(هل كان الصراع حول باريس أقرب إلى تونس أم القاهرة؟) يعاد طرح هذه الأسئلة أخيرا بمناسبة الاحتفال بذكرى رحيل الزعيم الحبيب بورقيبة، وغالبا سرعان ما يُتّهم من يطرحها بأنه من أنصار حزب النهضة الإسلامى، الذين كثيرا ما ينتقدون النهج البورقيبى العلمانى، لكنّ من محاسن الثورة أنها حطّمت الأصنام السياسيّة، وأنزلت الزعماء من السّماء إلى الأرض، ولامجال للتعامل مع الحكّام الذين لا يغادرون الكراسى إلا إلى القبر، من فرط التقديس الذى كان سائدا فى حقب سابقة . لذلك سيكون مفيدا بل وضرورى مهما بلغت محاسن بورقيبة فتح صفحات تاريخية خطيرة أحيطت بالكثير من التعتيم أوالجدل. ولمن لا يعرف صالح بن يوسف فهو أحد أبرز زعماء الحركة الوطنية فى تونس، وأحد أهمّ قادة الحزب الحر الدستورى الجديد والذى تولّى أمانته العامة. بدأت مرحلة المواجهة بينه وبين الزعيم بورقيبة حين عارض بن يوسف مشروع الاستقلال الداخلى سنة 1955، ما أدى إلى الصدام بين الرجلين أرخى بظلاله على الحزب وأحدث فيه شرخا كبيرا، فخيّر المنفى وسافر إلى مصر مع عائلته إلى أن تمّ اغتياله فى العام 1961 أثناء زيارته إلى ألمانيا. وقد استمعت إلى والدى رشيد السلاّمى رحمه الله- وهو من القيادات الشعبية فى الحركة الوطنية بتونس العاصمة أيام حرب التحرير و صفاقس بعد الاستقلال- يقول عن هذه الحادثة إنها كانت مدبّرة وأن الرئيس بورقيبة هو الذى أعطى الأوامر باغتيال بن يوسف، وقد اعترف فى إحدى خطبه بأنه كلف أحد معاونيه وهو “البشير زرق العيون" بتنفيذ عملية الاغتيال التى وقعت عام 1962، فى مدينة فرانكفورت. وكان يرى أن الصراع الدامى الذى بدأ عام 1955بين بن يوسف وبورقيبة كان حول الهوية وانتماء تونس القومى،"و لم يكن خلافا حول المناصب ومن يقود، بل كان صراعا بين خيارين سياسيين: الخيار القومى العربي، خيار الاستقلال التام والعودة إلى الحاضنة العربية، وبين خيار التفاوض والولاء لفرنسا، خيار باريس أقرب لنا من القاهرة!". كانت تلك أول مرة أعرف هذه التفاصيل، لكنى استمعت إليها للمرة الثانية عندما قابلت زوجة صالح بن يوسف السيدة صوفية فى “منفاها" فى القاهرة، الذى لم تتركه إلا بعد عام 1987عندما جاء بن على للسلطة وأكدت لى أن بورقيبة هو من قتل زوجها ! لم أعش فترة تصفية الحسابات بين بورقيبة ورفاقه الذين قادوا معه معركة التحرير والاستقلال عن فرنسا، ولكنى حضرت جزءا من الجدل الذى ظل دائرا بين المثقفين والنخبة السياسية حول تلك المعارك . فيتّهم “ اليوسفيون"- نسبة لأنصار بن يوسف- بورقيبة بأنه قد محا من ذاكرة الشعب التونسى كل إنجازات وتضحيات المناضلين ضد الاستعمار واغتال بعضهم ونجا من استطاع منهم بنفسه خارج البلاد لكى يخلو له الحكم الديكتاتورى على جماجم ضحاياه. ووالدى بدوره يشاطر اليوسفيين نفس الموقف، رغم كونه دستورياً وليس يوسفياً، وكانت شهادته على دموية بورقيبة مع خصومه تدينه،حيث يشير إلى أن بورقيبة