يعانى سوق الغذاء فى مصر من تشوهات عديدة ومعادلات معكوسة؛ ففى الوقت الذى تتراجع فيه أسعار الغذاء عالميا وينعم الفقراء فى كل بلاد العالم بأسعار غذاء تعود إلى مستويات أسعار عام 2991؛ فإن المصريين يواجهون أزمات متلاحقة فى الأرز والسكر والألبان؛ هذه الأزمات لا تقتصر على ارتفاع متوالٍ فى الأسعار، لكن فى ندرة السلعة ذاتها؛ حيث تجرى عمليات تعطيش متعمدة تمارسها احتكارات معروفة بهدف جنى المزيد من الأرباح. هنا يكشف الدكتور نادر نور الدين الأستاذ بزراعة القاهرة والمستشار الأسبق لوزير التموين، عن ملامح هذه المعادلات المعكوسة والتشوهات المتعددة فى سوق الغذاء. يؤكد د. نادر نور الدين أن أسعار الغذاء العالمية فى الأربع سنوات الماضية كانت فى أدنى مستوياتها، حتى أن رئيس منظمة الأغذية والزراعة التابعة لمنظمة الأمم المتحدة »الفاو« قد علق قائلا إنه على فقراء العالم أن يسعدوا؛ حيث تماثل أسعار الغذاء الحالية تلك الأسعار التى كانت سائدة فى عام 1992. ولكنه يرى أن الوضع فى مصر مختلف؛ فالفول غذاء المصريين الأساسى، نستورد منه نحو 70% من احتياجاتنا بأسعار معتدلة؛ فالكيلو من الفول المستورد -الحبة البلى حمراء اللون-يباع فى الأسواق بسعر 6 جنيهات، ولكن سعر الفول البلدى 12 جنيها وحبته بيضاء تميل إلى الاخضرار، والآن قد بدأنا نستورد الفول من كندا وأستراليا وإنتاجهما مشابه لحبة الفول المصرى وهو -فى بعض الأحيان- يباع فى الأسواق للمواطن المصرى على أنه الفول البلدى الذى يفضله المصريون. وبالأرقام يستهلك المصريون نصف مليون طن من الفول كل عام، ويستوردون منه 300 ألف طن بعد أن انهارت مساحات زراعة الفول فى مصر من نصف مليون فدان فى السابق إلى 130 ألف فدان فقط هذا العام. أما العدس فبعد أن كانت مصر واحدة من أكبر ثلاث دول على مستوى العالم فى تصدير العدس الإسناوى المشهور عالميا، إلا أن أصنافه بدأت تتدهور نتيجة عدم الاهتمام بالإنفاق على البحث العلمى الزراعى لطرح واستنباط أصناف جديدة من العدس عالٍ الإنتاجية، فانهارت زراعة العدس فى مصر، وعزف الفلاح المصرى عن زراعته بعد أن أصبح محصول الفدان منه لا يجاوز الطن ويباع بنحو 5 آلاف جنيه لا تكاد تغطى تكاليف الزراعة، وبذلك بدأت مصر منذ عام 2010 استيراد 99% من الكميات التى نحتاجها من العدس. ومصر لديها اكتفاء ذاتى من الفاصوليا البيضاء ونصدر الفائض منها؛ حيث قدرت صادرات الفاصوليا الخضراء والجافة عام 2010 بنحو مليار دولار قبل أن يفرض الاتحاد الأوروبى حظرا على واردات مصر من المحاصيل الزراعية بسبب تلوث شحنة الحلبة النابتة التى تسببت فى وفاة 100 شخص فى كل من ألمانيا وبريطانيا. وتنتج مصر نحو 30% من احتياجاتها الاستهلاكية من اللوبيا، وتستورد الباقى، وذلك بسبب تدهور الأصناف البلدية وقلة الربح العائد من زراعته، واتجاه التجار إلى الاستيراد على حساب الإنتاج المحلى بدلا من الإنفاق على إنتاج أصناف عالية الإنتاجية، ومن ناحية أخرى تحقق مصر اكتفاء ذاتيا من البسلة، وكانت تصدر قبل فرض الحظر من الاتحاد الأوروبى، وتعد مصر من الدول الخمس الأوائل فى إنتاج الفاصوليا والبسلة. ويعلق د. نادر أنه على الرغم من أن مصر تنتج نحو 07% من احتياجاتها من السكر وتستورد الباقي، إلا أنها تبنت سياسات خاطئة للتعامل مع السكر وهو سلعة استراتيجية، مما أفسح المجال لبيان تأثير سعره فى البورصات العالمية على أسعاره فى مصر، ناهيك عن استنزاف مواردنا من العملة الصعبة. فقد شهدت أسعار السكر فى البرازيل -الدولة الأولى على مستوى العالم فى إنتاجه وتصديره- ارتفاعا فى الآونة الأخيرة بسبب عاملين: الأول: ارتفاع سعر الريال البرازيلى أمام الدولار بنحو 6٪، وبالتالى ارتفع سعر السكر تلقائيا. ثانيا: تقلصت كميات المحصول الموجهة لصناعة واستخراج السكر، وتم استغلال ربع المحصول بتحويله إلى إيثانول، حيث استطاعت البرازيل تطوير تقنيات حديثة لإنتاج الإيثانول بجدوى اقتصادية لا تزيد عن 