ولم تعد التنمية تهدف إلي اللحاق بالدول الصناعية فهذا سراب وإنما الوفاء بالاحتياجات الأساسية لأغلبية المواطنين كذلك لم تعد التنمية هي استخدام أحدث ما وصل إليه العلم من تكنولوجيا ومخترعات فهذا إهدار للموارد واستنزاف لها وإنما هي توظيف التكنولوجيا الملائمة بما يناسب أهداف المجتمع وموارده المتاحة. التنمية هي أن نبدأ بما نملكه نحن لا بما يمتلكه الآخرون. وأن نستخدم ما هو متاح لنا أفضل استخدام ممكن. ونحن في سياقنا المصري في أمس ما نكون إلي إدراك شروط ومتطلبات مثل هذا المفهوم, وأن نعرف أنه ليس بالشعارات الضخمة أو الكلمات العاطفية يمكن أن نثير حماس المواطنين ومشاركتهم ولعل الزيارة التي قام بها الرئيس الدكتور محمد مرسي إلي الصين تكون بداية الطريق للفهم الحقيقي للتنمية, بالرغم من أنه لا توجد وصفة جاهزة أو نموذج جاهز يمكن أن ننسخة, لكن تجربة الصين تجربة فريدة تفيد في كثير من جوانبها الدول النامية. فالاعتماد علي الذات هو التزام سياسي واختيار تنموي يعتمد علي موارد المجتمع المحلية للوفاء بالاحتياجات الأساسية للمواطنين, وبهدف توسيع مساحة الاستقلال الوطني وحرية الارادة, وهذا هو ما نبتغيه في المرحلة الحالية. إن كل الحلول التي طرحت من خلال الاقتراض من الصندوق لا تفيد مثل: العودة إلي الاقتراض من صندوق النقد من جديد أو بعض الأطروحات المتداولة مثل إعطاء فترة سماح تجمد فيها الديون لمدة معينة أو تخفيض أسعار الفائدة أو حتي شطبها أو تأجيل مدفوعات خدمة الدين بما فيها الفوائد لمدد معينة, كلها من قبيل الحلول المسكنة لمرض يستشري بشكل سرطاني في جسد الاقتصاد, وأن الأوضاع الاقتصادية عندنا لا تتحمل دفع هذه الديون لا حاليا ولا مستقبلا, وخاصة بعد تردي الأوضاع الاقتصادية عالميا والدخول في مرحلة الانكماش, بالإضافة إلي أن هناك شعورا يسود شعوب الغرب بأن الحضارة الغربية أصبحت غير مرضية علي نحو متزايد, وأنها أصبحت قريبة من استنفاد قدرتها علي خلق حياة أفضل, وهناك احتمال مؤداه أن الصين تقوم في الوقت الراهن بمحاولة للعودة إلي وضعها التاريخي المدعي كمركز للعالم, خصوصا أنها تلعب دورا يزداد أهمية علي الدوام في العديد من الشئون العالمية وعلي العديد من المسارح التي تمتد من إيران إلي إفريقيا, ومن الخليج العربي إلي واشنطن. فإذا كانت الأزمة المالية العالمية الأخيرة تمثل بداية نهاية الرأسمالية الحديثة. فمن الواضح أنه يفترض وجود بديل صالح جاهز للعمل. ونحن نتوقع أن يكون النموذج الصيني هو البديل المطروح الآن.. لقد تم حصول تغيير متكرر في نماذج القوي الاقتصادية عبر التاريخ طبقا لصعود وسقوط البلدان التي تعتبر الافضل من حيث الجاهزية لتحريك النمو الاقتصادي وتحفيز الاقتصاد العالمي. ان تعدد الاقطاب, اي وجود اكثر من قطبي نمو مهيمنين, كان في وقت من الاوقات خاصية مهمة من خصائص الاقتصاد العالمي. لكن لم يحصل ابدا في التاريخ الحديث ان دولا نامية كانت في طليعة نظام اقتصادي متعدد الاقطاب. فالنموذج الصيني استحق شهادة الجدارة خاصة بعد تقرير واشنطن الجديد الذي أعده مايكل سبنس بعد دراسة مستفيضة للتجربة الصينية الذي يختلف جذريا عن' إجماع واشنطن القديم' الذي ارتبط بالمشروطية التي أقرها وزير التجارة الأمريكي في سيول عام1985, التي طبقتها مصر عبر بنود مجحفة أضرت بعملية التنمية التي انحصرت في: إجراء تحويل تدريجي للموارد الاقتصادية لصالح القطاع الخاص- تقليل الاعتماد علي المشروعات الصناعية التي تحتاج إلي فترات إنشاء طويلة وإنفاق استثماري ضخم- التخلي عن دعم المنتجات والخدمات الأساسية- التقشف في الميزانية وخفض النفقات- خفض قيمة العملة