وزير الأوقاف يوجه الشكر للرئيس السيسي لافتتاحه مسجد السيدة زينب    يؤديها 35 ألف طالبًا وطالبة.. انتظام امتحانات نهاية العام بالوادي الجديد (صور)    إجلاء أكثر من أربعة آلاف شخص من منطقة خاركيف الأوكرانية    20 صورة ساحرة.. ماذا فعلت العاصفة الشمسية في الأرض؟    تأهل 4 لاعبين مصريين للجولة الثالثة من بطولة العالم للإسكواش    أبو مسلم: العلاقة بين كولر وبيرسي تاو وصلت لطريق مسدود    اختلت عجلة القيادة.. مصرع سائق في حادث بسوهاج    نقل 11 مصابا في حادث سير لمستشفى ديرب نجم    أسامة كمال عن أزمة تصوير الجنازات: هل المواطن يستمتع ب مشاهدة الصراخ والبكاء؟ أين حُرمة المتوفي واللحظة؟    18 مايو.. متاحف الآثار تفتح أبوابها للزيارة مجانا    حكم أخذ قرض لشراء سيارة؟.. أمين الفتوى يوضح    اليوم.. تشريعية الشيوخ تستكمل مناقشة تطبيق القانون المدني على عقود الإيجار    مصر لديها أكبر عدد للواعظات فى العالم بواقع 691 واعظة .. الوعظ النسائى قصص وحكايات ترويها واعظات الأوقاف    فصائل فلسطينية: قصفنا حشود الاحتلال الإسرائيلي المتوغلة شرق رفح    الدفاعات الأوكرانية تدمر خمس طائرات استطلاع روسية في خيرسون وميكوليف    الأمين العام للأمم المتحدة يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة    الرئيس الأمريكي يعزي البرازيل في ضحايا الفيضانات    وزير التعليم العالي : 7 مستشفيات تابعة للجامعات الخاصة في مرحلة متقدمة من الإنشاء والتجهيز    أسعار اللحوم اليوم الأحد 12-5-2024 في الأسواق ومحال الجزارة بقنا    خالد الغندور: 3 لاعبين في الأهلي بيشجعوا زملكاوية    حارس باريس سان جيرمان يعلن الرحيل رسميًا    رئيس الوزراء يشهد الجلسة الافتتاحية لفعاليات «يوم مؤسسة التمويل الدولية»    بدء تسليم دفعة جديدة من وحدات «سكن مصر» بالقاهرة الجديدة    حالة الطقس اليوم الأحد 12-5-2024 في محافظة قنا    تفاصيل مصرع ربة منزل وطفلتها في انقلاب موتوسيكل بترعة بأطفيح    جدول مواعيد القطار الأسرع في مصر والقطارات المكيفة على خط «القاهرة - أسوان»    أسعار السلع التموينية اليوم الأحد 12-5-2024 في محافظة قنا    المالية: تبكير مواعيد صرف مرتبات يونيه للعاملين بالدولة    سلطان طائفة البهرة: أقدر مساعي أجهزة الدولة المصرية لإنارة بيوت الله    حظك اليوم وتوقعات الأبراج 12 مايو 2024: مشاكل ل«الثور» ومكاسب مالية ل«الحوت»    فيلم "السرب" يتربع على إيرادات شباك التذاكر خلال 12 يوم    الاحتلال يحاصر النازحين بمراكز الإيواء التابعة للأونروا فى مخيم جباليا    مشتريات عربية تقود صعود مؤشرات البورصة في مستهل تداولات الأسبوع    خريطة دينية للارتقاء بحياة المواطن التربية على حب الغير أول مبادئ إعداد الأسرة اجتماعيا "2"    توقيع بروتوكول تعاون بين محافظة القليوبية وجامعة بنها    السيطرة على حريق نشب فى عشش بمنطقة البساتين    «المالية»: تبكير مواعيد مرتبات صرف يونيه للعاملين بالدولة بمناسبة إغلاق السنة المالية وعيد الأضحى    «صحة مطروح» تطلق قافلة طبية مجانية بقرية زاوية العوامة بالضبعة.. غدًا    اليوم.. «تضامن النواب» تناقش موازنة المركز القومي للبحوث الجنائية    اليوم .. وزارة الداخلية تُعلن شروط قبول الدفعة العاشرة من معاوني الأمن (تفاصيل)    ترتيب الدوري السعودي الإلكتروني للعبة ببجي موبايل    السيسي: أهل البيت عندما بحثوا عن أمان ومكان للاستقرار كانت وجهتهم مصر (فيديو)    موعد عيد الأضحى المبارك 1445ه: تفاصيل الإجازة وموعد وقفة عرفات 2024    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الأحد 12 مايو    إسلام بحيري يرد على سبب تسميه مركز "تكوين الفكر العربي" ومطالب إغلاقه    أخبار مصر: رد إسلام بحيري على محمد حسان وعلاء مبارك، نجاة فتاة بأعجوبة من حريق بالأميرية، قصة موقع يطارد مصرية بسبب غزة    المجلس الاقتصادى والاجتماعى يواصل التحضير للقمة العربية بالانعقاد اليوم على المستوى الوزارى.. خطة الاستجابة الطارئة للعدوان على غزة تحظى بزخم كبير.. ومندوب فلسطين يكشف تفاصيلها.. واهتمام بالغ بالتحول الرقمى    الرئيس السيسى من مسجد السيدة زينب: ربنا أكرم مصر بأن تكون الأمان لآل بيت النبى    رئيس جامعة حلوان يفتتح معرض "الإبداع في التصميم التنفيذي للمنشآت الخشبية الخفيفة"    مصرع شاب في حادث تصادم بطريق شبرا بنها – الحر في القليوبية    مش هروحه تاني، باسم سمرة يروي قصة طريفة حدثت له بمهرجان شهير بالسويد (فيديو)    ما حكم الحج عن المتوفى إذا كان مال تركته لا يكفي؟.. دار الإفتاء تجيب    وزير الرياضة يفتتح أعمال تطوير المدينة الشبابية الدولية بالأقصر    ما التحديات والخطورة من زيادة الوزن والسمنة؟    