مصطفى السعيد اتركوا السعودية تطلب التحكيم الدولي حتى نتجنب نشوب نزاع داخلي
الفرحة تعم مصر بصدور حكم القضاء الإداري ببطلان توقيع اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية، وقضت بتبعية جزيرتي تيران وصنافير لمصر، ورفضت الطعن المقدم من هيئة قضايا الدولة بعدم اختصاصها في نظر الدعوى. الهتاف في قاعة المحكمة للعدل ولمصر، امتد بسرعة إلى كل أنحاء مصر التي كانت تترقب الحكم، لتملأ الفرحة صفحات التواصل الاجتماعي، التي تكاد تسمع فيها أصوات الزغاريد، فقد كان كل مصري سواء اتفق مع الحكومة أم اختلف يضع الأمل في القضاء، ليضع حدا لهذا الوضع غير المسبوق في التاريخ، بأن يتم اقتطاع جزء عزيز على كل المصريين، جرى تعميده بدماء وعظام إخوتهم في الحروب مع إسرائيل. امتدت الأفراح إلى المصريين في الخارج، والذين بذل الكثير منهم جهدا كبيرا في جمع الوثائق التي تؤكد مصرية الجزيرتين، فقد انهالت الوثائق والخرائط من مكتبات وأرشيف معظم دول أوروبا، ووضعها تحت أيدي الحكومة والمحامين والرأي العام. التفاف المصريين حول الدفاع عن ترابهم شيء تفخر به أي حكومة، حتى لو كان لها رأي مختلف، فمثل هذا الشعب الغيور على ترابه هو من سيخوض معركة التحديث والتطوير، ولا يمكن أن تنهض بلد إلا بمثل هؤلاء. هذا الحكم التاريخي فرصة كبيرة على الحكومة أن تغتنمها، فالحكم سيجنبها أي حرج مع المملكة العربية السعودية، لأن القرار جاء من مؤسسة مستقلة وهي القضاء، الذي ينبغي الإعلان عن احترامه وتنفيذ قراراته، وإذا ما أرادت أن تذهب إلى التحكيم الدولي، فلها أن تفعل ذلك، ولدينا من الخبراء والوثائق ما يثبت حقنا في الجزيرتين. أعتقد أن الحكم جاء طوق نجاة للحكومة، ويمكنها أن تصوب موقفها، بل ترفع أسهمها بإعلان احترامها لحكم القضاء، وأن تسعى لاحتواء الشرخ الذي أصاب الرأي العام، فلا يمكن لحكومة أن تقف أمام القضاء لتثبت أن أرضا مصرية ليست مصرية، وهو ما لم يحدث في أي نزاع حدودي في العالم، حتى حول الأراضي التي تضع الدول أيديها عليها عنوة، فبريطانيا شنت حربا ضد الأرجنتين، عندما حاولت الأرجنتين استعادة جزر الفوكلاند المتاخمة لحدودها، والتي كانت جزءا، حتى استولت عليها بريطانيا، وكذلك تتمسك روسيا بجزر الكوريل، وترفض حتى مناقشة اليابان حول ملكيتها، ولا تلقي بالا بأي إغراءات اقتصادية ومالية تقدمها اليابان المكدسة بالسكان، والأكثر احتياجا للأرض، التي كانت جزءا منها حتى الحرب العالمية الثانية، بينما الأراضي الروسية شاسعة جدا، والجزر خاوية. كما أن المملكة العربية السعودية تتمسك بأراضي نجران وجيزان وعسير، وترفض أي مفاوضات مع اليمن حول إعادتها، وتركيا تتمسك بلواء الأسكندرونة السوري، وأراضي أخرى شمال حلب، ومنذ أسابيع كادت تحدث أزمة عنيفة بين بريطانياوأسبانيا عندما اجتازت سفن إسبانية المياه الإقليمية لجبل طارق الواقع ضمن إسبانيا ومازال تحت سيادة بريطانيا، التي احتجت وهددت إذا تكرر دخول أي سفينة إسبانية للمياه الإقليمية لجبل طارق، بينما إسبانيا تتمسك بسبتة ومليلة في المغرب. هكذا نجد الدول تدافع بضراوة عن أراض لا تملكها، وإنما سيطرت عليها