوقع أن يكون له هذا الشأن الذى نشهده الآن. والميزة الثانية هى أن أفق التخطيط لم يقتصر على خمس سنوات بل نظر المخطط إلى صورة مصر بعد عشرين سنة. والشىء الذى يجب أن نعرفه جميعا ويعرفه جيل الشباب أن اللجنة المكلفة بوضع الخطة اختارت أستاذين عالميين لكى يشاركا مع الخبراء المصريين فى إعداد الخطة هما أيان تنبيرجن وراجنر فرش اللذان حصلا فيما بعد على جائزة نوبل فى الاقتصاد، وكانا وقتها علمين من أعلام التخطيط، بل على يديهما نشأ علم التخطيط الاقتصادى. لكن عندما دخلت الأطماع الشخصية إلى صدور البعض بدأ التلاعب فى مجريات الخطة مما حدا بصانع القرار بالإسراع إلى إنشاء بنك الاستثمار القومى الذى جاء لمعالجة سلبيات تقارير وزارة التخطيط حيث دأبت الوزارة على نشر تقارير عن تنفيذ الخطة تخالف الحقيقة مما كان يعطى صورة وردية عن تنفيذ الخطة لا وجود لها فى الواقع . وجاء البنك ليكون الهدف الأساسى منه العمل على تنفيذ الخطة بأكبر قدر من الكفاءة، عن طريق متابعة التنفيذ وربط التمويل بالتقدم فى التنفيذ، ونشر تقارير موضوعية عن هذا التنفيذ. وكان هذا يعنى وجود هيئة تراجع وزارة التخطيط فيما تقدمه من بيانات وأرقام للرأى العام وللقيادة السياسية. فقد وصل الأمر إلى عدم معرفتنا بحقيقة ديوننا الخارجية، حيث اختلفت التقديرات حول حقيقة ديوننا الخارجية، حيث أعلن صندوق النقد الدولى فى تقريره السنوى عن اقتصاد مصر أن الديون الخارجية فاقت ثلاثين بليون دولار فى نهاية عام 1984، بينما كان الرقم الذى أعلنه وزير التخطيط أمام مجلس الشعب لا يزيد على 14 بليون جنيه، وفى حديث لوزير التخطيط فى 23 سبتمبر 1985 ذكر أن ديون مصر الخارجية بلغت 16 ألف مليون جنيه. هذا بالإضافة إلى فشل كثير من مشروعاتنا الكبرى بسبب اسناد تلك المشاريع إلى أهل الثقة. لماذا لم نستفد من تجارب الآخرين فى إقامة المشروعات الكبرى؟ خاصة أن الكثيرين يتناولون القشور دون الغوص الحقيقى وراء نجاح هذا المشروع أو ذاك. فهناك مشاريع يفخر بها الأمريكان لنجاحها الباهر ليس للعامل الإيديولوجى أو الانتماء الحزبى بل لإبعاد السياسة عن المشروع. فالقصة الحقيقية للنجاح تكمن فى الأساس فى ابعاد السياسة عن الاقتصاد، وإبعاد التوجه الحزبى فى اختيار العاملين فى المشروع ومن يعمل فى السياسة فى أى مشروع مصيره الفصل. وهناك تشريع صريح أقره الكونجرس الأمريكى بوجوب إبعاد السياسة عن المشروعات الاقتصادية، كما لا يجب البت فيها سياسيا أو عن طريق الهيئات السياسية، وهذا ما حدث بالفعل مع مشروع "وادى تنيسى" حيث تم ابعاد إدارة المشروع عن الحزبية، فجاء التشريع كالآتى :لا يجوز التعيين تبعا لأى اختبار أو مؤهلات سياسية أو اعطائها أى اعتبار بل يجب عمل ومنح جميع هذه التعيينات والترقيات على أساس الكفاءة والجدارة. وأى اختراق لهذا النص سوف يعرض عضو مجلس الإدارة للعزل بواسطة رئيس الجمهورية أو أى موظف للفصل بواسطة مجلس إدارة المشروع. فالموظف الذى يدين بتعيينه إلى حزبيته لا يمكن أن يقصر وفاءه على مصالح المهمة وأغراضها العامة فقط، وبذلك يتلقح المشروع بأكمله بالآراء النصف فنية والنصف سياسية وينهار الأساس الذى تقف عليه إدارة المشروع وتتضاءل ثقة الجمهور فى نزاهتها. فما دخلت الحزبية يوما على مشروع مبنى على الكفاءات الخبيرة إلا وتخلخل بناؤه وأصبح غير مأمون. فالإداريون والفنيون مهما اعتقدوا فى سمو وحكمة أغراضهم لا يمكن أن يصل ورعهم وتعنتهم درجة الجمود بسياسات أحزابهم. ومن ثم سوف يصطفون ويتساهلون مع لونهم الخاص والاهتمام بالأنصار على حساب الجمهور سواء أكان بدافع من الصداقة الشخصية أو الروابط العملية أو الاجتماعية، أو نتيجة لتزكية بعض هواة السياسة لكفاءات غير مكتملة اغتروا بها. وقد استنت إدارة وادى تنيسى سياسة تحرم على أى شخص له علاقة بها أن يكون له نشاط سياسى حتى فى الشئون البلدية. فلا يحق لأى موظف فى إدارة وادى تنيسى أن يرشح نفسه لعضوية أى مجلس بلدى أو أن يكون له نشاط انتخاب من أى نوع إلا إعطاء صوته بالطبع. فما الذى كان يؤدى إليه إذا تدخلت السياسة فى اختيار موظفى إدارة وادى تنيسى أو فى الإدارة التفصيلية للأموال التى تنفذ بها المهمة؟. إن هذا يعنى أن آلاف الكيلومترات من خطوط الشبكة الكهربائية وخطوط السكك الحديدية التى شيدتها إدارة وادى