علي الدين هلال: المصلحة الوطنية لكل دولة عربية الحفاظ على استقرار المنطقة    عمرو أديب ل إسلام بحيري: الناس تثق في كلام إبراهيم عيسى أم محمد حسان؟    الصحة تعلق على قرار أسترازينيكا بسحب لقاحاتها من مصر    ملف رياضة مصراوي.. مذكرة احتجاج الأهلي.. تصريحات مدرب الزمالك.. وفوز الأحمر المثير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاتفاقية الحرام (17).. الروائى الجزائرى واسينى الأعرج: أكبر ما حل بالعرب نكبتان: "سقوط الأندلس وسايكس بيكو"
نشر في الأهرام العربي يوم 17 - 05 - 2016


حوار: السيد حسين
يرصد الروائى الجزائرى واسينى الأعرج فى روايته رواية "رماد الشرق: بجزأيها"الذئب الذى نبت فى البراري"،"خريف نيويورك الأخير" تحولات الشرق فى بداية القرن الماضى بقوة ويستثمر الأعرج التاريخ العربى من سايكس بيكو إلى نكبة فلسطين وغيرها، عبر بعض شخوصه مثل يوسف العظمة والأمير عبد القادر الجزائرى والملك فيصل ولورانس العرب واللنبى وغيرهم، وتتحول فلسطين لديه إلى موضوع روائي. وتكشف الرواية أسرار اللعبة التاريخية، وعبث الإنسان بالتاريخ.

بعد أيام قليلة تمر 100 عام على توقيع اتفاقية "سايكس بيكو" وقد استعرضت ذلك فى روايتك"رماد الشرق" بجزأيها والرواية تكشف مآلات الوضع وما وصل إليه الوطن العربى حالياً كيف ترى ذلك؟
قرن من الزمن وما زلنا داخل الطاحونة نفسها. هناك حالة غريبة حقيقة أنا لا أفهمها جيدا، هى رفض حكامنا قاطبة من رؤية ذلك بأنه نكبة خطيرة لأنها منعتنا من أية إمكانية للتطور. أكبر ما حل بالعرب ولم تقم لهم قائمة بعد ذلك، نكبتان: الأولى سقوط الأندلس. ليس السقوط بالمعنى النوستالجى، فالأرض فى النهاية عادت لذويها بعد أكثر من ثمانية قرون، وهو أمر يدخل فى طبيعة الأشياء. طبعا العرب شيدوا حضارة كبيرة وثقافة عالية على مدار هذا الزمن كله لكن، انتهى كل شىء، وآن أوان التوقف وعودة الأرض إلى ذويها، ولو أن الملوك الكاثوليك كانوا من نوعية بائسة، لم يقدروا البعد الحضارى العربى الذى ورثوه. محوا كل المعالم وأنشأوا محاكم التفتيش المقدس فى فترة الطرد والاسترجاع. ليس هذا ما أقصده طبعا، لكن الفجيعة الأولى هى عملية الطرد. ثلاثة ملايين مسلم ويهودى، من أصول عربية أو بربرية أو عبرانية، يجدون أنفسهم بين يوم وليلة على حافة السواحل لا حامى لهم إلا السماء والأرض والبحر. أكبر هولوكوست حصل وقتها قبل أن يمحوه هولوكوست آخر الذى مورس ضد الهنود الحمر. البشرية تواطأت معه أو صمتت عليه وبالتحديد أوروبا التى دفعت إسبانيا للاعتذار لليهود وإعطائهم الحق فى استرجاع الجنسية، وهو أمر حضارى وإنسانى، لكنهم لم يعتذروا للمهجرين من المسلمين. فى العصر الحديث كانت كارثة سايكس بيكو التى مزقت الأرض العربية وخلقت عليها دولا بين قوسين تبعية للفرنسيين أو البريطانيين. وضع الإنجليز الأمير فيصل حاكما على سوريا التى انتزع منها لواء الإسكندرون فى لعبة سياسية عسكرية فرنسية تركية، ووضع الأمير عبد الله ابن الشريف حسين على الأردن. وفصلت فلسطين ووضع لها قانون خاص انتهى بتسليمها إلى عسكريى الهاجانا والشتيرن. ويتم فضح اتفاقيات سايكس بيكو السرية لينتهى حكم الأمير فيصل فى سوريا لأنها أصبحت منطقة فرنسية مع لبنان، ويوضع على رأس الحكم فى العراق. هناك لعب خطير بالمصائر العربية، مثل رقعة شطرنج. من نتائج سايكس بيكو نكبة فلسطين وتمزق شيء اسمه العالم العربى وخلق شرق جديد ابتدعه الغرب. وإدوارد سعيد محق فى ذلك. وما الشرق الجديد إلا استمرار للشرق الذى ابتدعته سايكس بيكو، الذى نشأت على إثره دول عربية تبعية وأخرى متمردة مثل سوريا والعراق ومصر، فوجب كسرها، وكسرت. وبدل أن تكون سايكس بيكو الجغرافيا والأرض، أصبحت سايكس بيكو الإثنية والعرقية والطائفية ليكون التمزيق أكثر، وسيتواصل ذلك بتواتر وتسارع وستنشأ دويلات على أساس عرقى، لغوى، طائفى وغيرها. عبث بمصائر بشر كأنهم لا يستحقون أن يعيشوا. وكل المشهد التراجيدى الذى نراه اليوم لا يخرج عن هذا التمزيق الأكثر خطرا وتجذرا. لهذا رواية رماد الشرق، أعادت إلى الواجهة هذه المأساة بينما رواية العربى الأخير، أتمت الحديث الأدبى عن التمزق القادم الذى ينهى، إن استمر على وتيرته، شيئا اسمه العالم العربى كما عرفناه على الأقل.
