السيد رشاد يعيش الفن التشكيلى السعودى فى اللحظة الراهنة، حالة استثنائية من الحضور والازدهار، جعلته واحدا من أهم روافد الفن العربى المعاصر، وقد تأسس ذلك على سعى المشهد التشكيلى السعودى خلال حقب سابقة إلى حرق الكثير من مراحل التطور التاريخية التى مر بها العديد من الحركات العربية قبله، وصولا إلى الاندماج بأسرع ما يمكن بأحدث المنجزات العالمية من ناحية، وتعويض ما فاته من حضور تاريخى لاتزال الحاجة إليه قائمة وملحة من ناحية أخرى..من هنا جاءت خصوصية الفن التشكيلى السعودى، فمن رصانة جيل الرواد إلى جسارة تيار الشباب، ومن قلب الواقعية التعبيرية إلى أطراف التشكيل فى الفراغ. تجاورت وتقاطعت وتلاحمت التجارب والاتجاهات الفنية والرؤى، وقد ترافق مع هذا الحركة النشطة للمعارض والبعثات السعودية داخليا وعربيا ودوليا، وهو ما انعكس بشكل أو بآخر على أطروحات الحركة التشكيلية السعودية الحالية، التى تقدم أعمالا تبدو مغايرة عما سبقها على خلفية أكثر جرأة وميلا إلى التجريب، ومن ثم صنع مجرى خاص للفن التشكيلى السعودى الذى جرت فى نهره الإبداعى مياه كثيرة متعددة التيارات والتجارب والفضاءات. ولعل الحضور الأقوى للفن التشكيلى السعودى باعتباره رئة إبداعية يتنفس منها، ويعبر من خلالها الفنان السعودى عن قضاياه الاجتماعية والثقافية والسياسية والإنسانية، لعل هذا الحضور يرجع إلى أن الوسائط الفنية الأخرى فى المملكة مثل السينما والمسرح أكثر تحفظا وحذرا فى تناول هذه القضايا، وبهذا لعب الفن التشكيلى السعودى ولايزال الدور الأهم كمرآة للبيئة الثقافية والاجتماعية السعودية، وباعتباره استمرار حياة لثقافة الشعب السعودى وموروثاته، ونافذة فريدة للتواصل مع العالم بمعاصرته وحداثته. وفى هذا السياق توصل الفنان السعودى إلى حلول عديدة لقضايا كانت فى الماضى تثير إشكاليات كثيرة، منها قضية تحديث التراث، فالمجتمع السعودى صاحب سمات شديدة الخصوصية مستمدة من التراث الإسلامى، ومنظومة القيم المجتمعية المحافظة، لهذا جاءت معظم أعمال الفن التشكيلى السعودى مرتبطة بشكل أو بآخر بهذا التراث، معبرة عنه، متلاقية معه، وإن لم يمنعها هذا من التأثر بالانفتاح على مدارس وتجارب الحداثة وما بعدها، وبهذا بدأ الفن السعودى أولى الخطوات باستيعاب مفاهيم الفن الأوروبى بعد عصر النهضة، والاقتباس من الفن الحديث فى العالم، خصوصا فنى اللوحة والتمثال الجديدين على المشهد التشكيلى السعودى، والذى كان يعتمد فى الأساس على فنون المنمنمات والمرقمات والتوريق ومتيفات الفن الإسلامى، لكن سرعان ما تجاوز الفنان السعودى مرحلة الاقتباس، ليخط بنفسه أساليبه الخاصة، ويعالج قضاياه سواء المحلية أم القومية المعاصرة، من خلال تجارب جمعت بين التراث والمعاصرة، كما هى الحال فى توظيف الزخارف التراثية المخطوطية بصورة حداثية، واستخدام الحرف العربى بصورة تجريدية، لكن الأهم كان التجديد على صعيد المضمون، حيث حرص الفنان السعودى على إعطاء الشكل الفنى الجمالى، وظيفة اجتماعية، من خلال ربطه بالقضايا المعاصرة. خصوصية