لا يمكن أن نفهم مشاعر الكراهية التي دبت بين المصريين وغيرهم من العرب علي وجه العموم عقب ثورة 25 يناير، إلا بوضعها في إطار ظروف هذه الثورة وما جاءت به من أفكار وما ترتب عليها من تداعيات سياسية، وضمن مسيرة طويلة من تراجع الزخم القومي العربي علي مدي عدة عقود مضت. لقد كان من المفترض أن تنتصر ثورات الربيع العربي للتيار العروبي أو القومي، باعتبار ما يجمع بينهما من مبادئ مشتركة مثل التحرر والكرامة والعزة والنهضة، وبما تمثله هذه الثورات من أهمية لدور الشعوب في تقرير مصيرها السياسي، وليس الأنظمة الفوقية المتسلطة أو غير الديمقراطية. فمن حيث التلاقي في المبادئ وفي تحول مركز التغيير من الأنظمة إلي الشعوب، كان من المنطقي، استنادا إلي العبر والدروس من المسار التاريخي للتيار القومي العربي، أن تكون هذه الثورات المدخل لاستعادة الزخم والقوة والانتعاش للفكر القومي. ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، بل قادت هذه الثورات إلي توسيع فجوة الثقة حول جدوي الشعور العروبي، وإمكانية أن يصبح حقاً واحداً من الأسس التي يبني عليها السلوك الفردي والجماعي للعرب من المحيط إلي الخليج وبالتبعية السياسات التي تحكم العلاقات بين الأنظمة العربية. لا يعني ذلك أن الحماسة للعروبة قد تلاشت أو أن فكرة القومية العربية قد انتهت فعلا كما قال كثيرون من الباحثين الغربيين والعرب أيضا في كتابات كثيرة لهم علي مدي العقود الأربعة الماضية، فمازالت الجامعة العربية قائمة ومطلوبة من الشعوب والحكومات معا، وتؤدي دورا قد لا يرضي عنه الكثيرون، ولكنه لايزال مفيدا، وقابلا للتطوير إلي الأفضل، ومازال الخطاب العروبي يتردد في أوساط السياسيين والمفكرين ورجال الإعلام بما يوحي للرأي العام الخارجي أن العروبة تيار حي وفعال ومؤثر في الأحداث العربية. ولكن ما نحن بصدد مناقشته حقا هو أن القومية العربية كمذهب سياسي والعروبة كتيار جامع بين الشعوب العربية أصبحا حبرا علي ورق، وجزءا من التاريخ غالبا ما يفتخر به الملايين من باب الاعتزاز بالماضي لا رغبة جادة في إعادة العمل بهما. ومع ذلك لايزال للفكر القومي وجود حزبى وسياسى ولاتزال هناك شريحة من النخبة الثقافية، وتلك السياسية العربية تتبني هذا الفكر وتدعو إليه، ولكن يبقي تأثيرها ضئيلا قياسا بالتيارات الفكرية والسياسية الأخري. ولأن التفكك العربي قد تواصل منذ نحو 40 عاما فإنه أصبح وضعا بائسا عاما استسلم لتداعياته العرب جميعا، حتي ساد الانطباع بأن إحياء ما كان يسمى بالتضامن العربي الذي هو أقل صور التوحد القومي أمرا أشبه بالمعجزة. واستندت العلاقات العربية - العربية الراهنة طوال السنوات الماضية إلي الحد الأدني من المصالح فقط، ومتجردة من المشاعر والمبادئ بما جعل العروبة شكلا ظاهريا لتجميل المواقف أمام الشعوب العربية وتجاه العالم الخارجي.. ودون الدخول في تفاصيل الفكر القومي وتاريخه، فإن المبادئ الغالبة أو المشتركة التي ترددت في كتابات رواد هذا الفكر ورجاله السياسيين لم تخرج عن مبادئ التحرر سواء للخلاص من الاستبداد الداخلي أو الاستعمار الأجنبي، والكرامة والعزة لإعلاء مكانة الإنسان العربي. الذي تعرض لحملات للحط من مكانته وقدرته علي الثورة والتغيير وتبني قيم النهضة ولخلاصه من صور الاستبعاد والاستغلال، والنهضة باعتبارها المشروع السياسي الذي يحمل التقدم والعدالة للعرب جميعا من المحيط إلي الخليج من خلال توحيد قدرات المنطقة العربية الاقتصادية وتوجيه ثرواتها لأبنائها.. وقد غلب علي التيار القومي التوجه الليبرالي والتقدمي باعتباره مخرجا نحو التحرر والنهضة، ولكن من جهة أخري فإنه اصطدم بالتوجه الإسلامي السياسي، خصوصاً من التيارات المتشددة، حيث نظروا إليه علي أنه يستند إلي قيمة عنصرية (الجنس العربي)، تعلو فوق الدين (الإسلام) الذي هو أسمي، والذي حرر