عزمى عبد الوهاب على يدي حسين مروة وآخرين تحول الحزب الشيوعي اللبناني إلى جسر بين المثقف والجمهور، وبآدائه المختلف استطاع أن يكون موجودا في الشارع. على استحياء كانت الاتهامات في اغتيال حسين مروة تشير إلى "جهة طائفية ظلامية" أشارت الأصابع المتهمة إلى "حركة أمل" التي يقودها نبيه بري أشارت إلى "حزب الله" دون أن يعلق أحد الجرس في رقبة القط. كان مهدي عامل مفكرا، رأى في القلم سلاحا للدفاع عن الحرية ومواجهة القوى الظلامية التي بدت كخفافيش الليل في أتون الحرب الأهلية اللبنانية قبل شهر من عملية الاغتيال الغادرة، كان مهدي عامل يقرأ على زوجته الفرنسية بيانا أصدرته إحدى الجماعات الدينية ويحمل تهديدا مباشرا بالقتل قال الغزالي في أحد البرامج التي كان تليفزيون الدولة يبثها: "إن من يدعو إلى العلمانية مرتد يستوجب أن يطبق عليه حد الردة" ويبدو أن هذه الفتوى كانت ردا على كتاب فرج فودة "حوار حول العلمانية" أكمل الشيخ الغزالي الدائرة بشهادته أمام المحكمة التي كانت تنظر في قضية اغتيال فرج فودة حين قال: "إن فودة مرتد وجب قتله" وأفتى بأن "يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها، وإن كان هذا افتئاتا على حق السلطة ولكن ليس عليه عقوبة".
"لم يغادر بشير العاني (1960- 2016) مدينته دير الزور، أراد أن يحرس قبر رفيقة دربه بعد صراعها الطويل مع المرض العضال، بقي على مقربة من الفرات غير عابئ بحصار التكفيريين لمدينته، إلى أن وقع بين أيديهم، كانت التهمة جاهزة بالنسبة إلى شاعر شيوعي وهي "الرّدة". هكذا اقتادوه صباح اليوم (الخميس قبل الماضي) مع ابنه البكر إياس إلى ساحة الإعدام، وكان الراحل قد أصدر ثلاث مجموعات شعرية هي "رماد السيرة" (1993) و"وردة الفضيحة" (1994) و"حوذي الجهات"(1995) وقد تميّز شعره بنبرة غنائية تحمل وجع الفررات وعتاب الصحراء وبلاغة الضّد". هكذا وصل النبأ الفاجع من سوريا، على يدي الصديق الشاعر والروائي خليل صويلح، ليتركنا في مواجهة الحقيقة المؤلمة: نحن أمة لا تستحق الحياة، ما دامت تؤمن بأن الله يريد منها أن تتقرب إليه بالقتل والدمار والدماء، علينا أن نهنئ أخانا أحمد ناجي لأنه نجا، فقط لمجرد أنه لا يعيش في سوريا، مجرد مصادفة، لا علاقة له بها، أنقذت دمه من أن يهدر، وتشربه الصحراء العطشى دائما للدماء. هذا هو تاريخنا الأسود يا كلاب الجحيم، أنتم لم تفعلوا شيئا جديدا، حين أعدمتم الشاعر السوري بشير العاني، نحن فعلناها من قبل، فتأملوا تلك الصور، إذا كانت لديكم فسحة من القتل والدم. المفكر حسين مروة... اغتيال رمز كبير بعد 25 عاما من رحيل الشهيد "حسين مروة" تحدثت إحدى حفيداته بهذه المناسبة، قالت:"ظنوا أنهم بقتله يمسحون المعرفة، يخفون زيفهم، يكسرون المرآة التي تظهر عريهم، يرتاحون من خطر سحب الستار عن كواليسهم، ويتخلصون من خطر كشف لعبتهم القاضية بغسل أدمغة الناس، أن يعرف الناس فهذا أمر مقلق، وأن يكون الناس مثقفين، فهو أمر خطير، أما أن يكون الناس أحرارا فهذا يستدعي اغتيالا". مَن هؤلاء الذين تتحدث عنهم الحفيدة بضمير الغيب، دون أن تشير بأصابع الاتهام إلى شخص أو جهة ما؟ مَن قتل حسين مروة؟ هذا السؤال لا يزال يبحث عن إجابة يقينية إلى الآن، ولا يقين، حتى الحزب الذي كان هو من أكبر قياداته اكتفى بإصدار بيان، يتهم فيه ثلاثة أشخاص، من بينهم أحد مسئولي "حركة أمل" في المنطقة التي كان يسكن بها "حسين مروة". بيننا وبين الدم الذي سال بغزارة في بيروت، في منزل ذلك الرجل العلامة سنوات تزيد على ربع قرن، ولم يبحث أحد بجدية عن حق الدم، ففي 17 فبراير 1987، دخل مسلحون بكاتم الصوت حجرة رجل عمره 80 عاما، وبينما ينتظر طبيبا يعوده على سرير المرض، جاءه من يعجل بكلمة النهاية، ليصحو الجميع في اليوم التالي، على الخبر الفاجع: اغتيال المفكر الكبير حسين مروة في منزله! انهالت المرثيات تعدد مناقب الراحل الكبير، وأقيمت سرادقات الورق في الصحف والمجلات، وكتب المناضل التونسي "شكري بلعيد" قصيدة يقول فيها: "سقطت أقنعة/ عن وجوه الذئاب/ لم تمت حين جاء نعيك/ كنا نعد النشيد/ ونكتب آياتنا الرافضة" وانتظر "شكري بلعيد" رصاصات الغدر في العام 2013 ليسقط صريعا على أيدي الذئاب ذاتها. على استحياء كانت الاتهامات في اغتيال حسين مروة تشير إلى "جهة طائفية ظلامية" أشارت الأصابع المتهمة إلى "حركة أمل" التي يقودها نبيه بري، أشارت إلى "حزب الله" دون أن يعلق أحد الجرس في رقبة القط، البعض ذهب بعيدا، وربط بين ولاءات "الحركة" و"الحزب" إلى مخابرات جهات خارجية مثل إيرانوسوريا، وفي النهاية قيدت الحادثة ضد مجهول، ليتم اغتيال الرجل مرات ومرات، بترك القاتل حرا طليقا. في تلك الآونة كان الصراع بين "حركة أمل" و"حزب الله" مستعرا، احتاج إلى وقت لوقف حمامات الدم بينهما، وضاع حق معرفة إجابة السؤال: من قتل حسين مروة؟ ضاع حق الرجل الذي كان يعلم تلاميذه أن "المعرفة لا نهاية لها، وأن السن لا تقف حاجزا أمام طالبيها، فالمعرفة ليست ملكا للمرء وحكرا عليه" كان كل ما يمكن تقديمه في هذا الشأن تساؤلات، مثل تلك التي قدمها الشاعر عباس بيضون، الذي أجرى حوارا مطولا مع حسين مروة عنونه ب "ولدت شيخا وأموت طفلا": "هل يعلم القاتل أنه سفك في حسين مروة عالما نجفيا بالمقدار الذي سفك فيه دما يساري؟ حرمنا القاتل من مجلد ثالث من كتاب "مروة" العمدة "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" الذي أصدر المجلد الأول منه في العام 1978 بعد عكوفه على مادته لعشر سنوات، إثر منحة علمية في موسكو، أتاحها له الحزب الشيوعي اللبناني الذي انتمى إليه، وتدرج في مواقعه، إلى أن أصبح عضوا في لجنته المركزية، وتلاه المجلد الثاني، حيث افتتح الكتاب بتناول تاريخ مكة قبل الإسلام، ثم ظهور الإسلام، معقبا ذلك بدراسة الحركات الاجتماعية، وكانت أدواته المنهجية توظف "المادية التاريخية" في قراءة مختلفة لتاريخ الفلسفة الإسلامية. يقول في مقدمة كتابه "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" إن "التراث شيء ومعرفة التراث شيء آخر، ولا يصح الخلط بينهما، فمشكلة التراث ليست إحيائية أو في العودة إليه، وفي الحالتين استحالة، بل هي إنتاج المعرفة العلمية بهذا التراث" وكان رفيقه واللاحق به في عملية اغتيال خسيسة "مهدي عامل" يثني على هذا الطرح الجديد، مؤكدا أنه يختلف جذريا عن كل طرح سابق، يرى في التراث نموذجا يجب تقليده، أو الاهتداء به أو استلهامه، أو يفرض على الحاضر، باسم الأصالة والأمانة للتراث، ضرورة أن يكون امتدادا للتراث، يعيد إليه استمرارية تاريخية، كانت قد انقطعت في فترة زمنية معينة، أو يرى التراث عناصر ينتقي منها ما يخدم الحاضر، ويسقط منها ما لا يخدمه، فيشوه التراث والحاضر معا. استهل حسين مروة كتابه بمقدمة منهجية، ودراسة لمرحلة الجاهلية وصدر الإسلام، وعالج موضوع علم الكلام عند المعتزلة والأشاعرة، والمنطق الصوري عند أرسطو طاليس، ثم تناول التصوف لدى السهروردي وابن عربي، وتعرض لرسائل إخوان الصفا، وقدم لتطور العلوم عند العرب، ووصف المرحلة التي ظهر فيها ابن سينا والكندي والفارابي، بأنها مرحلة النضج في الفلسفة الإسلامية. كان الكتاب - كما رآه الكاتب العراقي رشيد خيون - "عرضا للعقل العربي السليم بما فيه من حراك ثقافي شامل، منه الديني ومنه الإنساني، وليس مثلما يعمم الآخرون، على أن تاريخ الإسلام مجرد تاريخ معارك ودماء، ليس فيه ما يلفت النظر" وهكذا لم يكن المفكر الكبير ليمكن القتلة من رأسه بجملة شاردة هنا أو هناك، تمنح قاتله حرية القتل لسبب ديني، كانت جنايته أنه تحول إلى رمز كبير. قبل أن يظهر "حسين مروة" في الساحة الحزبية والثقافية، كانت الأحزاب العربية – كما يشير البعض – عاجزة عن استيعاب المثقفين في صفوفها، وعلى يديه هو وآخرون تحول الحزب الشيوعي اللبناني، إلى جسر بين المثقف والجمهور، وبآدائه المختلف استطاع أن يكون موجودا في الشارع، فهو كما جاء في كلام الروائي السوري "حنا مينه" عنه:"لم يكن معلما فحسب، بل كان أخا كبيرا، يسوق الكلام، كأنما يطرح أسئلة، ينتظر جوابها، في حين يتولى هو نفسه الإجابة، عبر حوار هادئ". مع إصدار كتاب "النزعات المادية" غُيِّبت جوانب أخرى في شخصية حسين مروة، ومنها الناقد الأدبي، فله في ذلك المجال كتب منها:"قضايا أدبية – دراسات نقدية في ضوء المنهج النقدي – تراثنا كيف نعرفه – دراسات في الفكر والأدب" إضافة إلى كتبه "مع القافلة" ويحتوي على ما كان يكتبه في زاوية أسبوعية بهذا العنوان، لسبع سنوات، في جريدة "الحياة"، وهناك أيضا "دراسات في الإسلام – عناوين جديدة لوجوه قديمة – في التراث والشريعة". كان يؤمن بأنه ليس هناك فن يتخطى تاريخيته، ويؤمن بالعلاقة بين الشكل والمضمون، ويرفض الغموض في الشعر، وكما يقول محمد دكروب فقد "ناضل من أجل نقد موضوعي منهجي فكرا، وممارسة نظرية وتطبيقية، فكان علم الجمال الماركسي رائده، والواقعية الجديدة منهجه، ومن يسترشد بهما لن يضل". ترجح التواريخ ميلاد حسين مروة بين عامي 1908 و1910 في إحدى قرى جبل