سهير عبد الحميد فى 23 يوليو من كل عام، أتوقف برهة أمام هذا الاسم "محمد نجيب " فأنا أنتمى إلى جيل لقنوه فى مناهج التاريخ المدرسية أن جمال عبد الناصر هو قائد ثورة يوليو وأول رئيس للجمهورية، ثم تفاجأنا بعد أن أخذنا الوعي إلى القراءة عن حركة 23 يوليو، أن هناك رجلا آخر تم محو اسمه ورسمه من كتب التاريخ عمدا ومع سبق الإصرار والترصد، هو من أخذ على عاتقه تحمل مسئولية الثورة مما كان سيجعله أول المطلوبين وأول من تقطع رأسه فى حال فشلت الحركة .هذا الرجل هو اللواء محمد نجيب وهو أول رئيس فعلي للجمهورية ، نجيب المتهم البرىء من تهم أولها أنه برافان وزعيم شكلى وعروسة "ماريونيت" يحركها ضباط أقل فى الرتبة والكفاءة العسكرية والسن والحنكة وآخرها أنه كان يريد إعادة الأحزاب الفاسدة إلى الساحة، محمد نجيب المسجون المعتقل فى المرج فى جنة تحمل اسم فيلا زينب الوكيل لكنها جنة بدون ناس ..فقط خضار المروج المحيطة التى جاء منها اسم المرج ..والعساكر المحيطين بالقصر ليشعرونه فى كل لحظة أنه حبيس تلك الأسوار .. محمد نجيب اللواء الذي صفعه رائد فى عمر أولاده على وجهه لتنزل دموع الرجل الزعيم الذي بدأ كفاحه الوطنى وهو ابن الثامنة عشرة عندما شارك فى جمع توقيعات زملائه الضباط فى ثورة 1919 والذي وقف أسدا شرسا فى حرب فلسطين . لم يستمع إلى أوامر القادة بأن يظل داخل غرفة العمليات وهو الرجل الثانى فيها .تقدم الصفوف بجانب جنده وشارك فى المعارك ورغم إصابته فى معركة " التبة " بدير البلح إصابة قاتلة فإنه أصر على البقاء حتى إن الصهاينة حرصوا على تسجيل بطولاته فى معارك أسدود " و" تيتسانيم " و " الشيخ نوران " كى يستفيد جنودهم من خططه . رشحه البعض لوزارة الحربية فعلق الملك فاروق قائلا " لا أريد عرابى آخر فى الجيش " إلا أنه مع ذلك لم يستطع أن ينكر عليه بطولته فمنحه أعلى وسام عسكرى .وعندما أيقن نجيب ما تعانيه البلاد من فساد ،أقدم على حمل لواء مسئولية الضباط الأحرار وظل يخطط ويدبر ثلاث سنوات كاملة قبل الثورة وبعد اختياره رئيسا للجمهورية رفض الانتقال إلى قصر عابدين وفضل عليه منزله المتواضع فى حلمية الزيتون وتنازل عن نصف رابته كرئيس للجمهورية تقديرا منه للأحوال الاقتصادية المتردية فى البلاد . بعد أن نجحت الحركة وجد نجيب أن من واجب الضباط العودة إلى ثكناتهم لكنه فوجىء بإصرار الضباط على عدم عودة الأحزاب فقدم استقالته. إلا أن الجماهير خرجت تنادى باسمه وجعل ذلك الضباط أكثر حرصا على التخلص منه ..لقد كانت النية مبيتة حسب شهادة السفير رياض سامى السكرتير الصحفى للرئيس للتخلص من نجيب :"لقد بدأ الصدام عندما أعلن محمد نجيب فى نادى الضباط عام 1953عن رغبته فى العودة إلى الثكنات قائلا: لقد جئنا لمعالجة الأوضاع المتردية بمصر و ما تعانيه من فساد و علينا أن نسلم مقاليد الأمور إلى الأحزاب ، من يرغب منكم العمل فى معترك الحياة السياسية فيلخلع رداءه العسكرى و يتقدم للشعب ببرنامج سياسى محدد و فى صباح اليوم التالى ، يقول السفير رياض سامى :فوجئت بجرس التليفون يرن فى منزلى ، فإذا بالصاغ صلاح سالم يسألنى فى غضب واضح : هل قمنا بالثورة حتى نعود إلى الثكنات؟ فرفضت الإجابة ، و قلت له : يسأل الجيش عن ذلك و اتصلت باللواء نجيب ورويت له ما حدث فقال لى : من لا يقدر على الفيل يتشطر على ظله! كما استدعانى صلاح سالم و كان وزيرا للإرشاد ، و قال لى : هل تقبل أن يحكمنا العمال و الفلاحون أصحاب الجلاليب الزرقاء ؟ ... هل قمنا بالثورة لنسلمهم البلد ؟..ثم طلب منى مقابلة عبد الناصر فى مجلس قيادة الثورة ، فرفضت ذلك لأنى أحسست بالمؤامرة ..." عندما خرج الملك فاروق من مصر كان فى وداعه موكب رسمى وأطلقت له المدفعية 21 طلقة وعندما أخرج محمد نجيب من مكتبه صحبه ثلاث ضباط دون أن تؤدى له التحية العسكرية . ففى 14 من نوفمبر 1954 توجه إلى مكتبه فى قصر عابدين فإذا برجال الشرطة العسكرية يشهرون الأسلحة فى وجهه فنهرهم واتصل بعبد الناصر غاضبا مستنكرا فحاول الأخير تهدئته وأخبره أن عبد الحكيم عامر فى الطريق إليه ..هدأ خاطر محمد نجيب وانصرف إلى الجرائد المتراكمة على مكتبه فقرأ خبرا عن تآمره مع الإخوان المسلمين لاغتيال عبد الناصر فعرف أن مصيره قد تحدد .لم يسعفه الوقت فقد وصل عبد الحكيم عامر الذي قال له : مجلس قيادة الثورة قرر إعفائك من منصبك ثم أقسم بشرفه العسكرى وابنته نجيبة التى أسماها على اسم الرئيس محمد نجيب أنه سيعود بعد أسبوع بعد أن تنتهى التحقيقات مع الإخوان وسيعلن أمام الرأى العام أنه تنحى حفاظا على نزاهة التحقيقات ..لكن القسم لم يوفى به وتم تحديد إقامة نجيب فى المرج واصطحب زوجته عائشة لبيب وأبناؤه الثلاثة فاروق وعلى ويوسف وبعد انتقال أسرته الى المنفى وحسب رواية اللواء حسن سالم ابن شقيقته "هاجموا منزله فى الحلمية وكسروا كل شىء حتى إطارات الصور فلم يجدوا خلفها أى شىء . كما أن مجلس قيادة الثورة طلب منى بدلته العسكرية ليضعها فى المتحف لكن حتى هذه تم تبديدها ..وباتت أسرة الرئيس جائعة لأنه لم تصل الأوامر بتقديم الطعام .وظل محمد نجيب يردد حتى اللحظات الأخيرة من عمره "دى مش ثورة..دى عورة ".