تاريخيا بدأت الحركة التشكيلية السعودية عام 1957 على خلفية بعض المبادرات الفردية التى شكلت اللبنات الأولى لها، حتى صدر قرار وزارة المعارف السعودية باعتماد مادة الرسم ضمن المواد الدراسية المقررة فى المرحلة الثانوية وبعض المعاهد، وفى العام التالى مباشرة 1958، تم افتتاح أول معرض جماعى لمدارس المملكة بمختلف مراحلها، حيث تم تعميم حصة الرسم وإضافة مادة الأشغال اليدوية لها وأطلق عليها اسم «التربية الفنية»، وفى العام 1963، نظمت وزارة المعارف دورات تدريبية لمدرسى مادة التربية الفنية فى الإجازة الصيفية، وقامت بإنشاء مراكز فنية صيفية بمختلف مدن المملكة، وبعدها بعامين افتتحت المملكة معهد التربية الفنية بالرياض عام 1965 ثم افتتاح مركز الفنون الجميلة بجدة ليكون بمثابة مرسم ومعرض تشكيلى دائم، فيما افتتحت أقسام للتربية الفنية بكليات التربية بجامعات المملكة، وبالتوازى تم إرسال بعثات إلى الخارج فى كل من مصر وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة لدراسة الفنون التشكيلية، فى المقابل وضعت الرئاسة العامة لرعاية الشباب فى السعودية خططا سنوية لتنظيم المعارض الجماعية والفردية فى الداخل والخارج ورعاية الفنانين السعوديين، وهو ما أسهم فى تحقيق هذه القفزة الاستثنائية ، والتى يقول عنها الناقد الفنى هشام قنديل مدير إيتليه جدة للفنون الجميلة: المملكة العربية السعودية حاضرة فنيا منذ عقود طويلة نتيجة التشجيع المستمر من الدولة للفنانين والفنانات، وأيضا للعلاقة الإيجابية بين «مراكز الثروة» و«الإبداع التشكيلى» التى تعد نموذجا لدور رأس المال الوطنى فى دعم النشاط الإبداعى لبلاده، من البنوك أم الشركات الكبرى والمؤسسات المالية، أو حتى تجمعات رجال الأعمال، وهى تجربة راقية تستحق التعميم فى معظم أنحاء عالمنا العربى. يضيف قنديل: أعترف بأن هناك - مع الأسف - فهما خاطئا بوجود قيود تمارس على الفنان التشكيلى السعودى نظرا للخصوصية الدينية التى تتسم بها المملكة، لكن هذا الهاجس ليس له أساس من الصحة، فالفنان السعودى يتوافر له مطلق الحرية للتعبير عن إداعه، وأتحدى من يثبت العكس، فالرئاسة العامة لرعاية الشباب فى المملكة وهى الجهة الرسمية التى ترعى الفن التشكيلى السعودى، حريصة على توفير مناخ ر ائع للفنانين ،وتدعمهم بالمشاركة فى المحافل الفنية والبياناليات والتريناليهات العربية والدولية، فضلا عن انتشار أعمال التصوير والنحت والمجسمات داخل الأبنية وفى المؤسسات والشوارع والميادين فى مختلف أنحاء المملكة، وهو ما ينفى هذا الفهم الخاطئ، فضلا عن حضور نسائى لافت للنظر فى الحركة التشكيلية. ويوضح مدير إيتليه جدة أن اختزال الحركة التشكيلية السعودية بأنها محصورة بين قوسى التراث وتهويمات ما بعد الحداثة، أمر غير منصف، فالمشهد التشكيلى السعودى برغم احتفائه بالتراث، وبمعطيات ما بعد الحداثة، بما فيها التشكيل فى الفراغ، فإنه أكثر ثراء واتساعا وتعقيدا من ذلك، فالفنان السعودى برغم تمسكه بهويته وتراثه المحلى والوطنى القديم، فهو يضرب بجناحيه