أحمد السيوفى عندما سألت أحد طلاب الجامعة، أمام إحدى اللجان الانتخابية فى العاصمة الإيرانيةطهران، عن أسباب مشاركته فى هذه الانتخابات فقال، إننا نشعر أن بلدنا يدخل مرحلة جديدة بعد أن خرجنا من حصار ظالم، بسبب حقنا فى إنتاج التقنية النووية السلمية.
فى الواقع هذه الرؤية سمعتها من كثيرين، يرون أن الشعب يجب أن يدعم الحكومة فيما أنجزته من اتفاق، وهم يدركون أن الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا من الصعب أن تفتح الطريق للتيسير على الشعب الإيرانى، بل على العكس هناك إدراك لدى الشعب الإيرانى وقيادته بأن أمريكا ما زالت تؤثر عليهم، وفيما يبدو أن لديهم من المعلومات أو الوثائق التى تعزز هذا الاتجاه.
إذن هذه الانتخابات كانت كاشفة لكثير من الوقائع، وكل الأطراف السياسية والكتل كلها كانت تخوض هذه المعركة ولديها ما تقدمه من خطاب للجمهور، فالإصلاحيون والمعتدلون كان خطابهم موجها للجماهير، خصوصا الشباب لابد أن يتوجهوا إلى الانتخابات حتى يمكن المحافظة على الإنجاز الذى تحقق فى الاتفاق النووى، وظلوا يحذرون الشباب من أن عدم حضورهم للمشاركة الانتخابية قد يمكن الأطراف المحافظة من تخريب الاتفاق النووى، وهذا بالقطع كان له دور كبير فى حشد الشباب. على الجانب الآخر، كان هناك توجس لدى المحافظين والمبدئيين، من أن هناك من يريد أن يستفيد من إحداث اختراق داخل المنظومة الثقافية والدينية، كل هذه الأسباب رفعت من وتيرة الصراع بين الطرفين، لكن النتيجة كانت حصول تيار المحافظين على نسبة 54,5 %، وبرغم هذا الرقم يبدو أنه أفضل من الرقم الآخر الذى حصلت عليه بقية الكتل الأخرى، الإصلاحيون والمعتدلون والمستقلون وهو 44,5 % ، فإن هذه النسبة تمثل خسارة حقيقية لتيار المحافظين للأسباب الآتية: أولا: كان تيار المحافظين أو الأصوليين أو المبدئيين كما يسمون أنفسهم، هو المسيطر على مقاليد الأمور ، فكان البرلمان برلمانا محافظا كله، وكان أحمدى نجاد من المحافظين وكان مجلس الخبراء من المحافظي،ن ثم بدأ التحول من بداية نجاح الرئيس حسن روحانى 2013، عندما طرح روحانى خطابا معتدلا، لأن روحانى لم يكن فى يوم من الأيام من الإصلاحيين، وإنما كان محافظا لكن معتدلا، ثم توالت الأمور بنجاح روحانى فى إتمام الاتفاق النووى مع 5+1 بحكم خبرته السابقة، عندما كان أمينا عاما للمجلس الأعلى للأمن القومى، فاستعان بخبرته السابقة، كما استعان بخبرة وزير خارجيته محمد جواد ظريف الذى تعلم فى أمريكا، ويفهم جيدا العقلية الغربية، هذا النجاح مهد الأجواء للشارع الإيرانى، الذى وصلته رسائل مفادها أن المرحلة تحتاج إلى الاعتدال، وأن الشعب يجب أن يحافظ على المكتسبات التى حققها المفاوض الإيرانى، خصوصا أن هناك تصريحات كثيرة لرموز المحافظين برفض الاتفاق، وصحيح أن المحافظين كانت لهم أسباب جدية لرفض الاتفاق، منها أن الاتفاق أهدر ثروة إيران، بالتالى بما يمثل أكثر من اثنى عشر طنا من اليورانيوم الذى كلف إيران مليارات الدولارات، وأيضا ما حدث من تغيير لمفاعل آراك، الذى يرون أنه بعد التعديل الذى حدث له، لم يعد مفاعلا على حد وصفهم ثم الأهم من كل ذلك أن إيران نفذت كل التزاماتها، بينما أمريكا لم تلتزم بما عليها فحتى الآن لم يتم فتح سويفت البنوك حتى تتصل البنوك الإيرانية بالبنوك الدولية تحت ذرائع واهية، كما أن صفقة الطائرات الإيرباص 114 طائرة، لعبت أمريكا دورا كبيرا لوقفها لكل هذه الأسباب رفض عدد كبير من قيادات المحافظين لهذا الاتفاق وتمت محاسبة