عامل بلبنان، لأب شيخ، أراد في ابنه أن يكون عالم دين، فأرسله إلى النجف بالعراق للدراسة الدينية عام 1924، وقضى هناك ردحا من العمر، معمما يدرس الفقه الإسلامي، في تلك الفترة كان محيرا بين ارتداء العمامة وخلعها، لكنه بعد تخرجه في جامعة النجف عام 1938 حسم أمره وخلع العمامة، وأخذ يكتب المقالات باسم مستعار، وكان بعض أساتذته يرون أن ذلك سيحرفه عن الهدف الذي ذهب من أجله على العراق. في بداية الأربعينيات عمل في أحد المراكز الثقافية في بغداد، يدير الندوات والمحاضرات، إلى أن اتهمه مدير المركز بإفساد الشباب، فغادر المركز، ومع عودة نوري السعيد إلى الحكم تم إبعاده عن العراق، وسحبت منه الجنسية العراقية، ليعود إلى بيروت، ويمارس دوره الثقافي والنضالي، الذي أسكتته رصاصة غادرة من كاتم صوت في العام 1987.
مهدي عامل.. وقيدت الحادثة ضد مجهول! بين "مهدي عامل" و"حسين مروة" عروة وثقى، حتى في الموت، فبعد أشهر قليلة من اغتيال الثاني، وفي 18 مايو 1987، كان مسلح في سيارة، بأحد شوارع بيروت، أمام الجامعة، ينتظر هدفا محددا، لتصويب رصاصاته نحو رأسه، إلى أن ظهر "مهدي عامل" وانطلق القاتل بعد أن أصاب هدفه، فازداد عمق الجرح اللبناني، وحققت فكرة القتل على الهوية نجاحا جديدا. لا بد أن كثيرين استعادوا ما قاله "مهدي عامل" في رحيل "حسين مروة" وفيه ما يعكس التداخل بين حياتين:"لعلك تذكر، أو لا تذكر، يومًا من أوساط الخمسينيات، حين طلبت منك، بحياء وتردد، أن تقرأ لي أول نص كتبتُ، كان شيئًا يشبه القصة أو الاعتراف، نقلتُ فيه إلى اللغة حدثًا ولّد في نفسي مزيجا ساذجًا من مشاعر الغضب والتمرد". كانت البدايات على يدي "حسين مروة" فقد أصدر "مهدي عامل" فيما بعد (عام 1974) ديوانه "تقاسيم على الزمان" باسم مستعار لشاعر جزائري اسمه "هلال بن زيتون" وسيعاود الكرة ثانية باسمه الحقيقي "حسن حمدان" تحت عنوان "فضاء النون" وكأنه يخرج من اسم مستعار إلى آخر، حتى تماهت الاستعارات مع اسمه "حسن عبد الله حمدان" المولود به عام 1936 في قضاء النبطية، وظهر "مهدي عامل" إلى الوجود حين نشر دراسته "الاستعمار والتخلف" في مجلة "الطريق" بهذا التوقيع المستعار، وصار الاسم ملازما له طوال عمره. قال "مهدي عامل" عشية اغتيال "مروة":"كنت أبحث عن عمل، فنصحني أحد الأقرباء بأن أطلب من ثري كبير من الطائفة الشيعية، أن يضع توقيعه الكامل على بطاقة باسمه، يدعم فيها طلبي وظيفة في أحد المصارف، التي تحتضن أمواله، ذهبت إليه، خطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الوراء، ووقفت عند بابه أنتظر ساعة أو ساعتين، قبل أن يسمح لي بالدخول، وانصرفت مزوّدًا ببطاقة اسمه وتوقيعه، رفض المصرف طلبي، كنت عديم الموهبة في جمع الأرقام، وضعيفًا في اللغة الأجنبية، ثأرت للنفس بالكتابة، أو هكذا ظننتُ، قلتَ لي: ثابرْ، ثابرتُ على التمرد والكتابة، تلك كانت نصيحتك". فقدتْ المصارف موظفا، واكتسب الفكر العربي عقلا لامعا، نال شهادة الليسانس والدكتوراه