اتجهت الشركات العملاقة فى الأسواق الناشئة وخاصة شركات انتاج النفط الخام منذ عام 2009 إلى إصدار سندات دولارية بغرض سد فجوتها التمويلية وضخ استثمارات فى بنيتها التحتية انعكست على زيادة قدراتها الانتاجية، وقد وجدت فى الدولارات الرخيصة ضالتها المنشودة بفضل سياسات التيسير الكمى التى انتهجتها الولاياتالمتحدةالأمريكية والتى اتاحت لها السيولة الكافية لتنهل من هذه الدولارات كيفما تشاء، تفضيلا لها على الاستدانة بعملاتها المحلية. ولكن وفى الربع الأخير من عام 2014 ظهرت بوادر تغيير بنك الاحتياطى الفيدرالى لسياسته لتنتهى موجة شراء أذون الخزانة ويقرر رفع أسعار الفائدة على الودائع، فيصعد الدولار مرة أخرى ويرتفع سعره، لتبدأ دورة أخرى للقروض الدولارية ولتفاجأ الشركات بمديونيات متراكمة من أصل وفوائد عليها مستقبلا سدادها من أرباح باتت متناقصة بفعل تدهور سعر برميل النفط فى السوق العالمى أو بسبب عوائد وحصيلة ضئيلة من عملات محلية انخفضت بشدة أمام الورقة الخضراء. وهنا تثور موجة من الأسئلة الملحة التى تبحث عن اجابات حائرة وسط كل ما يحدث حاليا فى الأسواق العالمية، ولعل من اهمها هل تستطيع الشركات تسديد ديونها؟ وكيف تتعامل الأسواق مع الدولار فى حالة صعوده وهبوطه، وعموما ليست هناك إجابة قاطعة ولكن ما يسعنا هو إلقاء بعض الضوء على ما يحدث فى الأسواق لعلنا نستنتج بعض ما يسد فضولنا ورغبتنا فى المعرفة. والحقيقة أن هذه هى ليست المرة الأولى التى ظهرت فيها أزمة القروض الدولارية التى حصلت بموجبها شركات الأسواق الناشئة على المليارات من الدولارات ولكن كان أغلبها فيما مضى قروضا قصيرة الأجل، أما الآن فالوضع قد اختلف باختلاف آجال القروض ومن حيث طبيعة الدور الذى تؤديه. - الوضع الحالى فى الأسواق وتشير الإيكونومست إلى أن هناك أمثلة ومؤشرات لما يحدث فى الأسواق الآن، فقد أعلن رئيس شركة بيمكس المكسيكية والمملوكة للدولة إلى أن شركته تواجه أزمة سيولة، بينما قامت شركة النفط الماليزية والمملوكة ايضا للدولة بتسريح أعداد كبيرة من عمالها. أما شركة بتروبراس البرازيلية فقد أمنت قرضا من بنك الشعب الصينى بقيمة 10 مليارات دولار ليساعدها على تسديد سندات حان أجلها. وطبقا لأرقام بنك التسويات الدولية، فقد قفزت مديونيات الشركات العملاقة الموجودة فى 12 دولة من دول الأسواق الناشئة من 60٪ إلى 100٪ من إجمالى الناتج المحلي. وتظهر الأرقام أن الدول التى خبرت مستويات أعلى من الديون هى نفسها تلك الدول التى تعانى من التباطؤ وانكماش إجمالى الناتج المحلي. كذلك فإن الشركات العملاقة الموجودة فى دول الأسواق الناشئة كانت تستطيع لفترة من الوقت الاقتراض كيفا يتراءى لها وبحرية كاملة بالدولار، حيث قدرت قروض الدولار لمقترضى الشركات أو الحكومات فى الأسواق الناشئة من خارج الجهاز المصرفى بنحو 3.3 تريليون دولار حتى منتصف العام الماضي، وكذلك تشيرالأرقام إلى أن القروض الممنوحة بالدولار لمقترضين من خارج الولاياتالمتحدةالأمريكية كانت تنمو وبسرعة أكبر من تلك الممنوحة لداخل الولاياتالمتحدةالأمريكية حتى وقت قريب، ولعل سندات شركات الأسواق الناشئة تميزت بكونها الأسرع نموا من