وزير الخارجية فى البرلمان، وتوجيه اتهام صريح له بالتفريط فى حقوق إيران، المهم برغم وجاهة الأسباب لدى المحافظين فإن خطابهم كان خطابا عنيفا، سبب ازعاجا للشارع الإيرانى، لكن السؤال هل هذه الأسباب هى التى أدت إلى تراجع التأييد للمحافظين معلومات تشير إلى أن هناك أسباباً أخرى أدت إلى تراجع المحافظين أهمها ما يلى: أولا: الاختلاف الواضح بين مكونات هذا التيار، ولعل أبرز هذه الخلافات ما رأيناه من تصارع بين قيادات التيار فى انتخابات رئاسة الجمهورية، مما أدى إلى رسوب كل رموز التيار ثانيا غياب عدد من الشخصيات الكبرى التى كانت تتمحور حولها قيادات المحافظين، مثل غياب السيد عسكر أولادى، الذى غيبه الموت منذ عامين وكان مؤسسا لحزب المؤتلفة الإسلامى، وهذا الرجل كان مهيمنا على البازار وقادرا على تجميع الأصوليين بغيابه، فقد المحافظون كاريزما كبيرة مثل جعفر أولادى أيضا غياب آية الله مهدوى كنى، الذى كان رئيسا لمجلس خبراء القيادة، وكان من الشخصيات القوية الجامعة، فأصبح المحافظون دون هذه الشخصيات الكبيرة التى تتمتع بكاريزما. ثالثا: لم يستفد المحافظون من غياب صقور الإصلاحيين مثل كرباتسى ومهاجرانى وبهزاد نبوى وغيرهم. رابعا: ظهور كل الأطراف سواء أكان من المحافظين أم من الإصلاحيين بمظهر الاعتدال، حتى إن التركيبة الجديدة للشخصيات هى ميل بعض شخصيات المحافظين إلى الدخول مع الإصلاحيين والعكس، مما أدى إلى حالة من الارتباك فى المشهد. باختصار من الممكن أن يكون الإصلاحى من المحافظين، أو أن يكون المحافظ من الإصلاحيين، ويمكن أن يكون الشخص خليطا، أى يجمع بين كونه محافظا ويميل للاعتدال، لهذا فإن إيران على مدار تاريخها كان بها تياران كبيران هما المحافظون والإصلاحيون، لكن هذه الانتخابات أفرزت تيارا جديدا هو تيار المعتدلين الذى أنشأه رئيس الجمهورية الحالى الدكتور حسن روحانى الذى كان ينتمى تاريخيا إلى المحافظين، لكنه كان يختلف معهم ويميل إلى الاعتدال ولهذا أسس هذا التيار الجديد، لكن ما هذه التيارات الثلاثة وما تحالفاتها؟
أولا: تيار المحافظين تأسس هذا التيار فى عهد الإمام الخوميني، وكان هو المهيمن على المشهد السياسى والدينى، وكان يسمى روحانيت مبارز، أى رابطة علماء الدين المناضلين، وهذا التيار كانت له صلة قوية بالبازار، أى السوق الاقتصادى الإيرانى، لأن نسبة الخمس التى يدفعها المواطن الإيرانى للمرجع الدينى كانت فى النهاية تجمع أموالا ضخمة تجعل من المراجع الدينية قوة اقتصادية واجتماعية كبيرة وهذا الأمر جعل المؤسسة أقوى من الدولة وأسهم بدرجة كبيرة فى إسقاط الشاه. هذا التيار ظل متماسكا لسنوات حتى ظهرت فيه اختلافات بين تيارين أحدهما يتبنى حرية السوق والآخر يتبنى العدالة الاجتماعية ، وظلت الخلافات تتسع وتتبلور وعرض أمر هذا الخلاف على الإمام الخوميني فأجاز الخلاف واعتبره أمرا طبيعيا، ووافق على أن ينشطر التيار إلى تيارين: الأول تحت نفس الاسم روحانيات مبارز، والثانى باسم روحانيون مبارز. جمعية علماء الدين المناضلين التى تحولت إلى التيار الاصلاحى وكانت هناك مقولة للإمام الخومينى. وهو روحانيات مبارز وروحانيون مبارز هما جناحا المشروع الإسلامى. ونظرًا لخطورة هذه الانتخابات فإن التيارات الثلاثة المهيمنة على المشهد أقامت تحالفات مع مكوناتها التى تشظت على مدار السنوات الماضية فاستطاع التيار المحافظ أن يقيم تحالفا من عشرة أحزاب وجمعيات حتى تسطيع أن تواجه الإصلاحيين والتيارات الجديدة الناشئة، ومن أهم المكونات ما بلى رابطة علماء الدين المناضلين بقيادة محمد على موحدى وجبهة قوى خط الإمام بقيادة رضا باهنر وحزب المؤتلفة الإسلامى الذى أسسه الراحل عسكر أولادى، وجبهة الثبات التى أسسها حداد عاد رئيس البرلمان السابق، وجبهة الصمود بقيادة محسن رضائى وائتلاف إعمار إيران بقيادة حسن بيادى وحزب المجددين وحزب المُضحين وحزب التعبئة الطلابية وجمعية السائرين على خط الولاية