المحلية- توجيه الإنتاج الزراعي بكامله نحو التصدير- تحرير الاقتصاد- خصخصة كثيفة للمنشآت العامة وبالتالي انسحاب الدولة من قطاعات الإنتاج التنافسية. إنها بحق جرعة بالغة المرارة. وقد أثبتت الدراسات اللاحقة التي أجراها صندوق النقد الدولي نفس ما خلصت إليه جميع الدراسات الجادة التي جرت في هذا الشأن: ألا وهو أن تحرير أسواق رأس المال يؤدي إلي زعزعة الاستقرار, ولا يساعد بالضرورة علي النمو فجوهر النموذج الاقتصادي الصيني يتلخص في الترتيب الدقيق لأولويات الإصلاح, مع إعطاء الأولوية للإصلاح الاقتصادي قبل الإصلاح السياسي, وهو ما يعني الإبقاء علي النظام الدستوري القائم والوضع الحاكم للحزب الشيوعي الصيني. ولقد اشتمل هذا النموذج علي قدر ملموس من التحرير فيما يتصل بالإيديولوجية الرسمية, والاقتصاد, والمجتمع, بينما أبقي علي الملكية العامة للبنوك الكبري وأضخم الشركات المملوكة للدولة باعتبارها' أركان الاستقرار الاقتصادي'. فالنموذج الصيني يعكس مزيجا بين النزعة العملية, والليبرالية, ومنافسة السوق, ولكن إلي جانب جرعة قوية من تدخل الدولة. هذا النموذج نجح في تمكين الصين من الحفاظ علي معدلات النمو السريعة في إطار بيئة سياسية مستقرة نسبيا طيلة ثلاثين عاما. ورغم أن الصين ليست الدولة الوحيدة التي تتمتع بمثل هذا النمو طويل الأمد فإنه من قبيل المعجزة أن تتمكن دولة فقيرة تأوي خمس سكان العالم من تحقيق مثل هذه التنمية. ويحتار كثير من الخبراء الاقتصاديين حول اتجاه رأس المال العالمي الذي يتدفق من الدول الفقيرة إلي الدول الغنية. وبلدان الأسواق الناشئة لديها فوائض في الحساب الجاري, في حين تعاني الاقتصادات المتقدمة من العجز. ولقد ظلت الصين مصدرا صغيرا لتدفقات الاستثمار المباشر الأجنبي إلي الخارج, ولكن هذا أيضا بدأ يتغير بسرعة. فقد ارتفعت تدفقات الاستثمار المباشر الأجنبي الصيني إلي الخارج من متوسط3 مليارات دولار سنويا قبل عام2005 إلي60 مليار دولار في عام2010, لكي تقفز الصين إلي أعلي خمسة مصادر للاستثمار المباشر الأجنبي علي أساس المتوسط المتحرك لثلاثة أعوام. ونظرا لحجم الاقتصاد الصيني, ومعدلات نموه, والخبرات التي تتمتع به الاقتصادات النامية الأخري, فإن الاستثمار المباشر الأجنبي من الصين من المرجح أن يزيد بمقدار يتراوح بين تريليون إلي تريليونين من الدولارات بحلول عام2020. وتشكل الزيادة في تدفقات الاستثمار المباشر الأجنبي أولوية في الصين لسببين. الأول أن الصين لديها مصلحة مفهومة في تنويع احتياطياتها الضخمة من العملات الأجنبية بعيدا عن سندات الخزانة الأمريكية ذات العائد المنخفض وإلي أصول إنتاجية حقيقية ذات عائدات أعلي. والثاني أن السلطات الصينية كانت تشجع الشركات الصينية علي' الخروج إلي العالمية' والاستثمار في الخارج لإيجاد أسواق جديدة, وتأمين الوصول إلي الطاقة والمواد الخام, وتعزيز قدرتها التنافسية من خلال اكتساب تكنولوجيات وعلامات تجارية ومهارات إدارية جديدة. وتحتفظ الصين الآن بما يعادل7,2 تريليون دولار من احتياطيات النقد الأجنبي, وهو المخزون الاحتياطي الأضخم علي الإطلاق لدي أي دولة في العالم, أي أنها تمتلك قسما ضخما من الدين الأمريكي المتضخم. والواقع أن الاحتياطيات الصينية ساعدت رغم ذلك في دعم اقتصاد الصين من خلال السماح للأمريكيين بزيادة ديونهم الاستهلاكية بشراء المزيد من السلع الصينية علي نحو يتجاوز احتياجاتهم. وقد ادي هذا إلي أن خسرت الولاياتالمتحدة نحو16% من الوظائف في مجال التصنيع لصالح الصين. وبوسع كل دولة نامية أن تحظي بفرص مماثلة لدعم النمو السريع لعدة عقود من الزمان وخفض معدلات الفقر بشكل كبير إذا