بالقوة، فكبف تكون الحال والأرض جزء من كيانها الأصيل، ولم يسبق أن رفعت عليه أي دولة أخرى علمها، فلم تمارس أي دولة سوى مصر السيادة على جزيرتي تيران وصنافير، ولا يجوز أصلا إخضاع الجزيرتين للترسيم، لأن الترسيم يكون على أرض بكر لم تكن تحت سيادة أي دولة، أو حول حقل بترولي أو غازي تم اكتشافه حديثا، أما أن نقبل الترسيم على أرض مصرية منذ الأزل، ولم يرتفع عليها سوى علم مصر، ولم تزف فوقها غير دماء المصريين، وسبق أن استعدناها باتفاقيات دولية مرتين، بعد احتلال إسرائيل لها في حرب 1956، ونحتفل باستعادتها في عيد النصر يوم 23 ديسمبر من كل عام، بعد هزيمة العدوان الثلاثي على مصر، وتكرر استيلاء إسرائيل عليها في حرب 1967، واستعدناها ضمن اتفاقية كامب ديفيد، ولم تتداخل السعودية وتطالب بها أثناء مفاوضات استعادة سيناء، وهو ما يؤكد استقرار ملكيتها، وعدم وجود نزاع عليها، وإلا كانت قد تقدمت بطلب استعادتها بعد الحربين والانسحابين. إذا كان علينا أن نتعلم من أخطائنا، فأول ما يجب على الحكومة الإقرار به هو خطأ إجراء مباحثات سرية حول قضية تخص السيادة على الأرض، وأن تكون على الملأ أمام الشعب، وأن تفتح نقاشا مع الشعب، وأن تظهر بالقول والفعل تمسكها بالأرض حتى آخر نفس، وأن تستنفذ كل الفرص للدفاع عن الأرض المستأمنة عليها من الشعب، وأن تحترم الدستور الذي لا يجيز التنازل عن الأرض حتى باستفتاء شعبي، أو موافقة مجلس النواب، لأن هذه الأرض لا تخص جيلا بعينه، وانما ملك للمصريين الذين سيولدوا ويرثوا الأرض ويدافعوا عنها. دعونا نفرح بالحكم القضائي الذي ألغى الاتفاق، وأتمنى أن تفرح به الحكومة، ونشاطر الشعب فرحته، وألا تعتبره هزيمة أو انتقاصا منها، لأن مصر وأرضها أهم من أي شيء آخر، يمكن التجاوز عنه، فلا تمضي في العناد لإثبات أنها كانت على حق، وأن ترى فيه مخرجا ملائما من أزمة كانت ستؤدي إلى تداعيات خطيرة، لأن المصريين من أكثر شعوب العالم التصاقا بأرضهم، ويعتبرون التفريط أو التقاعس عن الدفاع عنها من الكبائر، التي نتمنى ألا يرتكبها أي مصري. كنا نتمنى أن يصدر عن الحكومة بيان سريع يعلن احترامه للحكم القضائي، وألا تطعن على الحكم، حتى لو كان الطعن من حقها، وأن تكتفي بهذا القدر من التوتر الذي أصاب الشارع المصري، وتحوله إلى فرح جماعي، نخرج فيه جميعا إلى الميادين رافعين أعلام مصر، ونهتف معا بمصرية تيران وصنافير، لتعود للميادين بعضا من بهجتها، وتفتح الضحكات والزغاريد طاقة نور وأملا جديدة، تعيننا على مواجهة الكثير من التحديات التي تواجهنا. إن الطعن الذي قدمته هيئة قضايا الدولة قد طعن فرحة المصريين ببقاء تيران وصنافير في حضن مصر، وهو طعن يسيء إلى حكومة مستأمنة للدفاع عن تراب مصر، وعلي الحكومة أن تراجع نفسها، وأن تعود إلى الشعب، وتحاول الالتحام بأحلامه وآلامه، وأن تؤكد له أنها جديرة بأن تكون ممثلة له، وقادرة على الدفاع عن مصالحه. تحية للقضاء المصري على حكمه التاريخي وموقفه الوطني، والذي سيسجله له التاريخ بأحرف من نور، وكل التهنئة للشعب المصري، خصوصا هؤلاء الشباب الذين تحركوا بكل سلمية ليقولوا إن تيران وصنافير مصرية.