الرواية ترصد التحولات بالشرق الأوسط فى بداية القرن الماضى من "سايكس بيكو" إلى نكبة فلسطين كيف تم هذا الرصد؟
اعتمد هذا الرصد على المادة الأدبية والسياسية والاجتماعية. كان يجب قراءة عشرات الوثائق الكبيرة والمتنوعة للتمكن من كتابة نص، أعتقد أنه يقول انكساراتنا وهزائمنا التى أصبحت جزءا منا. أعرف أنها هزائم أيضا تم تصنيعها. لا يمكننى أن أقبل بأن كل الهزائم العربية وراءها غباء متأصل فينا. نعم هذا موجود وتتحمله أنظمة وضعها الذين مزقوا الأرض ويمزقون اليوم الإنسان من الداخل. لكن اليد الغربية حاسمة فى كل الهزائم. لننظر إلى سايكس بيكو ومن مزق الأراضى العربية؟ العدوان الثلاثى، من قاده؟ حرب أكتوبر، من غير ميزان القوى فى الأخير وحول الانتصار، إلى انتصار بطعم الهزيمة بعد الحصار؟ قراءة التاريخ الحديث والقديم تبين أن الأشياء بها خيط يربطها وهذا الخيط هو الذى جعل العرب فى الوضع الذى يعيشونه اليوم. نعم صدام ديكتاتور قتل شعبه وشرد مثقفين، لكن صدام كان سيزول بعد سنة أو بعد نصف قرن، لكن كسر العراق يتحمل الأمريكان مسئوليته الكبرى قبل أن يعلنوا عن الشرق الجديد الذى يرمى كل تاريخ العرب فى المزبلة ولا يعمل إلا على تاريخ هم من صنعه. الطائفية موجودة مثل العرقية وتخترق العالم العربى بقوة منذ قرون، لكنها لم تكن قوة مدمرة فى ظل الدولة المركزية، وكان يمكن أن تحل ضمن الدولة الواحدة. بريمر هو عراب المحاصصة الطائفية التى أعطت عراق اليوم. سوريا نفس الشيء. بغض النظر عن طبيعة الأنظمة العربية البائسة، تم التمزيق والتكسير، فى ظل تحالف عربى - أوروبى - أمريكي. العرب هم من يدفع ثمن الحروب ضد أنفسهم. فهم أمة تبيد نفسها بنفسها. لقد تم إيقاظ هذه البشاعة الطائفية التى سبق أن حللها الفكر الصهيونى، وأعتقد أنه يشكل اليوم أرضية أيديولوجية لكل هذه الممارسات، وحولت إلى سلاح قاتل. هذا كله اقتضى منى متابعة قوية وقراءات مستمرة للوصول إلى ما وصلت إليه. الحذر الكبير فى كل هذا هو المزلق المميت، من أن لا تتحول الرواية إلى كشكول من الأحداث التاريخية والوقائعية، لكن أن تظل نصا أدبيا حيا أولا وأخيرا.
هل تحاول الرواية أن تكشف أسرار اللعبة التاريخية وعبث الإنسان بالتاريخ من خلال أشخاص الرواية من "يوسف العظمة، الأمير عبد القادر الجزائرى، الملك فيصل، لورانس العرب، واللنبى وغيرهم؟
هناك لعبة رفضها البعض وانخرط فيها البعض الآخر. الأمير عبد القادر رفض أن يكون حاكما على دولة الشرق التى كان ينوى نابليون الثالث تأسيسها وكانت علاقته بالأمير طيبة لأنه هو من أخرجه من سجنه أو حجزه فى مدينة أمبواز الفرنسية. وظل الأمير المقيم وقتها فى الشام، بعيدا عنها وإن انخرط بعض أبنائه فيها. يوسف العظمة كان بطلا تاريخيا مقاوما، ولكن يائسا إذ دخل الحرب بدون جيش منظم. كان يعرف سلفا أنه سيموت فى حرب غير متكافئة، حتى أنه وضع ابنته فى حماية رئيس الحكومة وقتها لأنه بعد وفاته لا معيل لها. يكاد يكون فعله انتحاريا لكنه بطولى أيضا. ودخل حربا قاسية قاوم فيها باستماتة ضد الزحف الفرنسى نحو سوريا لكن كل شيء كان قد انتهى. فأصبح بطلا تراجيديا. يعرف أنه سينتهى لكن لا خيار له إلا خوض هذه الحرب وهو خيار بطولى حتما لكنه لم يغير فى الأمر شيئا، فقد دخل السفاح غورو، محمولا على الأكتاف هو وسيارته. قد تكون الصورة مؤذية لكنها الحقيقة الموثقة حتى بالصور. يجب أن يراها العرب ويتأملوها جيدا. الملك فيصل كما تعرف بقى مشدودا بين قوتين. الفرنسية والبريطانية. بعد سايكس بيكو سحب من سوريا نحو العراق لتعيش عائلته تراجيدية أخرى. صداقته مع القائد العسكرى ألمبى ومع لورانس.