من جامعة ليون بفرنسا، وعاد ليدرس الفلسفة في دار المعلمين بقسنطينة بالجزائر، ثم في صيدا بلبنان، إلى أن انتقل للتدريس بمعهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، ومارس العمل النضالي ضد القوى الرجعية والطائفية. وكما يقول رمضان الصباغ:"كان مهدي عامل مفكرا، رأى في القلم سلاحا للدفاع عن الحرية، ومواجهة القوى الظلامية، التي بدت كخفافيش الليل في أتون الحرب الأهلية اللبنانية، فانتقد الطائفية، ورأى أنها ليست كيانا بل هي علاقة سياسية محددة بحركة معينة من الصراع الطبقي، ومحكومة بشروط تاريخية خاصة". أصدر "مهدي عامل كتابه الأول "مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني" عام 1972 واستشهد قبل أن يكمل الجزء الثالث منه، وفي العام التالي صدر له "أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية" ومع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية صدر كتابه "النظرية في الممارسة السياسية بحث في أسباب الحرب الأهلية في لبنان" وتوالت كتبه التي أصدرها طوال مسيرته، ومنها "في علمية الفكر الخلدوني – في الدولة الطائفية – مدخل إلى نقض الفكر الطائفي – هل القلب للشرق والعقل للغرب" وكان آخرها "نقد الفكر اليومي". عودة إلى ما قاله "مهدي عامل" في استشهاد "حسين مروة" نلتقط التالي:"كنا نكبر بسرعة في المظاهرات، وتتكاثر علينا الأسئلة، بصبرٍ كنتَ تجيب، وبثقة تدفعنا إلى القراءة، كأنك تنتظر، وكأن دربك دربنا الآتي، إنه حدس المناضل، إذ يرى بالقلب" وفي موضع آخر من كلمته يقول: "كنا نرى إليك وإلى غيرك ممن نقرأ لهم ونستمع إليهم، يتحدثون عن الأدب والفكر والنقد والسياسة، ونتساءل: ما الذي يجعل مثل هذا النوع من المثقفين يرضى بمثل هذا النوع من الحياة القاسية حتى التقشف؟ ربما كان في السؤال كثير من السذاجة، لكنه كان مطروحًا بجدية كبرى، وما كان الجواب جاهزا". يقول أيضا:"كل الأماكن كانت صالحة للنقاش: الطرقات والمقاهي والسينما، وأمام بائع الجرائد في شارع المعرض، بالقرب من التياترو الكبير، وفي شارع سوريا تحت القناطر، حيث يمتد صف طويل من المكتبات، وفي بيتك المتواضع، يا أبا نزار، في شارع البربور، حيث كان ينعقد دومًا "مجلس الثقافة الوطنية والفكر التقدمي" كنا نشرب الشاي، ونتعلم منك الفرح في النضال، نحن جيل بكامله حملنا إلى الثقافة شيئًا من مجلسك". كالعادة لم يقرأ القاتل حرفا مما كتبه "مهدي عامل" لكنه ضغط على الزناد، وأسال دما، فقبل شهر من عملية الاغتيال الغادرة كان المفكر الكبير يقرأ على زوجته الفرنسية بيانا، أصدرته إحدى الجماعات الدينية، ويحمل تهديدا مباشرا بالقتل، ورفض هو الانصياع للنصيحة بمغادرة لبنان، ليلقى مصيره الدامي. بعد عشرين عاما من تلك الواقعة المأساوية يكتب "محمد عيتاني" في "السفير":"لم تُحل قضية اغتياله إلى المجلس العدلي، وشملها قانون العفو، الذي أنعمت به الجمهورية الثانية على أمراء الحرب ومجرميها، ولم تجر جلسة محاكمة واحدة لمتهم، ولم