سلمى حسين في مصر، نعيش في غابة مظلمة تسودها «نخبة مفترسة»، والظلام هنا كناية عن قوانين تحجب المعلومات وتحارب الشفافية، سواء فيما يتعلق بالذمم المالية أم حصص التملك في الشركات، أو غياب قوانين تمنع المحاسبة وتعارض المصالح والتربح على الطرق الحديثة من الوظيفة الحكومية. «النخبة المفترسة» هو تعبير من اختراع كبير اقتصاديي البنك الدولي سابقا، فرنسوا بورجينيون، ويعني تلك الطبقة من الأغنياء في دولة ما، والتي تقف في طريق أي إعادة لتوزيع الدخول، بحيث تبقى الدولة رهينة انعدام المساواة ومن ثم انعدام الأستقرار في سبيل أن تحافظ على ثرواتها. ويؤدي ذلك، بحسب أبحاثه، إلى خفض معدلات النمو. تقليديا، كان الفكر الاقتصادي الرأسمالي مرحبا بانعدام المساواة بين الدخول باعتباره محفزا للنمو. إلا أنه بعد الأزمة العالمية في 2008 بدأ بعض الاقتصاديين في التحذير من مساوئ انعدام المساواة، وانضم أخيرا إلى ذلك المعسكر أحد أهم المؤسسات المحافظة، وهو صندوق النقد الدولى، ويفرق الصندوق بين نوعين من انعدام المساواة. أحدهما خاص بالفوارق بين الدخول، ويحذر صندوق النقد أنه كلما زاد نصيب الأغنياء من ثروات البلد، قلل ذلك من فرص تحقيق معدلات نمو مرتفعة، ولكن الأخطر بالنسبة إليه هو انعدام المساواة في الفرص، لأثره السيئ على كل من الاستقرار والتنمية: وأولى تلك الفرص الحصول على التعليم والصحة، تتعلق المساواة في الفرصة بسؤالين أساسيين نجد إجابتهما في مصر ب«لا» كبيرة واضحة. عندما يذهب ابن الغفير وابن الوزير لنفس المدرسة السؤال الأول هل يتلقى كل الأطفال المصريين نفس الفرصة في التعليم وبنفس الجودة العالية؟ والعبرة هي أنه إذا تلقى كل المصريين نفس نوعية التعليم الجيد المقصور حاليا على القادرين (10 ٪ من السكان)، فهذا يوسع من دائرة الشباب المؤهلين للقيام بالوظائف ذات الدخول العليا، أي أن المساواة في الفرص في الصغر تؤدي في النهاية إلى تقليل الفوارق بين الدخول، وتسهل الترقي لأعلى السلم الاجتماعي المبني على الجدارة. وقد تتساءل: إلى أي مدى نقترب مثلا من هولندا؟ حيث يذهب أبناء الملكة إلي مدرسة الحي الحكومية مع سائر أبناء الحي، مع الفارق أن أبناء الملكة وغيرها من الأغنياء يدفعون مصاريف مدرسية مرتفعة في المدرسة الحكومية، بينما يدخل فقراء الحي نفس المدرسة مجانا. هل تكفل الدولة المدارس الحكومية المجانية المصنفة الأعلى من حيث الجودة على مستوى العالم، مثل ألمانيا وفرنسا وإنجلترا أو كوريا الجنوبية والصين؟ تتلاحق الإجابة ب«لا» أيضا عن سؤال الصحة: هل تشبه المراكز الصحية في مصر مثيلاتها التي تسافر إليها نخبتنا في ألمانيا وفرنسا والصين، وهي مستشفيات تابعة للحكومات، مكفولة لجميع المواطنين؟ هل يحصل الجميع على نفس النوعية من مياه الشرب (أم يعاني الفقراء وحدهم ويموتون من أمراض متعلقة بنوعية مياه الشرب)؟ هل تكفل نخبتنا تأمينا صحيا للعاملين؟ إذا كان المنطق واضحا كالشمس، ومرتبطا بالأمن القومي، فلماذا لم تحرص «الدولة» على أن تتحسن نوعية التعليم والصحة على مدى ما يقرب من أربع سنوات من إزاحة مبارك وثورتين شعبيتين؟ وما علاقة ذلك بنخبتنا المفترسة؟ تجيب دراسة نشرها أخيرا البنك الدولي عن مصر أن زيادة التوظيف في مصر مرهونة بتفكيك شبكة المصالح الاقتصادية المتنفذة سياسيا. وتشير الدراسة إلى أن تلك الشبكة مبنية حول 469 شركة يملكها أو يديرها 32 من رجال الأعمال من «الواصلين سياسيا» (مقابل 66 مليون مصري تحت الطبقة المتوسطة، بحسب تقديرات البنك الدولى). تحلل الدراسة نتائج أعمال تلك الشركات لتستنتج أن شركاتهم تمتعت بمزايا خاصة بهم وحدهم دون بقية الشركات في القطاعات التي يعملون فيها، وأن أرباحهم تجاوزت بأضعاف بقية الشركات المنافسة، كما تمتعت الصناعات التي يعملون بها بحماية ضد دخول أي منافسين جدد وضد منافسة السلع المستوردة. وتؤكد الدراسة أن تلك الشركات وأصحابها مازالوا يعملون ويتمتعون بمعظم مزاياهم، وأن هذا في حد ذاته معيق للقضاء على البطالة. وتربط الدراسة تلك الشبكة بما يسمى "الدولة الرهينة" أي أن "الدولة" وقعت رهينة في أيديهم، وتحت سيطرتهم. أهم مظاهر "الدولة الرهينة" هي السيطرة على التشريع، لتفصيل القوانين والقواعد بما يخدم محافظهم، ولعل هذا أحد التفسيرات القوية لتزوير برلمانات ما قبل الثورة ثم غياب أي برلمان منتخب منذ ثورة يناير وحتى الآن. وفي المقابل، حرصت تلك النخبة أن تغير سريعا من دعمها للحزب الحاكم وعائلة الحاكم بعد سقوطهم إلى التقرب إلى كل رءوس الدولة (التي تملك سلطة التشريع). وهكذا حقق بعضها مثل مجموعة شركات عز، والتي ما زالت تسيطر على ثلثي سوق الحديد المصرية أعلى أرباح في تاريخها في العام اللاحق للثورة، والآخرون بدأوا بالفعل يستعيدون عافيتهم بعد سنة أو اثنتين من الخسارة أو نقص في الأرباح، أما عن المساواة في الفرص، فلعله من الكافى أن نعرف أن الحكومة الحالية خالفت الدستور ولم تلتزم بنسبة الإنفاق على الصحة التي نص عليها. فغابتنا ككل غابة، دستورها البقاء للأقوى والأغنى.