الموضوعية والتوازن كانتا السمتين الأساسيتين اللتين تميز بهما الخطاب الاقتصادى للدولة خلال الأسبوع الماضى سواء فى لقاءات الرئيس مع قادة الاعمال فى نيويورك، أو تلك التصريحات التى أعلنها الوزراء على هامش مؤتمر اليورومنى. هذا الأسلوب الصادق فى عرض الحقائق الاقتصادية يمثل نقلة نوعية فى الأداء العام، وفى تقديرى ان هذا هو الاسلوب الاكثر حكمة عند السعى لترويج فرص الاستثمار فى مصر، وهو الهدف الاستراتيجى للبلاد فى المرحلة الراهنة. الرئيس قاد بنفسه جهود شرح فرص الاستثمار المتعددة على هامش لقاءاته السياسية فى نيويورك، وذلك من خلال التنويه اولا عن الصعوبات التى كانت تواجه المستثمرين فى مصر، ثم بعد ذلك تقديم ملخص وافٍ لجهود الحكومة فى تنفيذ الاصلاحات المالية والنقدية وتحسين مناخ الاستثمار بدءا من قانون الاستثمار الجديد وما يقدمه من ضمانات وحوافز، ثم بعد ذلك الاشارة إلى أثر مشروعات الطرق والأنفاق والموانى التى تجرى حاليا فى تحسن مناخ العمل للمشروعات، ثم أشار أخيرا إلى الفرص الواعدة التى يوفرها مشروع قناة السويس الجديدة والمنطقة الاقتصادية حولها. خلال مؤتمر اليورومنى وعلى هوامشه جاءت تصريحات المسئولين اكثر نضجا، وفى الحسبان انهم يخاطبون مديرين تنفيذيين على دراية ومعرفة بتفاصيل فرص وتعقيدات الاستثمار فى أنحاء العالم وبينها مصر، ولهذا كان موحيا التزام الموضوعية فى الحديث حول خطوات الاصلاح وتوقعات التضخم واسعار الصرف والاعتراف بالفجوة التمويلية التى يواجهها الاقتصاد فى النقد الاجنبى وسبل مواجهتها، ولا شك ان كل هذه الامور توضع فى الحسبان عند اتخاذ قرارات الاستثمار ولا سيما القادم من الخارج، فالتضخم وتذبذب اسعار الصرف بجانب عدم وضوح السياسات المالية تعد ابرز المعوقات التى يتحسب لها الاستثمار الاجنبى على الرغم من الجاذبية الواضحة لفرص الاستثمار وارتفاع عوائدها إلى مستويات مغرية ولا سيما فى العام الاخير. المشاركون بالمؤتمر حضروا وهم على اطلاع بالتحسن المطرد الذى طرأ على معدل النمو والذى بلغ 4.9 % فى الربع الاخير من العام المالى، ولكنهم كانوا يحتاجون إلى سماع «تطمينات» ان هذا المعدل سوف يستمر كنمو مستدام ومستقر. ومعروف ان معدل النمو هو المؤشر الابرز الذى يلخص صحة الاسواق وسلامة السياسات الاقتصادية المتبعة. وزير المالية اعلن ان الحكومة تستهدف نموا بنسبة 5.5 % خلال العام الحالى فى ضوء ثبات معدلات الاستهلاك رغم التضخم وارتفاع الصادرات وتعافى الدخل من السياحة والتحويلات والانشطة الخدمية. الجارحى اعترف باستمرار الفجوة بين مداخيل النقد الاجنبى والنفقات وقال ان الوزارة تعمل على توفير 11.5 مليار دولار خلال الفترة المتبقية من الموازنة المالية الحالية، وان كانت غالبيتها قروضا من صندوق النقد والبنك الدوليين والبنك الافريقى اضافة إلى طرح سندات بقيمة 1.5 مليار يورو ضمن برنامج السندات المصرية فى الاسواق الدولية والبالغ نحو 10 مليارات دولار. من جهته أعرب طارق عامر محافظ البنك المركزى عن إصرار الدولة على المضى قدما فى تنفيذ الإصلاح النقدى برغم الآلام مبديا توقعات منطقية بشأن استمرار معدلات التضخم المرتفعة لفترة قد تصل إلى نهاية العام المقبل. العرض الامين لحقائق التطورات الاقتصادية ومؤشراتها تعد سمة ضرورية للاستحواذ على ثقة المستثمرين، وهذا التطور يمثل نضجا كنا نحتاج اليه فى الخطاب الاقتصادى بصفة عامة وفى مخاطبة المستثمرين محليين وأجانب على وجه الخصوص، فلقد ظللنا سنوات نعتمد خطابا إنشائيا رنانا يخاطب عواطف المستثمرين، وقد آن الأوان للبحث عن صيغ جديدة تخاطب عقولهم، فقرارات الاستثمار تتخذ بالعقل وبواسطة خبراء، اما الرطانة اللغوية و»مناشدة» رجال الأعمال للقدوم والاستثمار فى مصر فهو اسلوب عفى عليه الزمن وأثبت تواضع نتائجه. الصين حتى سنوات قليلة مضت كانت تعتمد خطابا للعالم يؤكد انها فى زمرة الدول النامية، والنمور فى اسيا خلال سنوات الصعود التزموا بالعمل المضنى والكلام القليل والعرض الصادق على الدوام للمؤشرات الاقتصادية حتى فى عز الازمة المالية فى اسيا عام 1997. رنة الأمانة والموضوعية فى تصريحات المسئولين الأخيرة تستحق التحية، والأمل أن تنتقل هذه الموضوعية لوسائل الاعلام المختلفة بحيث تصبح تغطيتها للانشطة الاقتصادية أقل مبالغة، وان تتجنب تضخيم نتائج بعض التحسن الذى يطرأ على اى من المؤشرات المالية أو الاقتصادية وكذلك الاحتفاء المبالغ فيه بأى اتفاق مبدئى أو نوايا الاستثمار فى مصر أو بأى خبر طيب يصدر عن مصر فى الخارج فهذه المبالغة والتضخيم تخلق انطباعات زائفة لا تنطلى على الخارج، ثم انها تترك أثرا عكسيا لدى المواطنين فى الداخل.