هذا التاريخ أيضا يجب أن يقرأ على ضوء رؤيتنا كعرب إذا كانت لدينا رؤية، وأعتقد أنها متوافرة عند كبار الباحثين الذى يعيشون فى المنافى الداخلية أو الخارجية مثل إدوارد سعيد الذى فكك الظاهرة الاستعمارية ليس سياسيا فقط لكن أيضا ثقافيا. أما لورانس العرب، فقصته مهمة وهى الأساس، لأنه كان الممثل الرئيسى فى تاريخ المنطقة فى بدايات القرن العشرين، بعد تصفية الاستعمار العثمانى وجد العرب أنفسهم فى حاضنة لا تقل بشاعة عن الحاضنة العثمانية فى زمن جمال باشا السفاح. لم يخدم العرب مطلقا. هو بريمر تلك الفترة. أشرف على تدمير الاحتلال العثمانى وقدم خدمة جليلة لجيش بلاده ولألمبى، القائد العسكرى الإنجليزى. لا أدرى كيف يعتبره بعض العرب صديقا، قدم لهم خدمات مهمة، وهو الذى هيأ الأوضاع لاقتسام أرضهم وتكوين الدويلات الميتة عليها، التى ما زلنا نعانى حتى اليوم من بؤسها وتخلفها. هو يقول ذلك كله بعظمة لسانه فى كتابه الأعمدة السبعة للحكمة ولم يخفها أبدا. أنا لم أصف حسابى معه فى رواية رماد الشرق، كما ظن مترجمى إلى الإنجليزية، قبل أن أفهمه الحقيقة بالوثائق، ولكن تعاملت مع الحقائق كما قرأتها وقارنتها اعتمادا على اللغات المتعددة. هذه العقلية لا تزال متسيدة.
يوم وفاة الممثل الإيرلندى بيتر أوتول الذى أدى دور لورانس العرب جللت الكثير من الجرائد العربية بالسواد من خلال عناوين كبيرة من مثل وداعا لورانس العرب. مات لورانس الثورة العربية. لورانس العرب يرحل. وغيرها. كان هذا كله حزنا على رحيله أى الممثل فقط وليس لورانس، عن عمر تجاوز الثمانين عاما بقليل. صحيح أن الممثل حقق شهرة عالمية غير مسبوقة بفضل أدائه المميز لدور لورانس العرب فى عام 1962 وحصد فى وقته سبع جوائز منها جائزة أفضل مخرج. رشح الممثل الإيرلندى ثمانى مرات للفوز بالأوسكار قبل أن يمنح اعترافا فخريا فى عام 2003 على مجمل أعماله.
فى النهاية ليس هذا هو الإشكال، فالممثل أدى دوره بامتياز فى هذا الفيلم وفى غيره لكن فى الشخصية التى تقمصها.
لورانس العرب عندما نقرأ كتابه أعمدة الحكمة السبعة لا يساورنى أى شك فى أنه كان يشتغل، حتى وفاته فى حادث الدراجة النارية الغريب، لصالح الإنجليز وكان مخبرا لصالح الدوائر الإنجليزية. وكان عرابا حقيقيا بين العرب والسلطات الإنجليزية. ويبدو أن العرب لا يعرفون إلى اليوم كيف يتعاملون مع هذه الظاهرة التاريخية التى كانت العنصر الحقيقى والأساسى فى تدمير الوحدة الجغرافية العربية فى بلاد الشام والحجاز ومنح فلسطين للهاجانا والشترن التى تكون منها لاحقا الجيش الإسرائيلى، كما ذكرت سابقا، عندما اتخذ البريطانيون قرار الخروج. يحتاج المؤرخون العرب إلى استعادة لورانس العرب بموضوعية ووضعه فى مساراته التى حكمت زمنا بكامله ووجهته وفق مقتضيات الحال، وخلقت وضعية جديدة فى المنطقة العربية ما زلنا إلى اليوم نعانى من مخاطرها وويلاتها.
تستند روايتك"رماد الشرق" إلى الكثير من التفاصيل عن فترة مهمة من التاريخ العربى والدولى، فما هى المراجع التاريخية التى اعتمدتها فى كتابة الرواية؟ وما أبرز الصعوبات التى واجهتك فى ما يخص المراجع التاريخية؟
أنا كنت فى وضعيتين، أو كما يقول المثل الفرنسى بقبعتين. قبعة المؤرخ، وهذه حتمت عليّ العمل طويلا على الوثائق وقد انتقلت إلى بلدان عربية كثيرة التى عاشت زمن التمزيق أو تم على أراضيها، منها لبنان عاينت فيها ما تبقى من المحكمة التركية التى حكمت بالإعدام على أوائل القوميين العرب، وذهبت أيضا إلى الأردن ومصر والسعودية وقطر على وجه الخصوص، وكان لى شرف زيارة المكتبة التوثيقية التابعة للديوان الأميرى والتى بها المراسلات الإنجليزية عن تلك الحقبة، ووجدت أشياء كثيرة ومهمة حتى قضية النفط واللعب الإنجليزى وفكرت وقتها أن أكتب رواية عن فترة اكتشاف النفط ودور البريطانيين فى الكثير من النعرات والصراعات القبلية، لكن ألغيت الأمر وبقيت فى مشروعي. ساعدنى المؤرخ السورى الدكتور الفاضل فرزات فى التعامل مع هذه المادة الحية والمهمة. وكان يعمل معى باستمرار فى إطار مشروع التاريخ العربى روائيا (جائزة قطر العالمية للإبداع الروائى 2005). هناك الأمكنة والأزمنة والتواريخ من وثائق وكتب وفيديوهات عن الحقبة. تشبعت بالمرحلة وأصبحت مسيطرا عليها. لأن واحدة من وظائف كاتب الرواية التاريخية أن يهيمن على المساحة التى يعمل عليها ولا يترك شيئا للمصادفة، وإلا سيفشل فى مشروعه فى النهاية. ولكننى فى النهاية لست مؤرخا ولا أعيد كتابة التاريخ، لكن أكتبه إبداعيا. وكان على أيضا أن أرتدى قبعة الكاتب التى هى قبعتى الأساسية وهى المهمة الأصعب. كيف أجعل من مادة جافة وميتة عمليا مادة تاريخية حية وديناميكية بها أنفاس وروائح وبشر يتحركون. وهذا ليس أمرا سهلا لأننا داخل مادة متضاربة متناقضة ولغات متعددة فرنسية - عربية - إنجليزية - إسبانية فى حدود اللغات التى أعرفها، وكان عليّ أن أجد مسلكا للحكاية. فخلقت حكاية عائلة بكاملها شكلت لى مسارا كاملا للكتابة الأدبية. بدأت من لحظة إعدام جمال باشا السفاح للأبطال القوميين العرب المنادين بنهاية الهيمنة العثمانية، فى بداية القرن، حتى سقوط البرجين التوأمين، اللذين يعنيان لى انتهاء حقبة وبداية حقبة سيكون العرب فيها هم المستهدف الأول بسبب الخيرات التى تحويها أراضيهم؟ هو تاريخ، ليس تاريخنا لكنه تاريخ صنع لنا. يمر اليوم قرن على هذا التاريخ. على هذه المأساة التى تتلون باستمرار، لكن فى الجوهر مستمرة برهان واحد: الحفاظ على العرب فى عز التخلف والدفع بهم أكثر نحو تراجيدية هم من يعيد تصنيعها.
