إن القوة الاقتصادية هى جوهر وأساس القوة السياسية، والاستقلال السياسى بغير الاستقلال الاقتصادى سخرية سياسية جوفاء بمثل ما أن الأخير مستحيل بغير الأول، كان الاستقلال الاقتصادى بوصلة ثورة يوليو، فهل نعيد الكرة مرة أخرى ؟ وإن كان الغرب قد اتهم مصر فى أعقاب ثورة يوليو 1952 بأنها رهنت محصول قطنها لسنوات مقدما لقاء صفقة الأسلحة التشيكية ثم صفقات السوفيت، فإنها بيقين لم ترهن بذلك استقلال مصر ولا مستقبلها. وأزمة مصر الاقتصادية برمتها لا تستقطب ولا تتجسد من وجهة نظر المواطن العادى، مثلما تستقطب وتتجسد مشكلة الغلاء . ففى هذه المشكلة تحتشد وتتلاقى كل خيوط الأزمة وطيوفها كأنها بؤرة عدسة مجمعة . فالاقتصاد المصرى أصبح جزءا لا يتجزأ من الاقتصاد العالمى وأصبح محكوما على الأسعار فى مصر أن ترتفع إلى مستوى الأسعار العالمية لكن الأسعار العالمية متناسبة مع مستويات الدخول والمعيشة بها. والمشكلة أن الحكومة تنظر إلى الاقتصاد من خلال السياسة، بينما ينظر الشعب إلى السياسة من خلال الاقتصاد، ومن هنا التناقض فى الرؤية والثقة، فالأول رأسمالية تدعى الاشتراكية والثانى يريد الاشتراكية ولكن تفرض عليه الرأسمالية . والواقع أن أزمة الاقتصاد أكبر من قضية الدعم والتسعير، فهى قضية النظام الاقتصادى المصرى برمته. فلن تكفى موارد الميزانية كلها ولا قروض العالم لإطعام شعب يدفع دفعا إلى دائرة الفقر لتضغط على عنقه باستمرار ولتعويض غياب إنتاج وطنى مستقل موجه إلى إشباع حاجات الغالبية العظمى من المواطنين. الحل يكمن فى ضرورة إخراج مصر من دائرة التبعية الدولية والإقليمية. علينا أن نعظم الادخار والاستثمار والإنتاج والدخل القومى والفردى إلى الحد الأقصى وتحجيم الإنفاق والاستهلاك والاستيراد والاستدانة والأسعار إلى الحد الأدنى. ولقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن مصر بحجم ظروفها وأوضاعها وواقعها وموقعها لا تملك أن تتطرف سواء فى الانغلاق أو الانفتاح لأنها مريض بداء الاعتدال ومن ثم فهى دائما فى حاجة إلى صيغة تجمع بين الانغلاق والانفتاح. والخطورة أنه أصبح فى مصر طبقتان: أقلية على القمة، دخولها وتطلعاتها وإمكانياتها على المستوى العالمى الغنى المترف وكذلك الأسعار، ومن ثم فهى فى حالة توازن كامل بين تكاليف المعيشة والدخل وبين الأسعار ومستوى المعيشة. وهناك أغلبية عند القاع دخولها وطموحاتها وقدراتها على المستوى المحلى البالغ التواضع، ولكنها عليها أن تعيش تقريبا فى ظل الأسعار العالمية، ومن ثم فإن التوازن بين تكاليف المعيشة ومستوى المعيشة مختل . وبات كثير من المصريين يبتعدون عن الجنيه فى تعاملاتهم كأنه جرثومة معدية يجب عدم الاقتراب منه، بل شاهدنا حالات كثيرة تعبر عن هذا الاتجاه المأساوى مثل المرأة التى تطلب نفقة فى صورة سلع وخدمات بدلا من راتب معين بالجنيه المصرى، وآخرون يبحثون عن شراء أراض وشقق دون ادخار أموالهم فى البنوك أو فى مشروعات إنتاجية. ومع اشتداد موجة الغلاء تفقد النقود إحدى وظائفها وهى كونها مقياسا للقيمة ومخزنا لها. وإذا ظلت الأسعار ترتفع بشكل متواصل، فستسبب اضطرابا فى المعاملات بين الدائنين والمدينين، وبين البائعين والمشترين، وبين