ارتكب مجازر فضيعة ضد خصومه، وأنه أنشأ لجانا داخل الحزب الدستورى وميليشيات حوله فى الحكم، ممن كانوا يبيدون المعارضين وينكلون بهم من أجل أن يبقى الزعيم فى الحكم، حتى حين خفّت مداركه العقلية فى الثمانينيات، وانتشر التعذيب والقمع السياسى والاغتيالات، وعرف حكمه الطويل مراحل مرعبة من التنكيل بمعارضى بورقيبة فى سجون اتخذت شهرة عالمية من بنزرت بأقصى الشمال إلى تطاوين بآخر نقطة فى الجنوب التونسى، مثل سجون برج الرومى والناطور ورجيم معتوق وغيرها. وفى شهادة الطاهر بلخوجة وزير الداخلية والإعلام السابق، خلال فترة حكم بورقيبة، يعترف بأن الرئيس السابق الحبيب بورقيبة قد ذكر فى إحدى خطبه أنه أعطى أوامر لاغتيال بن يوسف، لكنّ بلخوجة فى شهادته- الموثقة فى مؤسسة التميمى للبحث العلمى والمعلومات وهى مركز للتوثيق التاريخى يرأسه أستاذ التاريخ المعروف عبد الجليل التميمى -يعتبر أن تبنّى بورقيبة للعملية التصفوية يعد هفوة سياسية فادحة، لأن عملية الاغتيال تلك تعتبر وصمة عار ونقطة مظلمة فى تاريخ تونس فتحت الباب أمام أحداث مؤلمة وحزينة كان بالإمكان تفاديها لو نجح آخر لقاء سياسى بين بورقيبة وبن يوسف عام 1961، بمدينة زيورخ السويسرية. وكشف بلخوجة أن اللّقاء الذى جرى فى زيورخ اشترط فيه بن يوسف حضور شخصيات سياسية سويسرية كشهود عيان إلا أن سويسرا أرسلت شخصيات مخابراتية لحضور هذا اللّقاء الذى شهد مواجهة محتدمة بين القيادتين حول دور كل منهما فى مكافحة الاستعمار الفرنسى، وهكذا فشلت الفرصة الأخيرة لتفادى التصعيد فيما بعد. وكشف بلخوجة النقاب عن وجود شخصية أخرى لعبت دورا مهما فى عملية اغتيال بن يوسف، رمز إليها بالحروف (ص . ب. ح) الذى ما زال على قيد الحياة ويعيش خارج تونس وأنه هو الذى قام بالتنسيق مع البشير زرق العيون الذى كلف عبد الله الوردانى لاغتيال بن يوسف. وهكذا فإن الخلاف الحاد بين بورقيبة والجناح الآخر للحزب الذى كان يتزعمه بن يوسف أزاح صالح بن يوسف نفسه لا من الساحة السياسية فحسب بل من الحياة !. السيدة صوفية التى تعتبر مصر بلدها الثانى، روت فى بهو السفارة التونسية فى القاهرة عندما دخلتها لأول مرة عام 87 بنبرة صوت متحشرجة أن زوجها “تمت تصفيته برصاصة مقصودة ليخلو الجوّ للحبيب بورقيبة، فصالح بن يوسف كان المنافس الوحيد القويّ الذى كان يخشاه بورقيبة، وشكّل خطرا كبيرا على مستقبله السياسي، إذ كان يقلقه كثيرا، ويمثل عقبة بالنسبة إليه، لابدّ من إزالتها بأى شكل، وكان له ذلك، فخلا له الجوّ بعد ذلك « على حد تعبير زوجة بن يوسف». ولا أعتقد أن عائلة بن يوسف ستطوى هذا الملف حتى فى ظل وفاة بورقيبة، فهناك المتهم الرئيسى الذى نفذ الاغتيال لايزال على قيد الحياة، وحتى إذا كان الجزء الجنائى قد انقضى بطول المدة فإن التاريخ يحتاج أن ينصف صالح بن يوسف «المفترى عليه من نظام بورقيبة» وسوف تكشف الأيام المقبلة عن إعادة فتح هذه القضية !