ذهب لورانس وجاء بريمر، وذهب بريمر فجاء داعش، مختصر التقاء البؤس البعثى الانتقامى، بأحطّ الحركات الإسلاموية وما يمكن أن تنتجه من تخلف، من خلال حركة لا عمل لها إلا تدمير ما كان واقفا عبر القرون. تخيلهم فى مصر يذهبون نحو الأهرامات ويقومون يتدميرها كلها مثلما فعلوا فى سوريا مع معالم تدمر؟ هل هذا مستحيل؟ وهل هذا صدفة. لا. لا. لا. هو جزء من طاحونة تمحو كل معالم التاريخ والحياة لدى العرب وإرجاعهم نحو تخلف مدقع. لهذا أقول إن رواية العربى الأخير تتمة غير مباشرة لكن بالمعنى التاريخى، لرواية رماد الشرق. تاريخنا مأساوى بأدق معنى الكلمة. هل نفذت إلى عمق هذه المأساوية فى رماد الشرق وغيرها؟ لا أدرى، يكفينى أنى حاولت وللأجيال المقبلة التى ستعيش عصرا أكثر قسوة، أن تقول كلمتها.
هل من حل استباقى بعد كل هذه الهزائم والانكسارات وفقدان المعنى واليأس من التاريخ؟ هل للعرب مخرج ينجيهم من هذه التراجيدية التى توضحت أكثر فى سايكس بيكو؟
من الصعب أن يطلب هذا من روائى يعيش فى صلب المتخيل. لا ينتج معرفة علمية، ولكن جمالية قابلة لكل التأويلات. لكن طرحك صحيح ووضعتنا أمام إشكالية هى كل شيء وهى العنصر المفقود فى رحلتنا المعاصرة. هو سؤالى الدائم أيضا لأنه بدون استباق لا حل أبدا فى الأفقين المتوسط والبعيد. هل يفكر العرب فى استباق الأحداث بواسطة خبرائهم الكثر الذين يملأون الشاشات بالتحاليل الكثيرة التى تبين للأسف ضعفها أثناء الحروب والصراعات الوجودية الكثيرة التى خاضها العرب مع إسرائيل وغيرها. كان المرحوم الجنرال سعد الدين الشاذلى بطل حرب أكتوبر 1973 يقول وهو يحلل تفاصيل حرب الخليج الأولى، وما يمكن أن يحصل: الغرب الآن يقصف وهذا طبيعى لانه يملك سيطرة جوية كلية، لكن الحرب الأساسية والحاسمة ستكون على الأرض أى الترسانة المدفعية الفاعلة والدبابات، وهنا سيفاجأ العدو بالقوة التدميرية للجيش العراقى الذى يعرف الجغرافية الميدانية ومعاريج الأرض. وانتظر الموطن العربى البسيط وحتى المثقف الحدث الجلل الذى سيغير مسارات المعرفة التى كان واضحا أنها كانت فى صالح الحلفاء الذين كانوا بصدد تدمير الطيران العراقى حتى قبل قيامه من الأرض كما حدث فى 1967. ليفاجأ فى النهاية بأن كل ما قيل عن المعركة الأرضية أو حرب الدبابات والمواجهات. هو عبارة عن كذبة فقيرة المخيال والذكاء. ليس لأن الجنرال سعد الدين الشاذلى كان يكذب. أبدا. لكن تحليله كان متأخرا عما كان يحدث أمام عينيه على الأقل بخمسين سنة عن الوضع العسكرى العالمى. إذ لم تعد للحروب البرية والدبابات أية قيمة تذكر، إذا لم تكن هناك تغطية جوية حقيقية.