يعرف مصير التحقيق في القضية" لكن في نوفمبر 2006 ستقول "ماري الدبس" نائب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني لصحيفة مغربية:"قبل عشرين عاما، شن حزب الله حربا بلا هوادة ضد الشيوعيين، وصل حد اغتيال العديد من رفاقنا، وبوجه خاص مثقفين وأطرا جامعية، قتلوا على سبيل المثال مهدي عامل، الذي كان اشتغل على مسائل الاستعمار والدين، وهو مثقف بارز وفيلسوف مرموق". لماذا تغتال القوى الظلامية "مهدي عامل"؟ الإجابة لدى رمضان الصباغ حين يقول على صفحة "الحوار المتمدن": فعلت ذلك لأنها لا تملك القدرة على الحوار مع التفكير العلمي، ولا تقوى على المواجهة الحقيقية مع فكر مهدي عامل، وأنها بفهمها المتخلف للتراث والدين، الذي تحتمي به لتمرير أفكارها المتخلفة والرجعية، ترى في حرية التعبير والتفكير العلمي نهايتها، ولذا فإنها تتستر وراء فهم سطحي للنصوص، وتقوم بعمليات التصفية الجسدية والاغتيالات، أملا في الإبقاء على سيطرتها على عقول الجهلاء". مات "مهدي عامل" لتختار القوى الوطنية اللبنانية اليوم التالي لاغتياله "يوم الانتصار لحرية الكلمة والبحث العلمي" وليصرخ زياد رحباني في برنامجه "العقل زينة" بإذاعة صوت الشعب متهما الجميع، ويغني مارسيل خليفة: "ضحك خفيف عند طلته، لوز يزهر لابتسامته، عشرون طفلا يركضون إليه، بحران يعتكران في عينيه، وتحت شرفته هوى في الشارع الوطني، يا وطني في بيروت، يا بيروت مهدي لا مهدي مات". وتبقى كلماته "لسنا نحن المحاصرين، إسرائيل هي المحاصرة" أثناء معركة استمرت ست ساعات بين شباب لبنانيين ودبابات إسرائيلية، فيما عرف بمعركة المتحف، تبقى كلماته: "لستَ مهزوما ما دمتَ تقاوم" وهي جملة افتتاحية كتبها في مجلة "الطريق" عقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت.
"فرج فودة" وحيدا في مواجهة الإرهاب وهو بين يدي الطبيب، ممزق الأحشاء، مهترئ الكبد، قال:"يعلم الله أنني ما فعلت شيئا إلا من أجل وطني" كانت تلك الجملة هي آخر ما قاله فرج فودة، قبيل ست ساعات من محاولات الأطباء إنقاذ جسده وروحه من رصاصات غادرة، هدفها الرئيسى إخراسه إلى الأبد، لأنه كان الأجرأ والأكثر شجاعة عن غيره من المثقفين المصريين، فقد جاهر بأفكاره صراحة، بينما ناور الآخرون وراء أفكار غائمة وهلامية، محتمين بغطاء سلطوي، وفرته لهم الدولة، في حين حرمته منه، فواجه عدوه مكشوف الصدر، بينما كان أولئك المثقفون يعيدون طباعة الكتب القديمة، في سلسلة أطلقوا عليها اسم "المواجهة" لم ينشروا فيها كتابا واحدا لفرج فودة، رغم أنه كان في الصف الأمامي من تلك المواجهة. كان هؤلاء المثقفون يعيدون إصدار "تحرير المرأة" لقاسم أمين و"الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، في حين كان "فرج فودة" يصدر كتابه "الحقيقة الغائبة" ردا على كتاب "الفريضة الغائبة" للمهندس محمد عبد السلام فرج أحد قتلة الرئيس السادات، الذي يؤكد فيه أن "الجهاد في سبيل الله هو الفريضة الغائبة عن الأمة