هاني بدرالدين لا ننسى الحوار الرائع في مقدمة فيلم الناصر صلاح الدين حينما سأل السلطان عن أحوال أورشليم (القدس) وأخبار أهلها، فأجابه قائده حسام الدين الذي أرسله شعب بيت المقدس: إنهم في أسوأ حال، ويعيشون في ذعر، وبدلا من الابتسامة التي كانت تضئ وجوه الأطفال، أصبح الفزع اليوم يمزق قلوب الصغار والكبار.. عرب أورشليم الذين غرسوا في أرضهم جنات تحولوا إلى مهاجرين مشردين، تقذفهم الأرض الطيبة التي امتلكوها منذ أجيال وأجيال.. إنهم جياع ومع ذلك فهم ما زالوا يحلمون بالخلاص .. وينتظرون. تلك الكلمات تداعت إلى ذهني عندما أدركت حجم المآساة الجديدة التي أحلت بالفلسطينيين، والذين يبدو أنهم على موعد مستمر مع الموت الذي يتخطف أبنائهم، بسبب الاحتلال الاسرائيلي الذي يحتل أرضهم الطيبة منذ عقود، ووبسبب الانقسام والحرب الأهلية التي شقت صفوفهم وفرقت كلمتهم، وأخيرا.. يتخطف الموت أبناءهم الذين يحلمون بالخلاص ويخوضون مغامرة الهجرة أملا في الحرية والرزق الوفير والحياة الكريمة، فيقعون فريسة تجار وسمامرة الموت ويغرقون في بحور الظلمات على أبواب أوروبا. فمنذ عدة أشهر، يشهد قطاع غزة أمرا جديدا على المجتمع الفلسطيني، وهو الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا وخاصة إيطاليا، بعدما ضاق الحال بأهل غزة، بسبب الحصار الاسرائيلي الخانق، الذي جعل أهلها في سجن كبير، بخلاف ويلات الانقسام والخلافات الداخلية، وانعدام فرص العمل، فانضم الآلاف إلى طابور البطالة، ولا يجد الرجال قوت يومهم فدفعهم اليأس إلى البحث عن أي طوق نجاة من هذه الحياة الصعبة، آملا في حياة كريمة، بعيدا عن قصف الطائرات والمدافع الإسرائيلية، ونيران الخلافات الداخلية، والبطالة المتفشية. ربما يكون نجاح البعض في مغامرة الموت هو الأمل الذي دفع الكثيرون من أهل غزة للاقدام على تلك المغامرة المحفوفة بالمخاطر، فمن حالفه الحظ واستطاع الوصول إلى شواطئ إيطاليا، كان بمثابة من انفتحت له أبواب الجنة، فاستطاع العثور على فرصة عمل واستطاع أن يجني أموالا تجعله يعيش حياة كريمة، في مجتمعات تقدس وتحمي حياة الانسان وحقوقه، بينما نشاهد المجازر الاسرائيلية يوميا لتحصد العشرات من الأبرياء. السطور المقبلة نلقي الضوء على تجربة مريرة خاضها أحد شباب قطاع غزة، بعدما قذفته الأرض الطيبة التي امتلكوها طالما حولها أباءهم وأجدادهم إلى جنات، فأصبح أبناءهم اليوم مهاجرين مشردين.. خميس جودت بربخ الملقب (حميد) من إيطاليا يروي ل "الأهرام العربي" تفاصيل رحلة العذاب المريرة، ولحظات ما بين الحياة والموت، بعدما أقدم على الهجرة من غزة عبر مصر إلى إيطاليا. وكان الوصول لحميد أمرا شاقا، ولم يكن ليتم لولا مساعدة د. تيسير جرادات وكيل وزارة الخارجية الفلسطينية، والذي كان قد قام بزيارة إلى إيطاليا للوقوف على حالة الفلسطينيين الناجين من الموت، بعدما انقلب قارب يقل المئات قرابة سواحل إيطاليا، مطلع شهر سبتمبر المنصرم، ومنهم جزء كبير من الفلسطينيين من أهالي قطاع غزة. يقول حميد في حواره "كانت بداية رحلتي مع العذاب في يوم 6 سبتمبر العام الجاري، حينما تركت وطني غزة هربأ من الوضع السياسي والاقتصادي السيئ حيث تتعرض غزة باستمرار لهجمات إسرائيلية تحصد الآلاف من الأرواح ويقع الآلاف مصابين بسببها، بخلاف الفقر الذي حل بأهلها. .