30 دولارا للبرميل. والآن وبعد جدوى إنتاج الإيثانول من السكر، استهلك البرازيليون أكثر من 22% من إنتاجهم من قصب السكر فى هذا الغرض، وبالتالى سحبوا إنتاجهم من الأسواق، وحدث نقص فى الكمية المتوفرة للتصدير، ليرتفع سعر السكر بدءا من شهر فبراير الماضى، ولكن بعد ذلك شهدت الأسعار نوعا من الاستقرار النسبى، حتى أن السعر سجل 540 دولارا للطن فى شهرى أغسطس وسبتمبر مع أنه ومنذ 6 أشهر فقط كان لا يتجاوز 300 دولار للطن. ورغم أن مصر تنتج أغلب احتياجاتها من السكر؛ إلا أن الحكومة ارتكبت خطأ فادحا حين ألغت قرار التعاقد بين وزارة التموين ومصانع السكر بأن تحتكر الوزارة كامل إنتاج المصانع لتوفرها لمستحقى البطاقات التموينية والمجمعات الاستهلاكية التى يتعامل معها الفقراء ومحدودو الدخل مقابل هامش ربح بسيط لا يتعدى 51% لشركات السكر. وكما يقول د. نادر فإن الوزير السابق قد قام بإلغاء هذا الاتفاق واعتمد على سكر القطاع الخاص المستورد بسبب انهيار أسعار السكر فى البورصات العالمية من قبل عدة أشهر، وعندئذ أغرق المستورد الأسواق بالسكر المستورد؛ لأن سعره كان لا يتجاوز 6 جنيهات، ولذلك حدث تراكم للمخزون وصل إلى 2.5 مليون طن فى مصانع السكر المصرية. ومنذ شهر فبراير ارتفعت أسعار السكر عالميا، وبدأ التجار يتعاقدون مع شركات السكر المحلى لاحتكار السلعة لصالح التجار وليس لصالح الدولة، وكان ينبغى على وزير التموين الجديد أن يعيد تفعيل الاتفاق بين وزارة التموين ومصانع السكر الحكومية لاحتكار كامل إنتاجها، ولكن من الغريب أن الدولة تركت سكر الحكومة للتجار وقررت أن تتولى هى استيراد السكر من الخارج بسعر 545 دولارا للطن، رغم عدم توافر السيولة من العملات الأجنبية. وعلى الجانب الآخر يشترى التجار السكر من المصانع المحلية بسعر 4.5 جنيه فقط للكيلو ليقوموا ببيعه بسعر يتراوح بين 8 أو 10 جنيهات للكيلو فى جشع غير مسبوق. ويرى د. نادر أن القصة تتكرر مع الأرز حاليا، لأن وزير التموين حين حدد سعر استلام الأرز من المزارعين عند 2400 جنيه للطن من الأرز عريض الحبة و2300 جنيه للطن رفيع الحبة؛ فإن هذا السعر غير مقبول للمزارع، وإن السعر العادل يتراوح بين 3200 و3500 للطن، والحقيقة فإن الهدف من هبوط السعر الذى تقدمه الدولة للمزارع هو إبعاد الدولة عن استلام الأرز المحلى وتركه للتجار؛ لأنه من غير المقبول أن يكون سعر الأرز فى السوق المحلى 10 جنيهات للكيلو، ومع ذلك يتم شراؤه من المزارع بسعر 240 قرشا للكيلو، ولذلك زايد التجار على الحكومة وقدموا سعرا للمزارع وصل إلى 3400 جنيه للطن، بينما لم تمارس الحكومة المرونة الكافية فى التعامل مع الوضع الحالى. ويرى أن الحل الآن هو أن تقوم الحكومة برفع السعر المعروض من الوزير السابق والتفاعل مع آليات السوق بأن ترفع سعر استلام الأرز إلى 3400 جنيه هى أيضا مثل سعر التجار إذا كانت الدولة حريصة على استلام الأرز المحلى الفاخر وعدم تركه للتجار ليتحكموا فى السوق. ولكن الغريب أن هذا لم يحدث وخرجت الحكومة من المنافسة، وتركت الأرز للتجار، واتجهت إلى الحل السهل، وهو استيراد الأرز الهندى بكمية تصل إلى نصف مليون طن، وبالتالى هذا الأرز لا يتناسب مع عادات استهلاك الشعب المصرى الذى يطلقون عليه الأرز البلاستيك؛ بسبب صعوبة مضغه، ولأنه يتصلب عند تعرضه للبرودة وغير قابل لإعادة التسخين، وبالتالى رفض مستحقو البطاقات استلامه فى تجربة العام الماضى والعام الذى سبقه. واعتقد الفقراء أن الدولة توفر لهم الأرز السيئ وتحرمهم من أرز بلادهم، مع أن الدولة لو قامت بشراء الأرز من المزارعين بسعر التجار البالغ 3400 جنيه للطن فستحقق مكسبا؛ لأن الكيلو سيصل إلى 340 قرشا وبعد التبيض والضرب سيتراوح بين 4.25 و4.50 قرش تقريبا، وبالتالى عند طرحه فى المجمعات بسعر 5 جنيهات ستكون هى الرابحة بدلا من إهدار الدولار فى أرز يختلف نوعه عن النوع الذى اعتاد عليه المصريون ولا يتوافق مع نمط استهلاكهم.