الإسلامية" في كتابه تحدث فرج فودة عن "تطويع النص الديني لخدمة أغراض الجماعات الإرهابية". كان يبدو وحيدا في معركة الوطن، ومختلفا أيضا عن غيره طوال الوقت، حين أدرك أن كلمته أقوى من رصاصاتهم، فاحتمى بها، ولم يهادن أو يفكر في صيغة لغوية ملتفة، يخرج بها على الناس، ففي كتابه "النذير" الصادر في العام 1989 اتهم الدولة صراحة برعايتها لتلك التيارات الظلامية، حين قال:"إن التيار الإسلامي نجح بالفعل في تكوين دولة موازية، لها اقتصادها المتمثل في بيوت توظيف الأموال، وجيشها المتمثل في الجماعات الإسلامية المسلحة، وكيانها المتمثل في مكتب إرشاد الإخوان، رغم حظر الجماعة قانونيا، كذلك اخترق التيار الإسلامي المؤسسة الدينية الرسمية والحزب الوطني الحاكم". كانت الدولة ممثلة في الحزب الوطني الحاكم تصدر جريدة "اللواء الإسلامي" وتستكتب فيها غلاة الإسلاميين بدعوى اعتدالهم، وعلى صفحاتها تنتشر فتاوى مقاطعة البنوك الوطنية تحت دعوى ربويتها، بجانب التحريض على العنف ضد قوى المعارضة، وفي الصحف القومية كان فهمي هويدي يهاجم "فودة" وترفض هذه الصحف نشر ردوده عليه هو وغيره، وفي التليفزيون الرسمي كان الشيخ محمد الغزالي، دائم الظهور في البرامج الدينية، مطلقا الفتاوي التحريضية، ومنها ما يأتي بشكل غير مباشر، ستتجلى آثاره واضحة للعيان، فيما حدث من واقعة اغتيال فرج فودة، أمام مكتبه في أحد شوارع مدينة نصر، حين كمن له صبيان، على دراجة بخارية، بسلاح آلي، أمطرا جسده بالرصاص، وتمكن أحد أمناء الشرطة من القبض عليهما. قال الغزالي في أحد البرامج التي كان تليفزيون الدولة يبثها:"إن من يدعو إلى العلمانية مرتد، يستوجب أن يطبق عليه حد الردة" ويبدو أن هذه الفتوى كانت ردا على كتاب فرج فودة "حوار حول العلمانية" الصادر آنذاك، والدولة نفسها لم توفر الحماية لفرج فودة، رغم علمها باستهدافه عن طريق فتاوى الشيخ عمر عبد الرحمن مفتى الجماعة الإسلامية، المسجون حاليا في أحد السجون الأمريكية، هي التي كرمت الشيخ الغزالي حين منحته في العام 1991 جائزة الدولة التقديرية، أي قبل عام من اغتيال فرج فودة في 8 يونيو 1992. أكمل الشيخ الغزالي الدائرة بشهادته أمام المحكمة التي كانت تنظر في قضية اغتيال فرج فودة، حين قال:"إن فودة مرتد وجب قتله" وأفتى بأن "يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها، وإن كان هذا افتئاتا على حق السلطة، لكن ليس عليه عقوبة" وهذا يعني أنه لا يجوز محاكمة القاتل، بائع السمك الذي لم يقرأ حرفا لفرج فودة، كان القاتل ينفذ فتوى أطلقتها مرجعيات التكفير، التي انتشرت في أعقاب مناظرة شهيرة بين فودة وأقطاب التيار الديني، ومن المفارقات التي تبعث على الأسى أن أحد القتلة، أفرج عنه بعفو رئاسي أصدره الرئيس المخلوع محمد مرسي، ضمن آلاف من الإرهابيين شملهم هذا العفو. المناظرة التي أشرنا إليها جرت وقائعها في معرض القاهرة الدولي للكتاب، واستمرت لثلاث ساعات، وسط حشد غفير، كان أغلبه من أعضاء هذه الجماعات