المنتجين والمستهلكين، وتشيع الفوضى داخل الاقتصاد المحلى. وإذا حدث ذلك فقد يتخلى الناس عن عملة بلدهم ويلجأون إلى مقاييس أخرى للقيمة. ومن المألوف جدا أن يعيد ارتفاع الأسعار توزيع الدخل القومى بين الطبقات والشرائع الاجتماعية بطريقة عشوائية. ويضر بأصحاب الدخول الثابتة والمحدودة (مثل موظفى وعمال الحكومة والقطاع العام وأصحاب رواتب التقاعد- المعاشات- أصحاب الإعانات الاجتماعية). ويرفع من أصحاب الدخول المتغيرة (مثل التجار وأصحاب المصانع والعقارات والمستوردين..الخ). ومن هنا يميل الدخل القومى نحو التوزيع المتحيز لمصلحة هؤلاء وضد مصلحة أصحاب الدخول الثابتة والمحدودة. بالإضافة إلى أن ارتفاع الأسعار يعمل على تزايد الاستهلاك ويضعف من حواجز الادخار فى المجتمع، لسبب بسيط، وهو أنه مع اشتداد موجة الغلاء سرعان ما يدرك الناس أن الشراء اليوم، عند مستويات الأسعار السائدة، أفضل من الشراء فى الغد أو اللجوء إلى عملة أجنبية أكثر ثباتا فى قيمتها أو هى الظاهرة التى يطلق عليها (الهروب من العملة الوطنية) وهو أمر ينعكس فى تدهور سعر الصرف للعملة المحلية. وغالبا ما يؤدى إلى تفاقم العجز بالموازنة العامة للدولة. فأجهزة الدولة ووزاراتها المختلفة تنفق أموالا كثيرة على المستلزمات السلعية والخدمية التى تحتاج إليها فى تأدية وظائفها المختلفة. ويؤدى الغلاء المستمر إلى تفشى الرشوة والفساد الإدارى والتكسب غير المشروع، وعلى قدرة مصر على جذب الاستثمارات الأجنبية وعلى نوع المشروعات التى تأتى فى نطاق هذه الاستثمارات. والتخفيض المتكرر لسعر صرف الجنيه المصرى وراء الارتفاع المستمر للأسعار، حيث إن سعر الصرف يمثل فى حقيقة الأمر النسبة التى يتم فى ضوئها تبادل عملتين تنتميان إلى دولتين مختلفتين، وبعبارة أخرى، هو عدد وحدات العملة الأجنبية التى تقايض بوحدة من النقد المحلي. وفى هذه الحالة يمكن النظر إلى الجنيه المصرى على أنه سلعة، يقيم ثمنها بالدولار الأمريكى والعكس صحيح . أما سوق الصرف الأجنبى فهو عبارة عن تلك الرابطة أو العلاقة التى تقوم بين بائعى العملات الأجنبية وبين مشترى هذه العملات.. ويمكن القول إن لسوق الصرف الأجنبى وظائف مهمة، فهى تقوم بإجراء التحويلات من عملة لأخرى، وتحديد سعر التبادل بين العملات، وإمداد المتعاملين بالمعلومات الفورية عن حالة السوق، وتقلبات أسعار الصرف مهما كانت بسيطة . ومن خلال ذلك كله تقوم بتسوية المدفوعات الدولية بين مختلف دول العالم . وعلى أى حال فقد تغيرت نظم أسعار الصرف فى مختلف دول العالم بعد انتهاء عصر ثبات أسعار الصرف، وأصبحت هناك تشكيلة من هذه النظم التى تتفاوت فيما بينها من حيث درجة التثبيت والتعويم لهذا السعر . ويقوم النموذج النظرى للدفاع عن سياسة سعر الصرف المرن وما يرافقه (نظريا) من حجم اقل من الاحتياطيات الدولية على حجة أساسية، فحواها، أن التخفيض فى سعر الصرف سوف يعمل عمله لاستعادة التوازن المفقود فى ميزان المدفوعات، وبالتالى فى سعر الصرف، من خلال آليته (السحرية) فى زيادة صادرات الدولة وتفعيل وارداتها من جراء ما يحدث من تغيير فى الأسعار النسبية بين السوق المحلى والسوق العالمي، والوصول إلى هذه الصورة