عبد الرحيم رجب عزيزي القارئ الكريم نحتفل اليوم بذكرى مولد النبي صلوات الله وسلامه عليه، المبعوث هدًى ورحمةً للعالمين، فإنّ الله تعالى أرسله ليُغيِّر مجرى التاريخ، ليُعِيد البشريَّة إلى رُشدِها، بعد أن غرقت في جاهليةٍ مُقحِلةٍ ظالمة، فمَنَّ الله تعالى على البشر بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، قال عز وجل: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" التوبة: 33، فما كان مبعثه صلوات الله وسلامه عليه إلا رحمةً للناس وسببًا لإنقاذهم من الهلاك والاندثار كالأمم السابقة الغابرة مَن اهتموا بحضارتهم المادية ونسوا الجانب الرُّوحِي فآل بهم الحال إلى الهلاك والاندثار، فجاء رسولنا الكريم ففتح لنا سُبُلَ السعادة في الدنيا والآخرة؛ حين دعى الناس إلى الحياة الحقيقية تحت مظلة العبودية لله الواحد الأحد، فأكمل لنا الجانب الرًّوحِي؛ فكانت دعوته سببًا لرحمة البشرية جميعًا، قال عز وجل: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" الأنبياء: 107. ولقد بذل النبي صلى الله عليه وسلم كل غالٍ وثمين في سبيل هداية الناس وذلك من شدة حرصه وخوفه عليهم فهو الرءوف الرحيم، قال تعالى: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" التوبة: 128، حتى أنه من شدة رحمته بالناس كاد يموت أسفًا وحزنًا على أعدائه من الكفار لعدم إيمانهم بهذه الرسالة، حتى خاطبه عز وجل قائلًا: "فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا" الكهف: 6. ولقد كان صلوات الله وسلامه عليه كل همِّه دعوة النَّاس إلى مكارم الأخلاق، فكان يدعو لكلِّ خُلُقٍ صالحٍ حميد، ناهيًا عن كل خصلةٍ فاسدةٍ وخُلُقٍ ذميم، فقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم عن السبب الحقيقي لبعثته قائلًا: "إنما بُعثتُ لأتمم صالح الأخلاق"، ولقد كان صلوات الله وسلامه عليه خير قُدوَةٍ في جميع أقواله وأفعاله فبلغ درجةً من الكمال الخُلُقي لم يبلغها إنسان قبله ولن يبلغها إنسان بعده، حتى زكَّاهُ ربُّ العالمين، فقال: "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" القلم: 4. وتذكر لنا كتب السيرة النبوية العديد من المواقف التي تُثبِت عُلوَّ أخلاقه ورفعتها، وشدة رحمته ورأفته بالناس، فمن ذلك أنّ أعرابيًّا جاء إليه وكان على النبي صلى الله عليه وسلم بُردٌ غليظ الحاشية، فجذبه الأعرابي بردائه جَبذًا شديدًا، حتى أثَّر حاشية البُرد في صَفحَة عُنُقِه، ثم قال: يا محمَّد، احملني على بعيرٍ من مال الله الذي بيدك؛ فإنّك لا تحملني من مالكَ ولا من مال أبيكَ!. فسكت النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال: "المال مالُ الله، وأنا عبده"، ثم قال له: "لم فعلتَ بي ما فعلتَ؟!"، قال: لأنك لا تكافئ بالسَّيئة السَّيئةَ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمر أن يُحمَل له على بعيرٍ شعيرٌ وعلى آخَر تمرٌ"، فبرغم إساءة الأعرابي له إلا أنّه أجزل له العطاء ولم يعاقبه على سوء قوله وفعله معه صلوات الله وسلامه عليه، وعندما قال له آخر: اعدِل يا محمد؛ فإنَّ هذه قسمةٌ ما أُريد بها وجهُ الله!. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "ويلُكَ، إن لم أعدل أنا فمن يعدل؟ أيأمنني الله على خزائنه ولا تأمنوني؟!". وبالرغم من إساءة قومه له إلَّا أنَّه كان رحيمًا بهم رءوفٌ عليهم صابرًا على سوء أفعالهم وأخلاقهم معه صلوات الله وسلامه عليه فها هو نبيُّنا الكريم تُكسَر رباعيَّته يوم أُحُدٍ ويشُجَّ وجهه؛ فيشقّ ذلك على أصحابه؛ فيقولون له: لو دَعوتُ الله عليهم! فيقول: "إني لم أُبعَث لعانًا، وإنَّما بُعثتُ رحمةً"، ثم يقول: "اللَّهم اهدِ قومي؛ فإنَّهم لا يعلمون!!"، فنرى هنا شِدَّة رحمته وحلمه بقومه برغم إيذائهم الشديد له إلّا أنّه لم يرد أن يدعو عليهم ثأرًا لنفسه منهم، بل يدعو لهم بالهداية. ويصف لنا بعض أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه شدَّة حلمه ورحمته بالناس، فيقول: "ما رأيتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم منتصرًا من مظلمةٍ ظُلِمَها قطُّ، ما لم يكن حُرمَةً من محارم الله تَعالى، ولا ضرب بيده شيئًا قطُّ إلاَّ أن يُجاهِد في سبيل الله، وما ضرب خادمًا ولا امرأةً"، فقد كان صلى الله عليه وسلم أحلم النَّاس عند المقدرة وأصبرهم على الإيذاء. وبرغم منزلته الرفيعة وعلوِّ مقامه عند ربِّه وعند الناس جميعًا، فانّه كان شديد التواضع بعيدًا كل البُعد عن الكِبر، وحسبُنَا من كل ما يُقال أنّ الله خيَّره أن يكون نبيًّا مَلِكًا أو نبيًّا عبدًا؛ فاختار أن يكون نبيًّا عبدًا!، ولقد نهى رسولنا الكريم أصحابه عن إطرائه، فقال: "لا تُطروني كما أَطرَتِ النَّصارى ابنَ مريم، إنَّما أنا عبدٌ؛ فقولوا: عبدُ الله ورسولُه"، وفي موقف آخر يرويه لنا أبو أُمامَة حينما خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكِّئًا على عصا، فيقومون له؛ فيقول: "لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظِّمُ بعضُهم بعضًا"، وقال: "إنَّما أنا عبدٌ آكلُ كما يأكلُ العبدُ، وأجلِس كما يجلسُ العبدُ". فكان صلوات الله وسلامه عليه في بيتِهِ في مهنةِ أهلِه؛ يَرقعُ ثَوبَهُ، ويَحلِبُ شاتَه، ويَخصِفُ نعله، ويَخدِمُ نفسَه، كما كان يركب الحِمَار، ويَعودُ المساكين، ويُجالس الفقراء، ويجيب دعوةَ العبيد، ويجلس بين أصحابه مختلطًا بهم لا فرق بينه وبينهم، هذا كلُّه وقد أتته الدنيا كلها إلَّا أنَّه كان متواضعًا زاهدًا فيها تاركًا لها طالبًا للآخرة. ومن أجل ذلك كله جعل الله التأسِّي به صلى الله عليه وسلم عبادة يُتقرَّب بها إلى الله تعالى، وسبيلًا للجنَّة وطريقًا للنَّجَاة يوم القيامة، قال عز وجل: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا" الأحزاب: 21، بل ولم يقف الأمر عند هذا الحدِّ وفقط بل جعل الله اتِّباع محمد صلى الله عليه وسلم علامة على حبِّ الله تعالى، وسببًا لمحبة الله للعباد ومغفرتِهِ لذنوبهم، قال تعالى: "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" آل عمران: 31. فكانت دَعوتُه صلوات الله وسلامه عليه هي سرُّ حياةِ القُلُوبِ والأبدَان، والسَّببُ المُوصِّل إلى سعادة الدنيا والآخرة، فنسألك اللهم حُسنَ اتِّباعِه في القول والعمل.