المتطرفة، وكانت المنصة تضم في جانب الشيخ الغزالي ومأمون الهضيبي، مرشد جماعة الإخوان والدكتور محمد عمارة، وفي الجانب الآخر فرج فودة والدكتور محمد أحمد خلف الله، وكان عنوان المناظرة التي جرى تحريفها قبل تسويقها لقواعد الجماعات الدينية، هو "مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية"، في هذه المناظرة سئل الهضيبي عن الجرائم التي ارتكبها أعضاء التنظيم الخاص لجماعة الإخوان فأجاب:"إننا كنا نتقرب إلى الله بأعمال التنظيم الخاص". وفي المناظرة كان فرج فودة حريصا على أن يوضح التالي:"لا يختلف أحد على الإسلام الدين، لكن المناظرة اليوم حول الدولة الدينية، وبين الإسلام الدين، والإسلام الدولة رؤية واجتهاد، فالإسلام الدين في أعلى عليين، أما الإسلام الدولة فهو كيان سياسي واقتصادي واجتماعي، يلزمه برنامج تفصيلي عن أسلوب الحكم، فمن ينادون بالدولة الدينية لا يقدمون برنامجا سياسيا للحكم، ولم نر من أنصار الدولة الدينية ، ونحن على البر، قبل أن يقيموا دولتهم، إلا إسالة الدماء وتمزيق الأشلاء، وتهديد القانون وتمزيق الوطن بالفتن، وإذا كانت هذه هي البدايات فبئس الخواتيم". ما قاله فرج فودة في هذه المناظرة كان امتدادا لما قاله في كتبه التي تصل إلى 13 كتابا منها "قبل السقوط – النذير – نكون أو لا نكون – الملعوب – الطائفية إلى أين؟ - حتى لا يكون كلاما في الهواء – الإرهاب" فقد كان يرى دائما أن "الإخوان دعاة عنف وتخريب هدفهم الوصول إلى السلطة تحت ستار الدين" وأن "الإرهاب السياسي الديني بدأ مع نشأة جماعة الإخوان، حيث كانت البيعة تتم على المصحف والمسدس، فنشأة الإرهاب مرتبطة بعقيدة التنظيم السري، وليس بالمناخ السياسي السائد وقتها". كان فرج فودة عضوا بحزب الوفد، قدم استقالته من الحزب، بعد تحالفه مع جماعة الإخوان، ما أتاح لهم خوض الانتخابات البرلمانية على قوائم الحزب، ومن ثم دخول أعضاء منهم المجلس النيابي، فبادر فودة إلى تأسيس حزب "المستقبل" الذي رفضته لجنة شئون الأحزاب، لكنه لم ييأس، وسعى لتشكيل "الجمعية المصرية للتنوير" التي شهد مقرها في مدينة نصر واقعة اغتياله. كانت استقالته من حزب "الوفد" متسقة مع رؤيته المستقبلية لأهداف هذه الجماعة، فقد كان يرى أن نجاح الإخوان في الانتخابات النيابية نوع من "الحصول على الشرعية بالتحايل" وأن ذلك هو الخطر الحقيقي على الدولة. ويصف محاولاتهم السيطرة على الدولة من خلال خوض الانتخابات أنها سعي لإحداث العنف عن طريق التغيير، بعدما حاولوا التغيير عن طريق العنف، وبمعنى آخر فإن محاولاتهم الأولى، كانت تستهدف ضرب الشرعية بالإرهاب، بينما استهدفت المحاولات الأخيرة تحقيق الإرهاب بالشرعية، وفي كل الأحوال فإن النتيجة واحدة. أليس هذا ما حدث فعلا، بعد استيلاء الجماعة وحلفائها من الإرهابيين على السلطة في مصر، بعد ثورة يناير 2011، وعملية الاستيلاء هذه ألم تحدث تحت غطاء من الشرعية؟ كان فرج فودة يمتلك بصيرة تساعده على استشراف آفاق مستقبلية فعلا.