أميرة سيد مكاوي كنت طفلة صغيرة، ألهو بالكتب التي تملأ مكتبة والدتي، التي طالما حرصت أن تكسوها بأغلفة من الجلد الأحمر القاني ممهورة باسم الكاتب وعنوان الكتاب باللون الذهبي، أقوم بدور المعلمة التي تصحح الأوراق كما كانت تفعل معلمتي في المدرسة، تتركني أمي أعبث وأكتب علامة صح في ذيل الصفحة وأضع إمضائي عليها. أدركت بعد أن خطوت في رحلة العمر خطوات ثقيلة، أنني كنت أعبث بأغلى ما لديها، لكنها تركتني بحكمة حانية ألهو بالكتب كي أصادقها، وانتزعت من طفولتي هذا التابو القابع في عقلية معظم الأطفال، أن الكتب لا يقرأها إلا الكبار، وأنها جواهر تزيّن المكتبة لا يجب على طفلة مثلي أن تقربها، وإلا طالها من العقاب ما لا يتمناه طفل في عمر الخامسة. أعود إلى بيت أمي وأتفحص مجلّد الشوقيات المشوهة صفحاته بإمضائي الطفل، وأتذكر وأنا أطالع عناوين الكتب على الأرفف أنني كنت أعتقد أن غادة السمان ما هي إلا اسم رواية احتفظت أمي بالعديد من نسخها، عقلي الصغير لم يقبل أن يكون غادة السمان اسما لإنسان، إنها رواية بالتأكيد، وهذا ما اكتشفته بعد أن قراءتها، فكيف يمكن لتلك العاشقة في محبرة ألا تكون رواية جميلة أنتجتها دمشق وأشجار الياسمين؟ حاولت مرارا أن أقرأ الشوقيات التي كانت تحتل مكانا واضحا في مكتبتنا العامرة، ولم يستطع عقلي أن يفهم ما يقوله الكبير أحمد شوقي وأنا بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة أترنح، ولكنني أدركت أن ترتيب مجلدات الشعراء في المكتبة له دلالة ما على ما يفضّله كبار المنزل من الشعر، فكانت الشوقيات وأبو نواس والمتنبي وأبو فراس الحمداني يسبقون أعمال نزار الكاملة ودرويش وأدونيس، ويقتربون من فؤاد حداد وصلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم ونجيب سرور وأمل دنقل. هناك في الزاوية، ركن خاص تتلون فيه المجلدات بلون مخالف، تكتسي باللون الأخضر دلالة على تمييزها ربما أو اختلافها عن رفقائها القابعين بلونهم الأحمر القاني، معلنين تفوقهم وسيادتهم لمكتبتنا الكبيرة. في ذلك الركن الأخضر وجدت غادة السمان وعلوية صبح وفاطمة المرنيسي، ومي زيادة ونازك الملائكة ونعمات أحمد فؤاد ورضوى عاشور ولطيفة الزيات وعائشة عبدالرحمن. وحينما اشتد عودي بدأت أسمع أن هذا الركن الأخضر في مكتبة أمي، هو ما يطلقون عليه الأدب النسائي، ولا أعلم إلى الآن ما سر هذه التسمية العنصرية التي تعتبر أن انخراط المرأة في مجال ما، يستحق أن يدوّن باسمها وكأنه شذ عن الطبيعي، وما الغريب فيما تقدمه تلك النساء حتى يستحق أن يعنون بأنه خاص بهن، رغم أنه يقدم لقارئ إنسان لا يستوجب ذكورة أو أنوثة في تلقيه! وقعت في أسر العالم الذي قدمته والدتي باللون الأخضر، وفهمت إشارتها الذكية في اختيار اللون بعدما قرأت ما بين طيات الكتب، وعلمت أن ما تكتبه هؤلاء الفراشات السابحات في فضاء الأدب والشعر والبحث، يستحق أن يرمز له بالحياة والبقاء والصفاء ، جميعهن على اختلافهن يكتبن من أرواحهن عن مآسيهن من قضاياهم التي يؤمن بها، يمتلكن اللغة ولا يتبارين في استعراض ذلك، بل يقدمن ما يمليه عليهن الجمال والحس والوضوح. مدينة أنا لما يطلقون عليه الأدب النسائي، وأحبّذه أنا إنسانيا بلا صبغة لهؤلاء العابرات إلى القلوب والأرواح، الملازمات لأوطانهن والمغتربات عنه قسرا، وهن يحملنه تحت جلودهن، المخترقات متاهات الحياة وعثراتها برقة الفراشات ونعومة الحرير وصلابة الفولاذ ، مدينة أنا إلى كل من كتبت حرفًا استلهمت فيه من روحها ما جعل من ألفاظ عقلها نسائم طيبة في ردهات الأدب و ما زلت الطفلة الصغيرة التي بداخلي تؤمن أن غادة السمان رواية وأنه ليس اسمها أبدًا.