المثالية لفاعلية التخفيض ينطوى على افتراضين أساسيين، لابد من التأكد من توافرهم قبل التسرع فى تخفيض قيمة العملة. الافتراض الأول، هو أن الطلب العالمى على صادراتنا يجب أن يكون مرنا (بمعنى أن تخفيضا ما فى أسعار الصادرات بنسبة معينة يجب أن يجر معه الزيادة فى الطلب العالمى على صادراتنا بنسبة أكبر). والافتراض الثاني، هو أن الطلب المحلى على الواردات يجب أن يكون مرنا (بمعنى أن ارتفاع الأسعار المحلية للواردات- نتيجة للتخفيض- بنسبة ما، يجب أن يجر معه انخفاضا فى الطلب على الواردات بنسبة أكبر). لكن للأسف، لا تتوافر هذه المرونات بسبب طبيعة التركيب الهيكلى لصادراتها، وجمود عرضها، وبسبب ما يترتب على التخفيض من حروب تخفيضات تلجا إليها الدول الأخرى التى تصدر سلعا مماثلة. من ناحية أخرى، وبسبب طبيعة وارداتنا التى تنطوى على ضروريات كثيرة لا يمكن الاستغناء عنها نظرا لعدم وجود إنتاج محلى بديل لها، ناهيك عن عدم مرونة الطلب المحلى على الواردات الكمالية التى يستوردها الأثرياء، من ناحية أخرى. ولهذا فإن حصاد التخفيض الذى سرنا عليه أشبه بحصاد الهشيم، حيث لم تتحسن حصيلة صادراتنا . ولم تنخفض الواردات، وجر التخفيض معه تضخما شديداً أضر بميزان المدفوعات، وشوه توزيع الدخل والثروة، بل تخصيص الموارد. صحيح هناك حالات، تم فيها تحقيق زيادات لا بأس بها فى حصيلة الصادرات، لكن هذه الزيادات قد تمت على حساب نقص العرض الداخلى لكثير من السلع المصدرة، بل هناك حالات وجدنا فيها، أن الدولة اضطرت، بعد التخفيض أن تقتطع من مستوى استهلاكها الجارى، لكى تصدره للخارج، جريا وراء النقد الأجنبى اللازم لدفع أعباء الديون، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار بالداخل. إن زيادة المقدرة على التصدير لا تكمن إذن- وبشكل جوهرى- فى تخفيض سعر الصرف، بل فى توافر القدرة الإنتاجية على التصدير، أى بزيادة الاستثمار فى القطاع المنتج للتصدير وعلاج المشكلات المختلفة التى يتعرض لها، والتى قد لا يكون سعر الصرف هو أهمها. إن وضعنا مختلف تماما عن أوضاع البلدان الرأسمالية المتقدمة التى قبلت بالتخفيض أو بالتعويم. ذلك أن هذه البلدان الأخيرة تتمتع ببنيان إنتاجى متقدم ومرن، وتتوافر فى الكثير منها شروط «مرونات العرض والطلب « . كما أن صلتها بأسواق النقد العالمية قوية جداً وتستطيع أن تحصل منها على ما تحتاج إليه من موارد مقترضة. أضف إلى ذلك أن اللجوء إلى التخفيض أو التعويم وما تبع ذلك من تدهور فى احتياطياتنا لم يكن خيارا نابعا منا، بقدر ما كان قرارا ممليا علينا من قبل الدائنين وصندوق النقد الدولي، فى حين أن قرار القبول بالتخفيض أو بالتعويم فى البلدان الرأسمالية الصناعية كان قرارا فيه قدر كبير من الاستقلال والاقتناع به من قبل صانعى السياسة الاقتصادية. لقد تعلمت البلدان النامية بمرور الوقت أن مكاسب الإنتاجية، وليس تحركات أسعار الصرف، هى المحرك لنمو الدخل الحقيقى وتوسع العمالة. وهذا بدوره يتطلب الاستثمار العام والخاص فى أصول ملموسة، فضلاً عن الاستثمار فى البنية الأساسية المادية والبنية الأساسية للاتصالات، ورأس المال البشرى ومهارات العمل، والقاعدة المعرفية والتكنولوجية