السيد رشاد هل هى مصادفة أن يحقق المسلمون أعظم انتصاراتهم على مدار مئات العقود الحضارية فى أيام رمضان، وما السر فى هذا التلازم العجيب بين رمضان شهرالصبر وتحقيق النصر ..وهى الحقيقة التى لا تقبل الجدل وتؤكدها وقائع التاريخ القريب والبعيد التى لا تعرف الكذب، بداية من معركة بدر الكبرى، معركة المسلمين الأولى، وانتصارهم المؤسس الذى تم إرساء قيام ووجود الدولة كلها على قاعدته، وهى المعركة التى شهدت ارتفاع المسلم الصائم على حواسه ليرتفع بدوره إلى مستوى أهمية وخطورة هذه المعركة الفاصلة فى قيام الدولة وانتشار الدعوة أو زوالها.. أيضا من الانتصارات المصيرية التى حققها المسلمون الأوائل فى الشهر الفضيل "فتح مكة "، الذى وقع فى رمضان من العام الثامن للهجرة، واستطاع فيه المسلمون تحت قيادة النبوّة الخالدة، أن يكتبوا بحسم لأول وآخر مرة فى التاريخ شهادة وفاة الوثنية العربية، وعبادة الأصنام، التى عششت فى أدمغة العرب منذ القدم، وقد حدث هذا بالفعل عندما حطّم الرسول صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة الأصنام "الثلاثمائة والستين" التى كانت موجودة حول الكعبة المشرَّفة، وفى شهر الإيمان والصبر رمضان المعظم استطاعت الحضارة الإسلامية تحت قيادة رائدها الأول عليه الصلاة والسلام أن تنتصر انتصارها الإيمانى والحربى الحاسم هذا دون إراقة دماء على أكبر معاقل الشرك فى العالم القديم... ومن أبرز المعارك التى انتصرت فيها أمتنا إبان العصر الراشدى، هى معركة "القادسية " التى غيرت ملامح التاريخ وموازين القوى العالمية.. والتى وقعت فى رمضان سنة (16ه) بين المسلمين والفرس، وبالتالى تسنَّى لأمتنا فى هذه الموقعة الحاسمة تغيير ملامح التاريخ البشرى، وذلك بعد أن استطاع المسلمون فى هذه المعركة أن ينهوا الوجود الفارسى وسيطرته على تلك المناطق المهمة من العالم حينئذ، وفى موقعة القادسية تبلوَر أيضاً مدى الإعجاز الفريد للجانب العقدى الذى فجَّر الإيمان الصادق فى نفسية أمتنا الإسلامية، وذلك عبر الحوار الذى دار بين الصحابى ربعى بن عامر رضى الله عنه، ورستم قائد الفرس، وذلك عندما دخل ربعى بن عامر على رستم، فقال رستم لربعى:" ما الذى جاء بكم إلى هنا؟! قال: جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ". ولقد تبلورت فى سياق هذا الحوار الأهداف السامية التى حملها روَّاد هذه الحضارة، بعد أن صيغت الصياغة الإيمانية الكاملة وانصهرت فى البوتقة الإيمانية الصحيحة.. فى رمضان أيضا استكملت الحضارة الإسلامية رسم ملامح خريطتها الجغرافية الكبرى، بعدما تمَّ فتح الأندلس فى (رمضان 92ه يوليو 711م) فى عهد الخليفة الأموى الوليد بن عبدالملك، إذ استطاع قائده الفذّ طارق بن زياد فتح تلك البلاد التى كانت تسمى بشبه الجزيرة الإيبيرية وضمها إلى كيان الدولة الإسلامية، ولقد نتج من هذا الفتح المبين، أن انطلقت أمتنا الإسلامية انطلاقتها الحضارية الكبرى، ووصل إشعاعها إلى أوروبا المظلمة، وبعد فتح الأندلس واصل المد الحضارى الإسلامى امتداده فامتدت حدود الدولة الإسلامية من الصين شرقاً حتى الأندلس غرباً... وفى رمضان شهر الانتصارات كانت مصر وجيشها العظيم الأبرز حضورا فى خارطة الانتصارات الرمضانية، ويكفى أن مصر أنقذت العالم من الدمار المغولى التترى فى معركة "عين جالوت"، ففى هذا الشهر المبارك، استطاع الجيش المصرى، درع وسيف الأمة العربية والإسلامية، فى معركة عين جالوت – التى جرت فى (15 رمضان 658ه 3 سبتمبر 1260م) أن يتصدَّى للخطر المغولى الداهم، الذى هدد الوجود الحضارى فى كوكب الأرض برمته، فشلَّت قوات مصر ديناميكية هذا المد الهمجى، وذلك بعدما لمَّت الأمة الإسلامية شتاتها المبعثر، فى بلد واحد هو مصر قلب الإسلام النابض ومعها الشام العمق التاريخى لمصر، فانتصرت على المغول الذين تراجع مشروعهم التدميرى أمام الجيش المصرى بقيادة سيف الدين قطز الذى رفع شعار "وا إسلاماه"فأنقذ البشرية كلها من الهمجية المدمرة، ولهذا السبب، تُعتبر موقعة عين جالوت بحق إحدى الوقائع المهمة ليس فى تاريخ مصر والشام فحسب، ولا فى تاريخ الأمة الإسلامية، بل فى تاريخ العالم بأسره• ونحن لا نجاوز الحقيقة إذا قلنا إن هذه