وليد عثمان من شبوا مثلى محشورين بين منعطفين من عمر الدنيا هم جيل معذب بحنينه. جيلنا، خصوصا من عاش منه فى الريف والمناطق الشعبية فى المدن، أدرك قدراً من براءة الدنيا وبساطتها، وفى غفلة من معظمنا، قفز العالم قفزات واسعة فاستفقنا على دنيا جديدة مباغتة تزداد تعقداً وتزيدنا حنيناً إلى ما كان. البراءة والبساطة لم تكونا حكراً على البشر، فكل ما وعينا عليه واكبناه من أجهزة كان بسيطاً وصعب المنال، لكنه كان يكفي، إن توافر فى البيت، لأن تبقى سنوات مديناً لأهلك بفضل عظيم. حتى فرحة التملك كانت فعلاً صافياً لا تشوبه أنانية، فتليفزيون يدخل البيت لأول مرة، أو بعد تلوينه، يوحد كل الأسرة ويسرى بالسعادة بينها وكأن كل فرد فيها ظفر به وحده. أما إذا ابتسم الحظ، ولم يكن يفعل ذلك إلا لقليلين، وظفر شخص بشيء خاص، فليس للنشوة مدى، حتى إن كان هذا الشيء مجرد مسدس لعبة جاء به عائد من الحج، أو «أتاري»، وهو آخر عهدنا بالتكنولوجيا فى ماضينا البعيد القريب. كان تليفون فى المنطقة يكفي، وإن تحول بيت أصحابه إلى سنترال يقتحمه أى فرد فى أى وقت ليتلقى اتصالاً من غريب فى العراق أو قريب فى المدينة. كانت ثلاجة فى بيت مقتدر تغنى عن مصنع ثلج إذا أقبل الصيف وقرر الناس التمرد على «القلل». حتى قبل وجود الثلاجة الواحدة النادرة كان من طقوس رمضان إذا حل صيفا شراء قطع من الثلج تمنح ماء الفطور بعض الانتعاش، وقد يصفو المزاج وتجد هذه القطع طريقا إلى كوب ليمون لايزال مذاقه ألذ مما يروج له من مشروبات. كان إقامة فرح بأبسط صوره يستدعى من أصحابه استئذان أهل أحدث الموتى بخجل صادق، والحداثة هنا لا تعنى أياماً أو أسابيع، فقد يكون مضى على الرحيل ستة أشهر وأحياناً عام. وكان من حسن أدب أهل الميت أن يمانعوا أى تأجيل، بل ويسمون على حزنهم ويعاونون فى التجهيز للفرح وبرغم ذلك، كانت «الزغرودة» المنفلتة أو المجاملة تستدعى صفع من تجرأت وأطلقتها. كان جهاز تسجيل، أو «مسجل» يقوم مقام ستديو فى جوفه تتناسخ الشرائط، بدلاً من شرائها، فواحد يكفي، وتناجى كل أسرة غريبها، وأغلب «المتغربين» كانوا فى العراق. قد يظن من ولدوا بعد 1990 أن هذه الصور المهيجة للحنين تعود إلى زمن عبدالناصر مثلاً، لكن المفجع أنها استمرت قبل أن تبدأ فى التلاشى مع العام الذى ولدوا فيه. عامهم هذا مسَه الجنون قبل أن يرحل، وفيه استعاد العقل العربى من التاريخ البعيد كلمة "غزو" وحلت بنا "أم الكوارث" وتوالى "أبناؤها" فى الإغارة على ما تبقى من براءة وبساطة، وآثار ما جرى باقية طويلاً. لما بدأ "التحرير" أجبرونا على إجازة مدرسية عدنا منها قوماً آخرين، تغيرنا كما تغير العالم، وبأسرع من قدرتنا على المواكبة. تلاحقت التطورات أحدها يزيح الآخر بسرعة، تعددت الأجهزة وتصاعدت الطموحات، حتى تشابكت المراحل، فلم نعد نعرف لها مبتدأ أو منتهى. استغرقتنا التفاصيل الكبيرة، وفقدنا دفء البساطة وحلاوة البراءة. لم يعد للمفردات الصغيرة ولا التفاصيل الحميمة معنى، صرنا محلقين أكثر، لأن الجذور تهتز. سافرنا، بعضنا أدرك الاغتراب وهو لم يغادر منطقته، لأن الروح فارقته، وبعضنا ذهب بعيداً بالروح والجسد سلواه ما بقى فى ذاكرته من حنين لما قبل التحول. هذا التحول استوحش وتحول إلى طوفان نغالبه ونشفق على أبنائنا منه، فهم فى القلب منه، بل ومستسلمون، فكيف نجاتهم، إذا كنا نحن الذين نهلوا قدراً من البراءة والبساطة، نقبض على جمر الحنين ولا نعرف إلى أين تمضى بنا الدنيا؟ ليس الحنين بحد ذاته ما يكوى القلوب والمهج، إنما أيضا مساحته التى تتسع وتتعاظم يوما بعد يوم إلى حد يلهى عن الاستمتاع بالآنى من قليل ممتع، ومما يؤلم أكثر أن هذا الحنين يداهم أجيالا لا تزال أمامها فسحة من العمر، إذا قدر لها العيش، للانشغال بالحاضر، بل والمستقبل، فكيف لها تقع مبكرا فى أسر ماضيها القريب فى زمنه البعيد فى عمقه وتأثيره. كيف لأرواح لم تعش طويلا أن تدخل مبكرا فيما يشبه الموت، فالحنين إذا طغى لن يترك متسعا للانتباه إلى ما يستحق الاهتمام ويصرف النفس عن تفاصيل بسيطة يمكن أن تجدد الصلة بالحياة وتعوض ما ضاع تحت أقدام السنوات اللاهثة. الحنين الذى كان، فى الغالب، رفيق نهايات العمر صار عبئا على كثيرين لا يزالون فى دائرة الشباب أو على وشك مغادرتها، هؤلاء تتعثر خطواتهم فى حنينهم، حتى إن امتلكوا مفردات العصر، فهم لا يشعرون أنهم أبناؤه ولا يقدرون على العودة إلى ماضيهم الحاضر بسطوته فى وجدانهم، والمستقبل، بغير شك، ليس لهم.