الإصلاحيون. هم أيضا وحدوا صفوفهم، لأنهم يدركون أن هذه المعركة حاسمة لهم بعد أن فقدوا كل شيىء فى السنوات الماضية، فشكلوا ائتلافاً من تسع عشرة حزبا أهمها، جمعية علماء الدين المناضلين ومجمع باحثى الحوزة وحزب التضامن الذى أسسه محمد رضا خاتمى شقيق الرئيس الأسبق محمد خاتمى، وحزب الثقة الوطنية اعتماد الذى أسسه الشيخ كروبى رئيس البرلمان الأسبق ومرشح الرئاسة الأسبق الذى شارك فى أزمة انتخابات 2009 ووضع تحت الإقامة الجبرية هو ومير حسين موسوى وحزب السيادة الشعبية وحزب اتحاد الشعب وحزب العمل الإسلامى, واتحاد الطلبة الإسلامى وبعض الأحزاب الأخرى المهمشة وبعض الأحزاب المحظورة قانونا، مثل حزب مجاهدى الثورة الذى أسسه بغداد نبوى.
المعتدلون ولأن المعتدلين ظهروا بظهور الرئيس روحانى، فإن هناك ثمة بصمة أيضا للرئيس الأسبق هاشمى رافسنجانى على هذا المكون وعلى الائتلاف الذى تشكل منه، خصوصا أن تحالفا تم بين الرئيسين فى انتخابات مجلس الخبراء وحصد الأصوات والمراكز الأولى فاخذ رافسنجانى المركز الأول وأخذ روحانى المركز الثالث. أما الائتلاف من ثلاثة أحزاب هى: حزب كوادر البناء كاركزران، وحزب تشكل فى عهد الرئيس رافسنجانى بإيعاز منه فى عام 1998 بقيادة اثنين من مساعديه فى ذلك الوقت، وهما كرباتسى الذى أصبح محافظ طهران وتعرض للسجن فيما بعد بسبب قضايا فساد، برغم أن أنصاره نفوا ذلك وأيضاً عطاء الله مهاجرانى الذى كان وزيرا للإرشاد فى عهد خاتمى والآن اختلف مع النظام ويعيش فى لندن ويعارض من هناك. حزب الاعتدال والتنمية حزب روحانى وأخيرا حزب النداء الإيرانى، تلك هى خارطة القوى التى تلعب على الساحة الإيرانية. ونستطيع أن نقول إن عنف هذه الانتخابات وشدة المنافسة جعلت الجميع يستخدم كل أوراقه ويتجه لأى تحالفات. لقد صليت الجمعة الماضية فى أكبر مسجد لأهل السنة فى طهران وهو واحد من 14 مسجد للسنة، فى ظهرانى مسجد صادقية حتى أعرف لمن يصوت أهل السنة، فعلمت أن عددا كبيرا من المرشحين ذهب إلى المسجد ليصلى الجمعة معهم، والتقيت أنا أحد المرشحين وهو مصطفى كواكبيان أحد الذين نجحوا فعلا وأدهشنى أيضا أنى رأيت عددا من العلماء والمشايخ الذين ينتمون إلى الشيعة يصلون الجمعة فى مسجد السنة، كانت جديدة بالنسبة لى وكانت مؤثرة أيضا. التقيت بالشيخ محمد على تسخيرى أحد الناجحين فى معركة مجلس الخبراء الذى ينتمى للمحافظين، الذى أكد لى أن المعركة كانت بالغة الصعوبة، ولا شك أنها تعبر عن مرحلة جديدة لكنها ستكون بإذن الله لصالح إيران ولن نمكن القوى المتربصة بِنَا من اختراق ساحتنا. وكلمات سماحة الشيخ تسخيرى تمثل الشعور العام لكثير من الإيرانيين، الذين يخشون من الانفتاح غير المحسوب، وهم لا يرفضون الاعتدال ولا يرفضون الانفتاح على العالم، لكن يرفضون الاختراق وهم يلاحظون أن أكثر من ثلاثمائة مؤسسة غربية جاءت تستثمر فى إيران كلها استثمارات استهلاكية، فى حين لم يقترب أى منها من الصناعات الكبرى، ولهذا ما زال هناك توجس، لكن المؤكد أن إيران تمر بمرحلة جدية تعزز فيها دور إيران الدولة أكثر فأكثر.