للاقتصاد. وإن إعادة تحديد الفوارق بين أسعار التصدير والاستيراد لا تكفى كبديل لمعالجة الأسس البنيوية للإنتاجية . ذلك أن ضعف الاستثمار يسفر دوماً عن تكاليف وعواقب بعيدة المدى فى كل مكان. ولا يعمل فرط الاستهلاك إلا على إخفاء هذه التكاليف بشكل مؤقت. فقضية الصادرات المصرية فى حاجة إلى عناية خاصة حيث إن الجزء الأكبر من هذه الصادرات إنما يتكون من المواد الأولية الزراعية وعدد ضئيل من المنتجات المصنعة ونصف المصنعة، وهى سلع تتميز بضآلة مرونة الطلب العالى عليها، وخصوصا السلع الزراعية. ومن ناحية أخرى علينا أن نلحظ هنا أن الطلب العالى على الصادرات المصرية لا يتوقف أساسا على مستوى السعر الذى نبيع به فى الأسواق العالية بقدر ما يعتمد على ظروف الحالة الاقتصادية فى الدول الأجنبية التى تستورد منا بشكل رئيسي. ومن هنا ليس من المتوقع أن تزيد صادراتنا (التقليدية وغير التقليدية) حيث تعانى معظم الدول من موجات واضحة من الأزمات والركود. كما أنه ليس من المتوقع أن تزيد صادراتنا إلى الدول التى كانت تسمى بالدول الاشتراكية، وذلك لأن واردات هذه الدول تخضع أساسا للتخطيط القومى الشامل ولا تتأثر كثيرا بحركة تذبذب الأسعار العالية، ناهيك عن التدهور الحادث أصلا فى علاقاتنا مع هذه الدول. وحتى إذا افترضنا، جدلا، أن الطلب العالى على الصادرات المصرية يتمتع بدرجة عالية من المرونة، فإن نجاح سياسة تخفيض قيمة الجنيه المصرى فى زيادة الصادرات، إنما تتوقف هنا - بشكل رئيسي- على مدى مرونة الجهاز الإنتاجى المنتج للتصدير. أو بعبارة أخرى، على مدى مرونة العرض المحلى لسلع التصدير المصرية، وهو ما يعنى ضرورة قابلية الإنتاج المحلى لسلع التصدير للزيادة لكى نواجه النمو المتوقع فى حجم الصادرات. وليس من المتصور تحقيق هذا الشرط فى حالة الاقتصاد المصرى. فبالنسبة للسلع الزراعية القابلة للتصدير نجد أن محدودية الرقعة الزراعية تعد قيداً على تحقيق هذا الشرط، بالإضافة إلى المشاكل المستجدة فى المياه والطاقة والبذور والأسمدة . كما أنه ليس من المتصور فى غضون السنوات القادمة أن يحدث تغيير فى التركيب المحصولى فى اتجاه متميز لزيادة المنتجات الزراعية القابلة للتصدير، خصوصا أن السياسة الاقتصادية الجديدة تهتم بالتوسع فى المنتجات الزراعية الغذائية لتحقيق الأمن الغذائى ولمواجهة مشكلات الغذاء فى السنوات القادمة. ولا يمكننا أن نتصور زيادة الإنتاج من الصادرات الصناعية بمجرد حدوث زيادة واضحة فى الطلب العالمى على منتجاتنا دون أن يستعان فى ذلك بالآلات وقطع الغيار والسلع الوسيطة الأخرى، ومعالجة مختلف أوجه القصور التى تعترض الإنتاج للوصول به إلى طاقته القصوى. ومن هنا نخلص إلى أن العبرة فى زيادة حجم الصادرات، لا تكمن فى تخفيض أسعارها لحفز الطلب العالمى عليها للزيادة، وإنما العبرة أساسا برفع قدرة الاقتصاد القومى على الإنتاج من أجل التصدير. ومن ثم انتفت الحجة المستمرة لتخفيض الجنيه لدفع حركة الصادرات، فهل آن الأوان ليكون مشروعنا القومى فى عودة الهيبة للجنيه المصرى ؟ هذا المشروع فى حاجة إلى عدة سيناريوهات وإلى عقول مصرية خالصة تربت ونمت فى المدرسة الأم أى مدرسة النموذج المصرى للتنمية .