تنيسى كانت ستبنى فى أماكن لا تحددها عوامل اقتصادية أو هندسية، ولكن على أسس سياسية. فالمدينة التى تعطى أصواتها بالشكل الصحيح لأى حزب معين أو مرشح معين والصناعة التى ستنحاز إلى سياسة معينة كانت ستكافأ عن طريق توطيد خطوط الشبكة الكهربائية بجانبها، رغم أن هذا التوطن لا تبرره الحقائق الاقتصادية، أما المدن أو الصناعات التى لا تصوت بالشكل الصحيح فقد نجد محطاتها الكهربائية الفرعية وقد أهملت وخدمتها قد ساءت وتوقف نموها الصناعى. ولو كانت إدارة وادى تنيسى تحت إدارة سياسية لأصبحت عمليات شراء خاماتها وأدواتها مكافآت سياسية عظيمة. نحن أمام مرحلة جديدة تتطلب منا تكاتف جميع الجهود على هدف واحد. وكانت هناك تجارب ناجحة علينا استعادتها من جديد مثل بنوك التنمية الوطنية لتكون أكثر قدرة على النهوض بمتطلبات التنمية بتعبئة المدخرات ومعاونة المدخر والمستثمر الصغير على التعرف على مجالات الاستثمار وتوجيه موارد هذه البنوك نحو المشروعات الاستثمارية والمساهمة فى رءوس أموال الشركات التى تقام بالمحافظات. فبنوك التنمية الوطنية تكونت جنينا فى رحم التنمية الشعبية وأنها أيضا هى التى تولت حضانتها وتنشئتها حتى بلغت رشدها، ثم انحرفت عن مسارها. إن التصور المستقبلى لبنوك التنمية الوطنية يتمثل فى العودة إلى جوهر وظائفها الأولى وغاياتها الأساسية التى انحرفت عنها. والفرصة اليوم متاحة للاستفادة من التمويل الإسلامى خاصة أنها متاحة فى سبعين دولة على الأقل، وتبلغ أصولها المالية أكثر من تريليون دولار. لكن علينا أن نسير بحذر، وأن تكون رافدا ضمن الروافد الأخرى وليست بديلا عنها على الأقل فى المرحلة الحالية. خاصة أن البنك الألمانى "دويتشه بنك" يتوقع نمو الأصول الإسلامية بمعدل سنوى مركب يبلغ 24على مدى الأعوام الثلاثة المقبلة. فالتمويل الإسلامى يقدم للمدخرين والمستثمرين بدائل عملية للأدوات المالية التقليدية. جودة الخدمات المالية الإسلامية فى تحسن مستمر، وهذه الخدمات ليست مقصورة على عملاء بعينهم. كما تعرض المؤسسات المالية التقليدية المتعددة الجنسيات على نحو متزايد أصولا إسلامية، وهناك اهتمام متزايد بهذه الأصول فى لندن، ولوكسمبورج، وغيرهما من العواصم المالية العالمية. وكان ارتفاع أسعار السلع الأساسية فى بعض الدول الإسلامية سبباً فى توليد فوائض لابد من تخصيصها من خلال الوسطاء الماليين وصناديق الثروة السيادية. كذلك علينا أن نعيد النظر فى تدفقات تحويلات العاملين فى الخارج، فهى عنصر هام لتمويل التنمية، وتتسم بقوة نسبية مقارنة بالاستثمار الأجنبى المباشر، وسيزداد حجم هذه التأثيرات الإيجابية عندما يتسنى ادخار التحويلات المالية واستثمارها فى الهياكل الأساسية والقدرة الإنتاجية. ويتأثر العاملون المصريون فى الخارج بعدم إتاحة الاستفادة من الاستحقاقات الاجتماعية، مثل معاشات التقاعد، وعدم وجود إمكانية لنقلها، الأمر الذى يقلل من قدرتهم على المساهمة فى التنمية من خلال التحويلات المالية. وهناك تجارب ناجحة فى كل من المكسيك والفلبين فى كيفية الاشتراك فى نظم المعاشات التقاعدية الوطنية وبرامج الرعاية الصحية. كذلك يجب أن ندقق فى اختياراتنا للمشروعات الكبرى من وجهة النظر القومية فإن معيار جدوى المشروع الذى تتحدد على أساسة درجة أولوية يأخذ أبعادا أكثر ارتباطا بالأهداف القومية والاجتماعية للخطة. إذ لا يقتصر الأمر على عائد المشروع نفسه وتكلفته كوحدة قائمة بذاتها وإنما تتمثل آثار المشروع ومساهمته فى تحقيق أهداف الخطة المضمون السياسى والاقتصادى الذى يتم من خلاله تقييم المشروع. كل ذلك لابد أن يتم من داخل استراتيجية للتنمية. ولكى نصل إلى هذه الإستراتيجية لابد من وضع مجموعة من السيناريوهات أو البدائل لصورة مصر بعد عقد من الزمان ويشترك فى وضع هذه السيناريوهات مجموعة من المفكرين بمختلف تخصصاتهم ومذاهبهم . وليس المطلوب هو الاتفاق على سيناريو واحد وإنما المطلوب مجموعة من السيناريوهات قد تتباين فيما بينها. وعند الانتهاء من إعداد هذه السيناريوهات، يبدأ الحوار بين مجموعة المفكرين والقيادة السياسية لاستبعاد أكثر هذه السيناريوهات تطرفا وبعدا عن إمكانية التحقيق. هل نستغل الفرصة فى بذل جهد علمى وعملى لإعداد خطة اقتصادية للخمس سنوات القادمة بعيدا عن السياسة وصناديق الانتخابات