وعندما استمع اليوم إلى التحاليل الخاصة بحرب غزة أشعر بأن شيئا ما لا يشتغل أو غائبا أو مغيبا فى ثقافتنا. هو انتفاء التحليل الاستباقى الذى يوضح الرؤية قبل حدوث أى شىء، حتى لا يتحول الحاكم العربى فى أحسن الأحوال إلى رجل إطفاء مثلما يحدث اليوم بين مصر وحماس مثلا، إذ تحاول هذه الأخيرة أن تعقل حماس حفاظا على دم الأبرياء من الفلسطينيين بأن تتوقف عن قصف الإسرائيليين. وبقية الحكام العرب ليسوا أفضل حالا فهم إما يسلكون طريقة النعامة التى تخفى رأسها فى الرمال ولا يهمها ما يحدث أو يقومون بما قام به جحا الذى عندما قيل له إن الحريق فى قريته قال المهم ليس فى حيي. وعندما قيل له النار امتدت إلى حيك يا جحا قال ليكن المهم لم تصل إلى بيتي. وعندما قيل له إن النار تلتهم بيتك عن آخره، قال المهم تخطى رأسي. هذه هى حال العرب فى كل اصطدام مع إسرائيل. فهم لا يملكون أية رؤية استباقية تجعلهم يحضرون أنفسهم بقوة للآتى. من بين الاستباقات هناك شىء فى غاية الأهمية، وهو إقناع الفلسطينيين للتخلص من الحروب الداخلية المرهقة والميتة. التقاتل على سلطة مزدوجة غائبة فى النهب اليومى لأرضهم فى القطاع والضفة. كان على العرب أن يضغطوا وهم يملكون أوراقا كثيرة للدفع بحكومة القطاع وحكومة الضفة الوهميتين إلى إيجاد صيغ تنازلية لحفظ ماء الوجه مع التاريخ. العرب فريق يؤيد رام الله وفريق آخر يؤيد غزة بحجة أن هذه الأخيرة تحمل لواء الإسلام والمقاومة وتندرج فى سياق ما أتت به الثورات العربية. كان يمكن أن يكون ذلك فعلا استباقيا يجعل الفلسطينيين يتحدثون بلغة واحدة. ويذهبون إلى الأمم المتحدة وهم مسلحون بلغة واحدة أيضا تعيد لفلسطين بعض حقها الرمزى.
فى هذه ايضا لم يستبق العرب أى شيء وظلوا يسيرون بعقلية رجال الإطفاء الذين مقرهم جامعة الدول العربية. وحتى الإطفاء فى هذه الحالة ليس أكثر من ستر عورة الإخفاق الكلى فى جعل الدول العربية تخلق نموذجا ولو واحدا للدفاع عن نفسها وعن وجودها. من يدافع عمن فى النهاية. كل الأسلحة التى يملكها العرب يمكن أن تتحول إلى عصف مأكول فى ثانية فى ظل المعادلة الدولية التى تفترض أن إسرائيل دولة صغيرة مهددة باستمرار من أكثر من 300 مليون عربى؟ ولذا تجب حمايتها ليس فقط بالدفاع الغربى عنها ولكن بالإضعاف الكلى لجيرانها. وهو ما تم بالفعل وفق الرؤية الاستباقية الغربية الإسرائيلية. فانتهت العراق كقوة ضاربة بغض النظر عن نظامها الديكتاتورى البائد. وسوريا تتفكك بسرعة غير مرتقبة وليبيا المهددة بمالها وسلاحنا انتهت كلعبة كارتونية.
ماذا عن روايتك الأخيرة "2084 حكاية العربى الأخير" حدثنا عنها؟
هى صرخة اليائس داخل دوامة عالم لم يعد معنيا بنا لأننا لسنا معنيين بأنفسنا. العام يحترق من حولنا ونحاول ألا نرى شيئا، وننتظر من السماء أن تغير بقدرة قادر كل شىء. الرواية كتبت لا لتعيد إنتاج اليأس كما يمكن أن يبدو ظاهريا، لكن فقط للتنبيه إلى أن عالما يرتسم الآن فى الأفق، سنكون فيه هذه المرة يهود هذا الزمن فى تيهنا وضياعنا ويأسنا. القصة بسيطة من ناحية البنية. اعتمدت على مسار روائى سردى أخذ الكثير من السردية البوليسية لأنى أراها اليوم من أقرب الوسائل السردية إلى القارئ، وهذه ظاهرة عالمية وليست محلية أبدا. يكفى أن ننظر من حولنا لندرك أن هذا النوع من السرد وراء الكثير الروايات العالمية التى فرضت نفسها: اسم الوردة، شيفرة دافنشى، ملينيوم وغيرها من النصوص العالمية، كلها اعتمدت هذه التقنية. تجسد العربى الأخير قصة عالم نووى عربى آدم غريب، يختطف فى مطار رواسى، شارل دوغول بباريس بمجرد نزوله من الطائرة، لا نعرف فى البداية من كان وراء العملية، وكالة المخابرات الأمريكية؟ التنظيم؟ فرقة شادو التى تخصصت فى قتل علماء النووى العرب؟ من هذه اللحظة المبهمة تنطلق اللحظة، ثم تتوسع لتشمل ما يحصل وسيحصل فى العالم العربى المهدد بمخاطر الانطفاء والزوال.
البعض يرى ربطا ما بين روايتك "2084 حكاية العربى الأخير" ورواية جورج أورويل"1984"؟
نعم. التقاطعات واردة فى النص. ونص 1984 يذكره بطل روايتى آدم. ناهيك عن اللعبة التناصية المقصودة أدبيا، هناك عودة شخصية بيغ يروزر الذى يصبح فى روايتى ليتل بروز لكن بمواصفات مختلفة، فهو أسوأ من سابقه وأبأس منه. للقول إن الديكتاتوريات تتوالد ولا مكان لها، فهى فى كل مكان وفى اللا مكان، حيث ترانا ولا نراها وتكبر فى ظل أنانياتنا وحماقاتنا وخساراتنا السرية. يمكنها أن تنشأ فى أكبر بلد، أو فى أصغر رقعة على وجه الأرض. جورج أورول تنبأ بديكتاتورية الإعلام وتصنيع القتلة من داخل المؤسسة المتحكمة فى النفوس، لكن ما هو عندنا أكبر. يتعلق بوجودنا على وجه الكرة الأرضية كبشر. هل سنقاوم هذه العواصف القاتلة أم سنستسلم لها. كيف نخرج من الدوامة فى ظل عولمة لا تؤمن إلا بالقوة وبمن يملكها. لا يمكننا اليوم أن نتطور بدون مظلة قوة حامية لنا، وإلا سنظل تحت رحمة من يحكم العالم. من يستطيع اليوم أن يعتدى على روسيا التى انهارت فى وقت من الأوقات؟ من يستطيع أن يملى شروطه على كوريا أو إسرائيل؟ الذى أعطاهم هذا اليقين وهذه القدرة على التنمية المستقلة هو امتلاكهم لسبل الحماية التى لا تسمح بأى أن يعتدى عليهم دون دفع الثمن غاليا. طبعا لست مع النووى مطلقا فهو إبادة مؤجلة للجنس البشرى، ولكنى أومن كذلك أن الزمن الذى نعيشه لا يسمح للعرب أن يعيشوا بسلام، دون ذلك، لأن العدو المتربص فى المقابل مالك لهذه القوة التدميرية، وهو من يحدد ما يجب أن يكون وما لا يجب أن يكون أيضا. مسئولية الدول العظمى تكمن فى هذه العين التى ترى ما تريد رؤيته وترفض ما لا يناسبها. بالنسبة لهذه الأخيرة، العربى هو فى أدنى اهتماماتها. العالم يحتاج اليوم إلى لغة أخرى، وإلى نظام آخر أكثر عدلا.