متواصلا مع آفاق العصر بمنجزاته الفنية والعلمية والإنسانية والتقنية الهائلة، وهو ما ينجلى بوضوح فى أعمال الجيلين الثالث والرابع من الفنانين السعودييين، وهما الجيلان الأكثر حضورا الآن فى المشهد التشكيلى، حيث حقق هؤلاء الفنانين، ومن بينهم عبدالعزيز عاشور، ومهدى الجريبى، وعوضه الزهرانى، وشاليمار شربتلى، وشادية عالم، ورائدة عاشور، وزمان جاسم، ورضية برقاوى، ومحمد لغامدى، وهاشم سلطان، حضورا مدهشا من خلال مشاركاتهم الدولية والعربية، فقد حصل هاشم سلطان على الجائزة الكبرى فى بينالى بنجلاديش، وفاز عبدالعزيز عاشور بجائزة فى ذات البينالى، كما فاز محمد الغمدى بجائزة التصوير الأولى فى بينالى الشارقة، وزمان جاسم بالجائزة الكبرى فى ملتقى السعودية للفن التشكيلى، وغيرها من الجوائز العربية والدولية. انصهار من جانبه يشير الفنان مهدى الجريبى إلى أن الفن التشكيلى السعودى يرفض أية وصاية أبوية، وهو ما دفع الحركة التشكيلية بقوة نحو التقدم والتطور، موضحا أنه فى تجربته الفنية ينطلق من تصور فلسفى لمفهوم بقاء الأثر مستحضرا الذاكرة الجماعية، وهو فى ذلك يحرص على تصدر المحتوى والابتعاد عن تكريس الشكل باعتباره الغاية الأولى للعمل الفنى، بهدف تحقيق قدر كبير من التواصل بين الفنان وذاكرة المتلقى، وموصلا إلى انصهار حقيقى غير مفتعل بينهما، عبر العودة إلى البدايات البسيطة، والكشف عن جوهرها بعيدا عن ابتذال المعانى والأدوات..ويرى الفنان عبدالله الشيخ، أحد رواد الفن التشكيلى السعودى أن ما يؤرق المشهد السعودى التشكيلى الآن هو قضية ازدواج المعايير لدى الإنسان المعاصر، وكيفية التعبير عنها، مؤكدا أن جيل الرواد لا يسعى لفرض أية وصاية أبوية على جيل الشباب، بل هو جدل فنى إيجابى نتساءل من خلاله عن مدى توافر المحددات والأسس الفنية لطرح الشباب التشكيلى دون استبعاد أو إقصاء، وبصفة عامة لم يخرج الأمر عن دائرة التساؤلات التى تثيرها عادة أية تجربة جديدة بعيدا عن فكرة الأبوية الفنية. ومن جيل الوسط يقول الفنان طه الصبان، ساعدنى عمل خطاطا ورساما فى كسوة الكعبة المشرفة على المزج بين التراث الفنى ومعطيات الحداثة، وحين سافرت إلى بيروت ثم إيطاليا لدراسة الفنون أعدت صياغة هذا الموروث الفنى فى صياغات حداثية تجريدية شديدة الاختزال وحرصت على عدم خنق اللوحة التشكيلية بكثير من التفاصيل، مشيرا إلى أن الفن التشكيلى المعاصر لم يستطع فقط اجتياز حاجز اللغة فى التواصل مع العالم، لكنه أيضا أثبت حضور ا راسخا من خلال المشاركات والجوائز التى حصل عليها إفريقيا وآسيويا وغربيا ودوليا. تفاعل وعن رؤيته للمشهد التشكيلى يقول د. أحمد نوار، أستاذ التصوير بكلية الفنون الجميلة بالمنيا ورئيس قطاع الفنون التشكيلية المصرى الأسبق: الحركة التشكيلية السعودية هى بمثابة نافذة إبداعية لمملكة تسعى من خلالها للتفاعل مع محيطها العربى والدولى، والجميل أن هذه الحركة تتحاور مع دوائر تيارات الوعى فى العالم دون تحفظات أو اعتبارات أو محاذير كانت فى وقت ما تعوق حرية الحركة التشكيلية