جميع أنواع القروض الأخرى. - الأسواق العالمية فى الأعوام السابقة ويقول جيم كاروانا رئيس بنك التسويات الدولية إن دورة السيولة المالية العالمية - وتناقص الاقراض بالدولار خارج الولاياتالمتحدةالأمريكية - يساعد على تفسير التباطؤ الاقتصادى فى دول الأسواق الناشئة، وارتفاع سعر صرف الدولار أمام العملات الأخرى، والتخمة المفاجئة لأسواق العالم بالنفط. فعندما كان الدولار أقل قوة، توافرت معدلات سيولة مالية مرتفعة لأسواق العالم بسبب شراء بنك الاحتياطى الفيدرالى لأذون الخزانة أو ما نطلق عليه سياسة التيسير الكمى التى بموجبها استطاعت الشركات الكبيرة خارج الولاياتالمتحدةالأمريكية الاقتراض بالدولار وذلك بسبب رخص هذه القروض مقارنة بقروض بالعملات المحلية، حيث استطاعت تدفقات رءوس الأموال من زيادة أسعار الأصول المحلية بما فى ذلك العملات مما جعل المديونية بالدولار تبدو الاسهل والاقل تكلفة. والمعروف أنه إذا ظل الدولار على وضعه استمرت القروض الرخيصة ودام ارتفاع الأصول المحلية وزيادة النمو الاقتصادى لاقتصادات دول الأسواق الناشئة، ولكن عندما أخذ الدولار فى الزيادة والارتفاع أمام العملات الأخرى اختلف الأمر للنقيض، فقد ارتبط صعود الدولار بتغيير الولاياتالمتحدة لسياستها النقدية منذ مايو 2013، عندما بدأت تلمح خفية إلى تراجعها عن سياسة التيسير الكمي، وبتوقف بنك الاحتياطى الفيدرالى عن شراء السندات فى اكتوبر 2014، وبعد ذلك بنحو14 شهرا قررت الولاياتالمتحدة زيادة اسعار الفائدة، التى حدت فى النهاية من رغبة المستثمرين الأمريكيين فى الاستثمار خارج بلادهم للحصول على الفوائد. - أثر ارتفاع الدولار ويشير السيد جيم كاروانا إلى وضوح أثر هذا التحول الطفيف فى قيمة الدولار أمام عملات دول الأسواق الناشئة فى الدول التى اعتمدت على الاستدانة وتسديد الاقساط والفوائد بالعملة الخضراء، حيث سجلت أسعار الأصول انخفاضا واضحا فى هذه الدول، كما قلصت الشركات من استثماراتها وعدد العمال والموظفين بها، بالإضافة إلى ضعف إجمالى الناتج المحلى بهذه البلاد مما أدى إلى مزيد من خفض أسعار الصرف للعملات الوطنية لهذه البلاد، ولان معظم هذه القروض تستفيد منها شركات النفط، فقد جاءت النتيجة هى تخمة الأسواق بالخام الأسود، حيث يقوم المنتجون باستخراج وضخ الحد الأقصى الذى يمكن استخراجه لتسديد القروض بالدولار، ولكن هناك المزيد من الأسباب التى أسهمت فى خفض العملات الوطنية لدول الاسواق الناشئة وللدول الغنية مثل كندا واستراليا والنرويج على حد سواء وذلك يرجع إلى انهيار أسعار المواد الخام والسلع الأولية التى تصدرها هذه الدول مما تسبب مباشرة فى انخفاض عوائد الصادرات وانخفاض حصيلتها الدولارية وبالتالى خفض أسعار صرف العملة المحلية. - القروض بالدولار ليست معضلة ويعتقد كثير من المحللين ان هناك تضخيما فيما يتعلق بدور القروض الدولارية لأن هناك دولا أخرى مثل تركيا وشيلى لديها نسب ضخمة منها ولكن لم تشهد اقتصاداتها مثل هذه الإحباطات، والحقيقة أن متوسط نسبة الديون بالدولار- التى بلغت 3.3 تريليون دولار- لم تتعد أكثر من 10٪ من إجمالى قروض شركات الأسواق الناشئة، حيث تصل مشاركة