تسجل الرواية أن الإرهاب ليس قدرا، ولم ينشأ من الفراغ، بل هو تصنيع ومرض حقيقى، لكن الكلٌّ يمارسه على طريقته. وتطلق الرواية الأسئلة عمن خلق الإرهاب، ومن موّله، ومن درّبه، ومن وجّهه إلى قتل العلماء وتحطيم أجمل الآثار هل هذه قراءة للواقع الحالي؟
هذا صحيح. الرواية تنظر للإرهاب كعملية تصنيعية، لكن لها مبررات الوجود الداخلي. لم ينشأ الإرهاب من فراغ فقط، لكن أيضا من فشل ذريع لكل خطط التنمية ونشوء الديكتاتوريات التوريثية الفشلة فى كل شيء، والبؤس الثقافى، وعدم حسم العلاقة مع الدين بوصفه حالة تهم الفرد فى علاقته بربه، كلها عوامل مهدت لما نعيشه اليوم. لكن سنكون أغبياء إذا أهملنا العامل الخارجى. للقوى الغربية حساباتها المصلحية أولا وأخيرا. وجدت فى تنيمة الإرهاب فرصتها للحفاظ على المنطقة فى دائرة الحماية والتخويف. وبالتالى بقاء خيرات المنطقة بين أيدى إما مافيا عربية المالكة لأموالها ثقيلة من النهب والفساد، فى البنوك العالمية. وتسريبات HBSC فى سويسرا تبين أن المسألة مركبة. فالمال العربى الذى ينام فيها يعد بمئات المليارات. تحطيم المعالم الحضارية يدخل فى عملية الإفناء العربى النهائى والإجهاز عليه. القاعدة والتيارات الأصولية الكثيرة، وبعدها داعش ليسوا إلا أدوات فى أيدى الغرب الاستعمارى لتجفيف المنطقة من كل إمكانية للحياة والتطور. تحويل العرب إلى أمة مستهلكة لا تصنع حتى طعامها اليومين تراكم الأسئلة لتفتك بها نفسها وجيرانها ووحدتها. وأمة تائهة بلا هدف فى ظل أنظمة قبلية متقاتلة متصارعة بقوة فى النهاية. هذا المآل للأسف. التجربة التدميرية بدأت فى العراق وأعطت ثمارها المرجوة، وتعبر نحو سوريا، مهما كانت المبررات المرتبطة بالنظام وبمعضلاته، التى هى طبيعة الأنظمة فى الوطن العربية لأن كلمة نظام ضد شعبه لا تنطبق على العراق أو سوريا أو ليبيا وحدها بل، هى فى بنية أغلب الأنظمة العربية. لهذا أتحدث عن الإرهاب بوصفه إستراتيجية حقيقة، وليس سلسلة من الصدف الغريبة غير المقنعة، التى نشأت وكبرت من فراغ.
بعض الأدباء يفضلون اكتمال اللحظة التاريخية للحدث للكتابة عنها لتكون أمامهم رؤية مكتملة الأركان، لكن البعض يحاول الكتابة أولا بأول عن الحدث التاريخى غير المكتمل كحالات الحروب والأزمات، ما رأيك فى هذه الإشكالية؟ وأيهما تفضل؟
صحيح أن الكتابة عن اللحظة فى زمن تكونها، مورطة، لكن قدر الكتابة هو هذا أيضا. أتذكر الشاعر الفرنسى الكبير برازياك الذى رأى فى هتلر، باسم القومية الأوروبية، منقذا حقيقا لأوروبا المتقاتلة، بتوحيدها بالحديد والنار كما فعل بسمارك أو غاريبالدى من قبله وعلى مستوى مصغر. لم ير برازياك الجانب الإجرامى للنازية وعدوانيتها ضد إنسانية الإنسان، ودفع الثمن غاليا يتأييده، حيث أعدم على الرغم من حملة التعاطف التى أبداها الكثير من الكتاب الفرنسيين معه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لكن ديغول لم يستعمل حقه فى الصفح عنه وقال لمن ترجوه باستعمال العفو الرئاسى: يجب أن يدفع ثمن خياراته، فهو ليس عاديا، فقد جر وراء فكرته الآلاف.. يمكننا بخياراتنا وتحولنا إلى فاعلين فى الأحداث أن ننزلق ونأخذ صفا معينا لا إنسانيا لأسباب قومية أو إيديولوجية أو غيرهما. لا مشكلة بالنسبة للذى يكتب عن اللحظة فى اكتمالها لأنه لا يكتب وهو على الجمر، لأن الحقائق استقرت وانتهت. إمكانية الخطأ غير واردة. مثل الذين يكتبون اليوم على العشرية السوداء فى الجزائر ويكررون كليشيهات حقائق أصبحت عادية. كان يجب أن نسمعهم فى وقت النار ليقولوا لنا الحقيقة التى افترضوها لكنهم وقتها فضلوا الصمت. ليصمتوا ككتاب، لكن كمواطنين لا. كيف تصمت وشعبك يقتل أمام عينيك، ويجزر من طرف قتلة لا رحمة فى قلوبهم. المسالة ليست إيديولوجية، لكنها مرتبطة بالوجدان الإنساني. إلى أى مدى يستطيع الإنسان أن يكون إنسان فى عز التقتيل والجريمة. لهذا أقول إن الروايات