السعودية، بل تقف سدا أمام تطورها وانفتاحها على الآخرين. وفى هذا السياق نجد أن أعمال عبدالله الشيخ أشبه بالموسيقى البصرية المركبة، بينما يتجلى قدرة الصبان كملون بارع قادر على تهجين الألوان المتصارعة فى تكامل جمالى، بينما يتجلى التمرد الحداثى واضحا فى لوحات بكر شيخون الذى نجح فى صياغة قانوه الفنى الخاص المعاكس لقانون الجاذبية الأرضية، وتذكرنا أعمال عبدالرحمن السليمان بكثافتها اللونية وهالاتها الفراغية بالدراما المسرحية، بينما يوازن عبدالله حماس بين التجريد الحداثى واستهلام التراث ممثلا فى الزخارف الشعبية أو مهدى الجريبى فيقدم تجربة تغوص فيما وراء الحداثة، وتجاوز السائد والمألوف، بينما تجسد إبداعات زمان جاسم الطاقة الضوئية - اللونية الهائلة فى أعمال لوحاته، فى المقابلى تتجلى التلقائية واضحة فى أعمال عوضه الزهرانى التى تعتمد على التركيب الهندسى، وتبدو الأسطورة القديمة وحكايات الأجداد واضحة فى معالجات شاليمار شربتلى التى نسجت عوالم ساحرة أشبه بألف ليلة وليلة، أما رائدة عاشور فاستمرت رؤيتها التشكيلية، خصوصا فى الطباعة بتقنية البارز والغائر من المفردات الشعبية السعودية القديمة. بينما يقدم الفنان عبدالجابر أساليب متعددة الرؤى، متنوعة الأزمنة والأمكنة، حيث تنقل بين الواقعية والتكعيبية والتعبيرية والرمزية، والسيريالية، كما تأثر بالصحراء وألوانها الدافئة، وكذلك بواقع المجتمع السعودى، وهو ما اتضح فى الاستعانة بالمعطيات الزخرفية والمعمارية للبيئة السعودية، وتوظيفها فى الدلالة على مضمون فنى محدد. أما الفنانة صفية بن زفر، فقد جاءت أعمالها التشكيلية تأريخ بصرى تشكيلى لفترات مهمة فى تاريخ المملكة السعودية، وهذه التجارب وغيرها جعلت الفن التشكيلى السعودى هو الساحة الأكثر اتساعا لاستيعاب التجارب الثقافية والإبداعية. شجاعة الناقد التشكيلى عزالدين نجيب، يوضح أن قدر الحركة التشكيلية السعودية هى أن طليعتها تحملت مهمتين شاقتين، الأولى: زرع مجال جديد هو الفن التشكيلى فى شبه الجزيرة العربية وتأسيس ذائقة جمالية هناك، والمهمة الثانية أن تواجه وتستوعب شجاعة نادرة تيارا معارضا للفن على خلفية ثقافة دينية متشددة، وقد نجحت طليعة الحركة السعودية فى كسب الجولتين وجذب تجاوب المواطنين السعوديين والخليجيين معها، فيما كسب الحركة فى تقديرى تحديا أكبر وهو استيعاب واختصار قرون من الخبرات الجمالية والتشكيلية عبر تطور مدارس الفن فى العالم حتى ما بعد الحداثة، مع الاحتفاظ بالهوية التراثية، فبقدر ما فتح الفنانون السعوديون مسامهم واستنشقوا بعمق رحيق الاتجاهات الحداثية المتلاحقة من الغرب، فقد انفتحوا بذات القدر على الحركة التشكيلية العربية، مما جعل للحركة التشكيلية السعودية الحدثية أصولا ثقافية وفنية عربية، جعلتها راسخة البنية الفنية، ممتدة الحضور كشريان مهم فى الجسد التشكيلى العربى الكبير، دون أن يخدش ذلك حضورها الإنسانى الشامل باعتبار الفن التشكيلى لغة عالمية قادرة على تحقيق التواصل بين شعب المملكة وشعوب العالم فى كل زمان ومكان.