الناس من العنصرية، ولذلك حاربوا التيار القومي إلي أن أوجدوا قواسم مشتركة بينهم (الإسلاميون والقوميون) منذ بدايات الثمانينيات من القرن الماضي. كان من المنتظر أن تنطلق ثورات الربيع العربي بالتيار القومي إلي آفاق أرحب ويفتح أمامه أبوابا مغلقة كثيرة، وتنهي حقبة من الضياع والتراجع والتشتت ما بين التلاقي مع الإسلاميين والخلاف معهم استنادا إلي الطابع التحرري للثورات الذي يلملم العناصر المشتركة بين التيار القومي وغيره من التيارات الأخري، وكذلك استناداً إلي الأهداف المشتركة أيضا فيما يتعلق بكيفية بناء الأنظمة السياسية الجديدة من جهة وتمتين أسس العلاقات العربية مع العالم الخارجي من جهة أخري.. إلا أن المشهد منذ اندلاع ثورات الربيع العربي طرح صورة معاكسة لهذا التوقع. فقلما ورد ذكر الاهتمام بثورة ما فى خطاب ثورة أخري وكأن كلا منهم وقع في زمان ومكان مختلفين متباعدين مع أنهما أبناء منطقة واحدة وزمان واحد. لقد توافرت فرص التلاقي إلي حد غير مسبوق بفعل شبكة التواصل الاجتماعي وثورة الإعلام الفضائي، بما كان يقتضي تلاحما قويا بين هذه الثورات وتبادلا في الخبرات وتوحيدا للرؤي فيما يتعلق بالتغيير المنشود داخل المنطقة العربية وفي علاقاتها الخارجية، وبما كان يؤدي إلي توسيع نطاق موجة الثورات العربية فلا تتوقف عند 4 أو خمس دول عربية من 22 دولة، بل يمتد مجالها ليشمل المنطقة كلها من المحيط إلي الخليج، فليست حال دول الاستقرار أفضل من دول عدم الاستقرار من حيث الأسباب التي أدت إلي اندلاع ثورات الربيع العربي. إذا استثنينا حالات قليلة ارتفعت فيها رايات أكثر من بلد عربي في ميادين الثورات كدليل علي التضامن المتبادل بين الثوار، فإن المشهد العام أوضح بجلاء أن العلاقة مفقودة بين هذه الثورات. لم يكن مطلوبا أن تتكرر التجارب في صورة واحدة، فالثقافة السياسية مختلفة من بلد إلي آخر، ولكن الطابع التحرري في الثورات العربية كان يفترض إعلاء للقضايا والمشاعر العربية لدي كل ثورة، بما يدشن لعهد جديد من العروبة يتجاوز انتكاسة العقود الماضية، إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث. كان التعاطف مع القضية الفلسطينية محدودا للغاية ولم يظهر إلا عند فريق من الثوار في الثورة المصرية يمثل الإخوان المسلمين، ولم يتجه الثوار إلي الاصطدام بالدور الأمريكي في المنطقة ولا بالدور الغربى عمموما برغم كل مظاهر الكراهية التي سادت الأجواء تجاه هذا وذاك لعدة سنوات نتيجة مواقف كل منهما العدائية تجاه العرب والمسلمين، ولم تبد الثورات أي اهتمام بالتعاون العربي الاقتصادي ولا بتعزيز الهوية العربية. بل اللافت للنظر أن الثورة الليبية، مثلا عتبت علي الثورة المصرية التأخر في تأييدها ودعمها. لم يأت التأخر في الحقيقة من جانب المجلس العسكري الحاكم فقط، وإنما من ثوار التحرير أنفسهم الذين لم يقيموا علاقات قوية تبني تعاونا مستقبليا بينهم وبين غيرهم من ثوار تونس وليبيا واليمن وسوريا، وإذا كانت ثورات الربيع العربي لم تنجح في إقامة علاقات مشتركة فيما بينها تسهم في توجيه العروبة نحو آفاق جديدة من العمل المشترك لنهضة الأمة العربية ككل، فإنها من جهة أخري أثارت حنق وكراهية شعوب بلدان الاستقرار وتحديدا بلدان الخليج العربية، فليس سرا أن الثورة المصرية وغيرها قد استقبلت باستياء داخل هذه الشعوب رافضين امتدادها إلي أراضيهم، وكان مهما لدي من تصدروا مشهد ثورات الربيع العربي أن يقيموا جسورا مع بقية الشعوب العربية ليس بهدف تصدير الثورات، وإنما لكسب الدعم والتأييد لثوراتهم في بلدانهم وتحسين صورتهم لديهم. ثوار اليمن وسوريا وليبيا نجحوا في هذه المهمة بينما فشل فيها ثوار مصر وتونس. وإجمالا، لقد اختفت المشاعر وتضاربت المصالح واختلفت المبادئ، فلم تنتعش العروبة مع ثورات الربيع العربي، بل ازدادت ضعفا وهواناً!!