الموقعة تفوق فى أهميتها كل الوقائع الحربية الحاسمة فى العصور الحديثة، لأنها كانت إيقافاً لحرب همجية، شنَّتها قبائل بربرية متوحشة سفَّاكة للدماء، مخرِّبة للعمران البشرى ضد سكان المدن فى كل مكان، فانتصار هذه القبائل أى قبائل المغول على جيش مصر، كان معناه القضاء المبرم على حضارة العالم الشرقية والغربية، ومن هنا تكون موقعة "عين جالوت الرمضانية" قد تركت فى تاريخ البشرية قاطبة أثراً أشد وأقوى مما تركته كل المعارك الحديثة، وهكذا استطاعت مصر وجيشها العظيم أن تحافظ على التراث الحضارى الإنسانى من الانهيار والضياع فى رمضان..وفى عصرنا الحديث لا يمكن أن ننسى درة انتصارات الأمة "معركة العاشر من رمضان ، التى أبهرت العالم وزلزلت ثوابت الإستراتيجيات العسكرية الدولية ..وهو الانتصارالذى نحتفل بذكراه هذه الأيام! عندما تصدَّت القوات المسلحة المصرية، ومعها شقيقتها السورية، وخلفها كل العرب، تصدت بعزيمتها الفولاذية لعدو العرب التاريخى " الصهاينة " فتحققت المعجزة العسكرية التى وصفها العالم بالمستحيلة، من اقتحام قناة السويس أكبر مانع مائى فى التاريخ الحربى المعاصر وإزالة الساتر الترابى بخراطيم المياه وليس بالقنابل الذرية، وتحطيم خط بارليف الحصين بسواعد المصريين فى تلك المعركة الحاسمة التى خاضت مصر وسوريا غمارها ضد الكيان الصهيونى المزعوم، فى العاشر من رمضان 1393ه السادس من أكتوبر 1973م.. إن الواقع التاريخى لهذه الأمة، يؤكد أن ارتقاءها إلى مستوى استيعاب تلك المعطيات الإيمانية الناجمة عن السمات والملامح التكوينية لرمضان قد ساعدها على الانتصار مع الأخذ بأسباب النصر من كل الوجوه.. فانتصار العاشر من رمضان مثلا تحقق بالمصداقية والشفافية والمنهج العلمى وإشراك الكفاءات ووحدة الهدف، انتصرنا لأننا حولنا "تحرير سيناء "الى هدف جمعى عام التف حوله الشعب المصرى كله، ثم تحول "الهدف " إلى "شعار عام"يردده، ويؤيده الجميع .."لا صوت يعلو على صوت المعركة "..ثم صاحب الشعار "فعل واحد"متكامل متناغم متناسق .."هو العمل من أجل الاستعداد للمعركة ودعم المجهود الحربى..فمع خطط تحديث وتدريب وإعداد القوات المسلحة على أعلى مستوى وبأعلى كفاءة ..كانت هناك البرامج الإعلامية والكتابات الصحفية الممنهجة طبقا لهذا الهدف ومعها حفلات أم كلثوم وغيرها من الفنانين لدعم المجهود الحربى، ومناهج تدريس وتأهيل الشباب المصرى، وبرامج تدريب المجتمع المدنى..وتحركات رجال الصناعة ومنظومة كبار التجار والأسواق.. وغيرها من منظومات عملت معا لتحقيق هذا الهدف الجمعى.. وما كان لهذا الفعل لينجح لولا وضع هيكل تنظيمى لإدارته من الكفاءات الوطنية المخلصة التى اعتمدت أسلوب الإدارة بالمشاركة لا بالاستخدام ؟ وهناك فارق شاسع بين أن "تشرك العاملين" معك .وبين أن "تستخدمهم" فقط . ثم وضع آليات تحقيق هذا الهدف طبقا للمنهج العلمى الدقيق والتى تجلت فى اختيار التوقيت بعبقرية ونجاح خطة الخداع الإستراتيجية بصورة مبهرة وتطوير السلاح الروسى العتيق..ومنح الفرص الحقيقية للشباب وإلا لما رأينا فكرة عبقرية لمهندس المركبات الشاب والضابط الصغير وقتها "باقى زكى" الخاصة باستخدام خراطيم المياه لإزالة الساتر الترابى ترى النور..وفى المقابل كان الكبار قدوة حقيقية لمرؤسيهم وهل هناك قدوة أعظم من استشهاد رئيس أركان الجيش اللواء عبد المنعم رياض فى أحد مواقع الخطوط الأولى على شط القناة فى حرب الاستنزاف..كانت هذه عوامل النصر التى قامت على العلم والكفاءات بمصاحبة الأجواء الايمانية العظيمة التى تصنعها أجواء رمضان الروحية..وبهما معا العلم والايمان فى منظومة الكفاءات.. تحقق انتصار العاشر من رمضان ..وبهما سوف تتحقق كل الانتصارات.. ويا ليت الأمة تفيق من سُباتها الحضارى العميق، وتعود إلى وعيها العلمى ورشدها الإيمانى، ولتكن البداية باعادة شهر رمضان المعظم من شهر "مسلسلات وعزومات ومفرقعات" إلى ألق روحه الإيمانية السمحاء المستمدة من سماحة الإسلام ووسطيته وقيمه الإنسانية الراقية التى هى أمضى أسلحة أتباعه الحقيقيين لا الدخلاء ولا الجهلاء ولاالمتاجرين به من أعداء الوطن، عندها حتما ستعود لرمضان أغلى سماته باعتباره " شهر الصبر والنصر ".