الشركات الصينية فى هذه الديون الدولارية إلى الربع تقريبا حتى وقت قريب، حيث عملت الصين ومنذ شهر أغسطس الماضى إثر تردد احتمالات بخفض سعر صرف اليوان على استبدال قروض الدولار إلى عملتها المحلية وذلك وفقا لما صرح به جان دان مدير أحد صناديق مجموعة أشمور هناك. كذلك فإن معظم القروض بالعملة الأجنبية كانت قروضا طويلة الأجل، فعلى سبيل المثال كان متوسط آجال السندات التى أصدرتها الشركات العام الماضى أكثر من 10 سنوات فربما يعزز من احتمالات إعادة التمويل وزيادة الاحتمالات بعدم السداد فى المستقبل البعيد، ولكن يجب أن نأخذ فى الاعتبار أيضا أن معظم هذه الديون قد تم منحها فقط فى حالة وجود مصادر محققة للدخل من الدولار أو العملات الأجنبية التى تضمن سدادها كأن يكون للشركة نشاط تصدير مثلا وحتى فى حالة الشركات المصدرة للنفط ومع تدهور اسعاره فهناك فى بنوك الأسواق الناشئة جيوب دولارية تستطيع الشركات الاعتماد عليها وقت الحاجة. - صعود الدولار لن يستمر كذلك فهناك مؤشرات غير مبشرة تتعلق بدورة القروض بالدولار، فقد أوضحت دراسة لبنك التسويات الدولية أن شركات دول الأسواق الناشئة التى تتمتع بسيولة عالية كان لديها تفضيل لإصدار سندات دولارية، والحق أن هذا الاختيار يتنافى مع عقيدة تمويل الشركات التى تفترض لجوء الشركات للتمويل الخارجى فى حالة استنفادها سبل التمويل الداخلى ولكن ما حدث فى تلك الشركات كان اقرب إلى المغامرة والمخاطرة التمويلية منه إلى الدراسة والأسس المتعارف عليها. ولكن وفى جميع الأحوال، فإن الدولار لن يستطيع مواصلة الصعود حيث تثور الشكوك فى الوقت الحالى حول مقدرة بنك الاحتياطى الفيدرالى على رفع أسعار الفائدة مرة أخرى. - الشركات تصرفت كأنها بنوك وتشير الدراسة كذلك إلى أن كل 17-22 سنتا فى المتوسط من كل دولار تقترضه شركات الأسواق الناشئة تنتهى كسيولة نقدية محملة على ميزانياتها حيث توجه هذه الأموال إلى ودائع مصرفية أو تستخدم فى شراء الأوراق التجارية لشركات أخرى أو يتم اقراضها بصورة مباشرة، أى أن هذه الشركات تتقمص دور المؤسسات المالية أو البنوك وتلعب دورا هى غير مؤهلة له تمام التأهيل ولا يعد من صميم تخصصها او خبرتها، والنتيجة هى تدفق القروض الدولارية فى الأسواق المحلية ولكن هذه المرة بشروط ائتمانية أكثر تيسيرا من تلك التى تفرضها المصارف عادة، متجنبة بذلك مقررات البنوك المركزية والأعراف المصرفية المستقرة مما ينذر بعواقب وخيمة فى المستقبل. هذه هى الطرق التى تؤثر بها دورة القروض الدولارية على جميع أنواع القروض الأخرى فى الأسواق الناشئة، ولكن دورة الائتمان كانت قد اتخذت منحنى آخر العام الماضي، حيث توقف تدفق المزيد من القروض الدولارية لهذه الاقتصادات فى الربع الثالث ولأول مرة منذ عام 2009 طبقا لما أعلنه بنك التسويات الدولية، بل أصبح من العسير الحصول عليها الآن وكذلك الحال بالنسبة للقروض بالعملات المحلية، حيث بدأت البنوك المركزية تشديد الشروط التى تفرضها على الشركات عند منحها القرض وذلك فى الربع الأخير من العام الماضي، فالدولار قد يكون وصل إلى ذروته ولكن الشروط المالية المشددة تستطيع أن تتحمل وتتعامل مع هذا الارتفاع.