استغلت ميزتها النسبية, فاستوردت التكنولوجيا من الدول المتقدمة, وعملت علي ترقية صناعاتها. كما نهضت في مجموعة من المؤسسات العالية التكنولوجيا ذات القدرة التنافسية في الاسواق وحقوق الملكية خلال السنوات الماضية وقد اصبحت وحدات ذات حيوية وقوة كامنة اكثر لتطور الاقتصاد الصيني. وفي السنوات الاربع الماضية دعمت الحكومة الصينية اكثر من الف مؤسسة عالية التكنولوجيا باموال سندات الخزانة وقد حققت هذه المؤسسات تقدما اختراقيا في ثمانية عشر مجالا رئيسيا. في عام2009, بلغ مجموع طلبات الحصول علي براءات الاختراع المحلية في الصين نحو280 ألف طلب, فاحتلت بذلك المرتبة الثالثة علي مستوي العالم. وتعد الخطة الخمسية الثانية عشرة التي اعتمدتها الصين في الشهر الماضي بمثابة خريطة طريق تسير الصين علي هداها. إلا أنها في واقع الأمر ليست خطة حقا, بل إنها بدلا من ذلك مجموعة متماسكة مترابطة من أولويات السياسة العامة تهدف إلي دعم التطور البنيوي للاقتصاد, كما أن الأموال الصينية أصبحت في كل مكان, ويرجع الفضل في ذلك بشكل خاص إلي بنك التنمية الصيني وبنك التصدير والاستيراد الصيني. فإجمالي الإقراض الصيني أثناء الفترة2008-2010 تجاوز مشسجموع مساعدات البنك الدولي بما يقرب من10 مليارات دولار. وبنهاية عام2010 كانت تعاملات بنك التنمية الصيني قد امتدت إلي أكثر من تسعين دولة, التي بلغ مجموع مديونياتها141.3 مليار دولار. والحكومات المتلقية للمساعدات راضية عن نهج المساعدات الذي تتبناه الصين. فهناك غياب ملحوظ للتكاليف الباهظة التي يفرضها المستشارون في إطار ما يطلق عليه حزم' المساعدات الفنية', وهي الممارسة التي كانت محورا رئيسيا للانتقاد الموجه إلي العديد من وكالات التمويل. والأمر الثاني أن المساعدات الصينية لا تتطلب' بعثات' تمهيدية قبل المشاريع من قبل بيروقراطيين يصلون من مقار نائية لممارسة نوع من السياحة التنموية التي تعيث فسادا في الإجراءات الروتينية لنظرائهم المحليين الذين يضطرون إلي مصاحبتهم في رحلاتهم لتفقد الفقر. والأمر الثالث أن المساعدات الصينية يتم توزيعها بسرعة وبلا احتفالات ومراسم رسمية, الأمر الذي يجنبها الضجة المرهقة الناجمة عن المفاوضات المطولة والمستندات المتضخمة للمشاريع, وهي الممارسة التي يطلق عليها العديد من الدارسين والممارسين مصطلح' دبلوماسية دفتر الشيكات'. ولعل النداء الأخير الذي أوجهه إلي المسئولين المصريين بالابتعاد عن الصندوق هو نفس النهج الذي سار عليه كل من ماريو بليجر محافظ البنك المركزي الأرجنتيني الأسبق, ومدير مركز دراسات العمل المصرفي المركزي التابع لبنك انجلترا سابقا. وإدواردو ليفي ياتي زميل معهد بروكينجز, كتب مقالة بعنوان' امنعوا صندوق النقد الدولي من دخول أوروبا' فلماذا يتعين علي صندوق النقد الدولي( أو المجتمع الدولي في هذا الشأن) أن يفعل من أجل أوروبا ما تستطيع أوروبا أن تقوم به, ولماذا يتم حشد أموال دولية لتغطية ثمن إخفاقات الإدارة الأوروبية؟ وإن قروض صندوق النقد الدولي من الممكن أن تتحول إلي تركة ثقيلة من منظور السوق. وقد تعمل هذه القروض علي تثبيط الإقراض الخاص الجديد لأعوام طويلة مقبلة. هذا تخوف في محله من دخول الصندوق إلي أوربا رغم أن40% من المديرين التنفيذيين لصندوق النقد الدولي أوروبيون, وأن ثلث هؤلاء المديرين ينتمون إلي منطقة اليورو. لماذا لم نستفد من تجارب الآخرين وخاصة تجربة النمور في التعامل مع الصندوق حيث أنهم عالجوا أزمتهم التي وقعت في عام1997 بطريقتهم الخاصة وقطعوا كل تعامل مع الصندوق, وكانت النتيجة أنهم لم يتأثروا بالأزمة الاقتصادية الأخيرة التي عصفت بالدول المتقدمة*