التى جاءت لاحقة فى الأغلب الأعم كانت ضعيفة. لكن هناك روايات توغلت فى المادة التاريخية بعمق وكشفت عن تاريخ ظل خفيا بدون مسبقات إيديولوجية، لكنها تعاملت مع الإنسان فى شرطية حرب تحريرية قاسية، واقع بين نارين، نار العدو الواضحة، ونار الأخ فى الكتيبة أو الفيلق، والصديق الذى يمكن أن يمارس ضدك كل أنواع التعذيب القاسية مثلما كان ذلك مع الطاهر وطار فى روايته اللاز ، والحبيب السايح فى رواية كولونيل الزبربر. حيث قالا تاريخا ظل مخفيا لأسباب سياسية، فكشفا مساحة جديدة للكتابة. سعيد أن هذا التاريخ يخرج اليوم إلى النور كما عند الفرنسيين أيضا الذين خرجوا عن التاريخ الرسمى الذى ظل يعتبر الثورة الجزائرية مجرد أحداث قبل أن يعترف بها كحرب قبل سنوات قليلة. نرى ذلك فى رواية أين تركت ضميرى ليجروم فرارى، ورواية فن الحرب على الطريقة الفرنسية لأليكسيس جيني. تاريخ آخر تكتبه الرواية اليوم فى الجزائر أو فى فرنسا، شديد القسوة لكنه جزء من الحقيقة الجوهرية التى قليلا ما تحدث عنها التاريخ الرسمي. إذن المسألة لا تتعلق بزمن الكتابة بقدر ما تتعلق بالقوة على استيعاب جوهر الأشياء هنا أو هناك.
كيف ترى الأحداث العربية الحالية بعد تلك الثورات وما يحدث بالعالم العربى من أحداث ومتغيرات؟
الإحساس الشعبى العربى فى اندفاعه كان صادقا جدا، الذى مس العالم العربى كله، بدءا من تونس، مرورا بمصر وسوريا واليمن وبقية الدول العربية الأخرى التى ترفض أن ترى نفسها فى هذه الدائرة وفى صلب هذه النار التى ستأكل كل شيء. العدوى كانت كبيرة. لكن من اللحظة التى تمت فيها التدخلات الأجنبية، وبشكل معلن، أطلسية أو جهوية، خسرت هذه الثورات رهاناتها التاريخية. من الصعب على كإنسان منحه الله بعض التفكير أن أؤمن بأن المسائل كانت تسير كلها بمحض الصدف؟ هذا طبعا، لا علاقة له بنظرية المؤامرة، لكن بنظرية المصالح. هل نتوقع أن تصمت أمريكا وأوروبا وإسرائيل وهى ترى مصالحها تتهددها العواصف، وتسقط بمجيء أنظمة عقلانية حية وديناميكية ومتطورة ومنخرطة فى مشكلات عصرها؟ لا طبعا. أحتاج إلى قدر من الغباء لأومن بذلك. ومن يطالع ويقرأ التقارير الدولية، سيرى بأن المسألة ليست بتلك البساطة. نسبة من المنتفضين الشباب كانت صادقة وتقاوم من أجل مثل ديمقراطى أعلى، ولم تدخل فى حساباتها أن الثورات التغييرية العميقة فى المنطقة العربية تحديدا ليست فعلا رومانتيكيا لأن المصالح ضخمة وشديدة الخطورة. اتضح لاحقا أن الكثير من الشباب، ولو أقلية، كانوا يتحركون وفق أجندات مسبقة، ممولين من طرف منظمات أمريكية وغير أمريكية، مهمتها تصدير الديمقراطية بالشكل الذى تراه مثل منظمات l'USAID, la NED, Freedom House ou l'Open Society du milliardaire George Soros. فى هذا يعجبنى رأى شومسكى لأنه خارج دوائر الهيمنة. لهذا قليلا ما نراه فى القنوات العالمية مع أنه واحد من أكبر مفكرى عصرنا وأكثرهم حرية، وفى فرنسا أيضا لا نرى كثيرا مثقفا كبيرا بحجم بونيفاس فى القنوات إلا نادرا، وداخل دائرة ضيقة. كتابه المثقفون المزيفون صرخة ضد عالم يصنع من يبرر أعماله المشينة. انظر نتائج هذه الثورات التى تم اغتصابها. فى خمس سنوات، قرابة المليونين ضحية بين جريح ومقتول. وأكثر من 14 مليون مهجر يموتون كل يوم بالعشرات فى عرض البحار. كلف هذا الحريق العربى أكثر من 833 مليار دولار، كانت كافية لإعادة بناء العالم العربى كليا، منها 461 مليارا من الخسارات فى البنيات التحتية الصناعية والأثرية التى تم محوها أو تعطيلها. وما لا يرى هو أن منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا الشمالية MENA (Middle East and North Africa - Moyen-Orient et Afrique du Nord) خسرت أكثر من 103 ملايين سائحا. كارثة اقتصادية. إذن نحتاج حقيقة إلى إعادة قراءة هذا الربيع وفق رؤيتنا ووفق مصالحنا أيضا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.