وبالطبع فلم أكن أعرف أن تلك الرحلة محفوفة بالمخاطر". الاحتلال والحرب الأهلية ربما كانا السبب الرئيسي وراء تفكير حميد في الهجرة بعيدا عن دياره التي يحبها، حيث يقول "لي اثني من الأشقاء الشهداء، أحدهم استشهد في عدوان إسرائيل على غزة عام 2005، والآخر استشهد في الحرب الأهلية ما بين فتح وحماس.. كما أن لي شقيق ظل في غياهب سجون الاحتلال طوال 21 عاما، وخرج للحرية قبل نحو 9 أشهر.. وأنا شاب ولي أحلام وطموح ولذا حاولت أن أبحث عن طريق لتحقيق طموحي وأحلامي". ولكن كيف بدأت رحلة حميد مع الهجرة؟ وكيف غادر غزة حتى انتهى به الأمر متعلقا بأهداب الحياة وسط الأمواج المتلاطمة بعد غرق القارب؟ يقول حميد "بدأت الرحلة عبر مرحلتين، الأولى من غزة إلى مصر عبر أحد الأنفاق، والالمرحلة الثانية من مصر إلى البحر عبر أحد المراكب، وللعلم فقد كانت الرحلة مكلفة جدا، فتكلفة المرحلة الأولى من غزة لمصر بلغت 1400 دولار، أما تكلفة الرحلة من مصر إلى إيطاليا بالقارب فقد كانت أكبر، حيث بلغت 2000 دولار، أي أنني دفعت 3400 دولار ثمنا للرحلة من غزة إلى أوروبا". حميد فضح سماسرة الموت الذين لا يهمهم إلا حصاد الآلاف من الجنيهات والدولارات، ولا يهمهم غرق الأبرياء في بحور الظلمات، وكل ما يهمهم هو زيادة أموالهم.. ويقول حميد "كان القارب على متنه المئات من الفلسطينيين من أهالي قطاع غزة، والمؤسف أنه كان من بينهم عائلات بأكلمها، الأب والأم والأبناء، وبعضهم أطفال صغار ورضع، ولم نخرج جميعنا سويا من غزة إلى مصر، بل كنا في مجموعات، واكتشفت أن هناك المئات من أهالي غزة فقط على متن القارب". ويمضي حميد قائلا "يوم السبت 6 سبتمبر، انطلق القارب من مصر وتحديدا من مدينة دمياط، تحت ستار وظلام الليل، وسار القارب في عرض البحر لمدة ثلاث أيام كانت حافلة بالمعاناة والعذاب بسبب التكدس الرهيب للمهاجرين على متن القارب والذين بلغ عددهم حوالي 500 شخص". ويكشف حميد عن الوضع المآساوي الذي عاشه المهاجرون على متن القارب قائلا "كان العدد ضخما مقارنة بالقارب الصغير الذي لا يستوعب كل هذا العدد الكبير، ولهذا كانت الأوضاع صعبة للغاية، ويكفي أن أخبرك أن الحصول على الطعام والشراب كان مشكلة كبيرة، بخلاف التوجه إلى دورات المياه لقضاء الحاجة، حيث كان الطعام سيء للغاية، وعبارة عن عيش أصابه العفن، أما المياه فكانت غير نظيفة بل "قذرة"، وفي بعض الأحيان كنا نحصل على "حلاوة" و"تونة". ولكن كيف كان المهاجرون يعيشون على متن القارب؟ يقول حميد "كنا تقريبا "فوق بعض".. وكنا محشورين بشكل فظيع، أما الذهاب لدوره المياة فكانت مشكلة كبيرة، حيث تحتاج إلى حوالي 15 دقيقة حتى تخترق أعداد المهاجرين لتصل إلى باب دورة المياه، ولتقف في طابور الانتظار للدخول، والمشكلة أن القارب لم يكن به سوى دورة مياة واحدة، لجميع من على متن القارب من السيدات والرجال والأطفال، وبالتالي كنت بحاجة إلى حوالي ساعة لقضاء حاجتك". ويشير حميد إلى نقطة مؤلمة وهي أن الغالبية من المهاجرين على متن القارب كانوا من أهل غزة، ومن أعمار متفاوتة؛ شباب وشيوخ وسيدات وأطفال، وعائلات بأكملها، كانوا يفرون من الموت على يد إسرائيل وهجماتها المستمرة على غزة التي تحصد الآلاف ما بين شهيد وجريح، حالمين بالحياة الكريمة لهم ولأولادهم". ويصل حميد إلى لحظة هامة من رحلته مع العذاب والموت وهي غرق القارب قائلا "كل تلك المشكلات التي واجهناها على متن القارب لا تعد شيئا مما عانيته بعدها.. في اليوم الرابع من الرحلة فوجئنا بالمهربين يحضرون قوارب صغيرة ويطلبون منا أن ننتقل إليها بدلا من القارب، وكانت حجتهم أنهم يخشوا أن تكتشفم السلطات الإيطالية وتصادر القارب، ولكن تلك القوارب الصغيرة لم تكن لتستوعب تلك الأعداد الكبيرة الموجودة على متن القارب، وبالتالي رفضنا جميعا النزول من القارب واستقلال تلك القوارب الصغيرة". ويسترسل حميد قائلا "بعد حوار امتد حوالي عشر دقائق بيننا وبين المهربين أعلنا رفضنا النزول من القارب، وبعد ذلك يأس المهربون من اقناعنا فتركونا وانتهى النقاش عند ذلك الحد.. بعدها بدقائق كنا على موعد مع الكارثة، فبعد حوالي 45 دقيقة تقريبا جاءت سفينة كبيرة وأمرتنا بالوقوف، واصطدمت بقاربنا ونحن فى وسط البحر مذهولين مما جرى". لحظات الاصطدام كانت هي اللحظات التي خيم فيها الموت على المهاجرين على متن القارب، وهي لحظات حفرت في ذاكرة حميد والذي يقول "مع هذا التصادم رأيت بأم عيني جثث النساء والأطفال تتناثر فى عرض البحر، وسقطت فى البحر، تلك الصور أمام عيناي دائما، وللأسف لم أستطع مساعدتهم أو أن أفعل أي شئ لهم وهو يغرقون في قاع البحر وسط الصراخ.. كنت أموت كل لحظة وأنا أرى جثث الأطفال والنساء". ولكن كيف نجا حميد من الموت؟ يرد قائلا "لم أكن أجيد السباحة، ولكن القدر أنقذني حيث عثرت على سترة نجاة في البحر، وبقيت أصارع الموت لأكثر من يومين، بلا أي طعام أو شربة ماء.. وحدي وسط الأمواج المتلاطمة، مرت علي تلك الساعات كالجبال.. كنا أكرر الشهادة كثيرا وكنت أعرف أن مصيري هو الموت". ساعات الضياع في عرض البحر مرت كالأيام على حميد الذي لا ينسى أيضا لحظة النجاة والعودة للحياة بعدما طارده الموت، ويقول " ظللت في الماء ليومين كاملين تقريبا، وإذ بي أجد سفينة على مرمى البصر، والحمد لله أنهم اكتشوفني فأخرجوني ممن المياه وقدموا لي الاسعافات الأولية، وأجروا اتصالات مع السلطات الإيطالية والتي نقلتني إلى أحد المستفيات لتلقي العلاج، ومكثت فى المستشفى لمدة يومين". ولكن ماذا يقول حميد بعد هذه التجربة المريرة "ما تعرضت له ليست هجرة.. إنها رحلة الموت، ومن يريد أن يغامر من أهلي في غزة أو سوريا أو مصر أو أي مكان أخر، عليه أن يصطحب معه كفنه.. فهو مقبل على الموت وليس الهجرة.. وبالنسبة للمهربين وسماسرة الموت فهؤلاء لو أستطيع أن أتي إلى مصر فأنا مستعد "أقتلهم بأسناني" ولو حاخد إعدام.. وأؤكد أنني سأعود إلى غزة.. أرض العزة والكرامة".