عزمى عبد الوهاب «استجمع صوته الشخصى وأخذت مجموعاته تراكم نبرة متميزة تلو الأخرى، بحيث إننا نقرأ اليوم واحدا من أنضج شعراء مصر المعاصرين، وأكثرهم انفرادا فى الموضوعات والأسلوبية والأدوات" هذه صورة الشاعر"محمود قرنى" لدى ناقد مهم كالسورى "صبحى حديدي" وبالفعل يظل "محمود قرنى" أحد أبرز شعراء جيل الثمانينيات، الذى قدم للقصيدة العربية وجها مختلفا عن السائد والشائع، عبر أكثر من ديوان، ومنها "حمامات الإنشاد – هواء لشجرات العام – طرق طيبة للحفاة – أوقات مثالية لمحبة الأعداء – لعنات مشرقية". "الأهرام العربى" أجرت هذا الحوار مع "محمود قرنى" فإلى التفاصيل. كيف ترى الصورة الآن فى وزارة الثقافة بعد التجديد لصابر عرب للمرة الرابعة؟ أعتبر أن وجود صابر عرب على رأس وزارة الثقافة من أقسى التعبيرات الخاطئة عن ثورتين عظيمتين . فالتناقض البادى بين المضمون الثورى وبين القدرة على التعبير عنه لدى مثل هذه القيادة البليدة، عائد إلى أن أدوات الفعل وقعت فى الأيدى الخطأ، ولن تتمكن الوزارة من النهوض بمشروع ثقافى جديد، بينما تتوزع قدراتها على إرضاء فصيلين، أولهما : قيادات تعاونت مع نظام مبارك والإخوان ودافعت عن شعاراتهما بكل ما يحملان من فساد واستبداد، وقد عادت قيادات هذا الفصيل "سالمة " إلى نفس مواقعها القديمة فى الوزارة بعد سقوط حكم الإرهاب الإخوانى . وثانى هذه الفصائل: مجموعات محمومة بالدعوة لتفكيك وزارة الثقافة وغلق أبوابها واقتصار دورها على دعم المؤسسات الأهلية والناشرين الفاسدين من أصحاب المصلحة. وأظن أن مايحدث الآن من فساد فى هيئات الوزارة سواء فى هيئة الكتاب أم المجلس الأعلى للثقافة وغيرهما تحت حماية هذا الرجل، يعنى أن سفورا غير مسبوق فى دعم الفساد تمارسه الوزارة دون أدنى روادع قانونية أو أخلاقية . الثقافة المصرية تحتاج ثورة ثالثة تكنس هذه القمامة من طريق العقل المصرى الناهض والنابض . فليس أمامنا سوى أن نستمر مرضى بالأمل . تقول فى أحد مقالاتك بجريدة الأهرام "مات مثقف الثورة" هل هذا الموت لعلة بنيوية فى المجتمع أم فى المثقف نفسه؟ المجتمعات تولد صحيحة ثم تعتل والمثقف أيضا. لكن تحولات المثقف هى التى تقود المجتمع وليس العكس، ومن هنا تتبدى خطورته . وإذا كان المثقف المغلوب فى عصرنا يملك من اللجاجة ما يمكنه من إبداء أعذار تملك المزيد من البريق، فسوف نجد أنفسنا أيضا نسوق تلك الأعذار لأنظمة فاشية استطاعت استخدام الغالبية من هؤلاء المثقفين كقوة غاشمة لوأد الصوت الجديد فى المجتمع بأسره . وعليك أن تتأمل النتائج التى ترتبت على إلحاق النخب الفاعلة من هؤلاء بكتائب التبرير السياسى والثقافى لإضفاء المشروعية على أداءات سياسية مختلة، تفتقر إلى أية كفاءة علمية أو أخلاقية . هذا بالإضافة إلى جانب التنامى المذهل لجماعات الفساد السياسى والثقافى وكذلك تنامى قوة المحافظين، وسيطرة كلا التيارين على أدوات التدجين وإعادة إنتاج الماضى بشكل شبه كامل، ولك أن تتأمل وجوه من يتربعون على صدر وزارة الثقافة الآن، لتتأكد أن كل جديد وحقيقى فى هذه الأمة مازال فى محنة . فى ديوانك "لعنات مشرقية" ثمة استعادة لكتب مثل "ألف ليلة وليلة" وشعراء مثل طاغور وجوته وبورخيس ويكاد يكون التاريخ حاضرا بصورة ما .. هل تستطيع قصيدة النثر استيعاب مثل هذه الإحالات؟ أعتبر ديوان " لعنات مشرقية " بين أهم دواويني. وأتذكر أن الحلم " بتعريب" قصيدة النثر كثيرا ما راودنى . ستندهش لبعض الوقت من كلمة تعريب فى هذا السياق، لكننى أتصور أننى أجيب عن تساؤلات شتى لدى بسطاء الناس ولدى متلقين أوفياء لا ينشغلون كثيرا بمعضلات التحديث، لكنهم يبحثون عادة عن وجودهم فى النص ويستشعرونه بفطرية بالغة الدقة . وكان يحزننى بشدة أن يواجهك عابر أو مثقف بأن ما نكتبه ليس إلا شعرا مترجما عن لغة أخرى ، وسنده الوحيد أنه يمتح من آبار مسمومة وغريبة . على العكس تماما يقف ديوان " لعنات مشرقية " حيث يتواصل مع من لا صوت لهم من هؤلاء البسطاء الذين تحدثت عنهم قبل قليل، وإن تم ذلك عبر مفاصل غير مألوفة فى التراثين العربى والعالمى . فاللعنات التى يتوقف أمامها الديوان، ليست إلا فردوسا مفقودا يحاول الشعر استعادته، عبر رموز للمعرفة الإنسانية وخلال تمثيلات الثقافة الشرقية التى تستقطرها التجربة عبر قصة الأميرة " أنس الوجود والأميرة الورد فى الأكمام .." كحكاية مركزية فى " ألف ليلة " . ويبدو الديوان معنيا، فى المقام الأول، بالكشف عن منطقة نادرة فى الثقافة الشرقية تحيلها الأدبيات المستقرة، لاسيما أدبيات الاستشراق، إلى أصداء غير قابلة للاستعادة، باعتبارها ماضيا يؤكد ثقافة المنتصرين، ويحتقر آلام المهزومين. وتتعزز هذه التمثيلات بقوة الشعرية المعتدة بطاقاتها الجمالية عبر استكشافات سردية وتاريخية من خلال صورة الأميرة العربية فى الليالى الألف، وكذلك عبر صورتها منتصرة ومنهزمة فى الحروب العربية، ثم صورتها فى العصور الحديثة عبر نماذج تعبيرية متعددة شرقا وغربا. وتتداخل وسط هذه السرود نماذج معرفية ذات صبغة إنسانية عمقت علاقاتها بالروحية الشرقية مثل الشاعر الهندى رابندرانات طاغور، خورخى لويس بورخيس، والشاعر الألمانى جوته . كانت المحاولة تهدف إلى استعادة التراث العربى كمرجعية معرفية وروحية فى الآن نفسه، بعد أن ظل مطرودا من فردوس النثرية الجديدة التى بدت، فى العديد من مفاصلها، متهمة بالتغريب وباحتقار الرموز المحلية والعمل على الخفض من شأنها، تلبية لمعايير ما بعد حداثية كانت ومازالت تعبر، فى موطنها، عن إشكاليات سياسية لا ثقافية . حديثك يعيدنا إلى تاريخ قصيدة النثر ..وكيف يمكنها أن تختط لنفسها طريقا تملك من التمايزات بأكثر ما تملك من التماهى؟ لم يغب عنى لحظة، أن قصيدة النثر منتج غير أصيل فى الفضاء الشعرى العربى، مثلها مثل أشكال إبداعية أخرى تم تعريبها فيما بعد . وكنت دائما مؤرقا من سيادة تلك الروح التغريبية فى الغالبية الغالبة من نصوصها خصوصا بين هؤلاء الذين تنفسوا هواء الشعر فى النصوص المترجمة. هذا لم يعن أبدا أننى ضد الفضاء الإنسانى المتعدد والمتنوع للنص الإبداعى عامة وللنص الشعرى على نحو خاص. لذلك كانت علاقتى وثيقة بماضى قصيدة النثر وحاضرها. لكننى، كما أظن، كنت على مبعدة مناسبة من أخطارها، كما كنت أدرك، بدرجة معقولة، مساحات الفراغ التى خلفتها أقدام الرواد الأوائل أمام أسئلتنا المركبة . فالنموذج المصرى فى عشرينيات وأربعينيات القرن الماضى كان نصا متقدا ومتقدما على لحظته بخطوات واسعة، لكنه كان يملك من القطيعة مع واقعه أكثر ما يملك من الاتصال . حدث ذلك فى نموذج مدرسة شعر وإن كان بدرجة أقل مفارقة من هذا البون . وظلت تلك التجربة فى مصر ولبنان محاصرة بمعرفيتين : أولاهما فرانكفونية والثانية أنجلوساكسونية . غير أن ما شهدته الحقبة الجديدة من قصيدة النثر التى بدأت فى نهاية ثمانينيات القرن الماضى، قدمت نموذجا مختلفا كان يمثل استجابة طبيعية لتغير بنيوى هو بالأساس تعبير عن تغير مجتمعى ومعرفى بامتياز . وكان ثمة حاجة لوعى جديد بتاريخ العالم بالمعنى الإبداعي، فتغيرت الكتابة بغض النظر عن قيمة هذا التغيير وقدرته على الحلول محل الأبنية القديمة. بالطبع تجاوزت القصيدة الجديدة سؤال أنسى الحاج المأخوذ عن سوزان برنار : هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟ على ما فى الدالين من تناقض . كان منجز أنسى ورفاقه فى مصر والشام إجابة ناجزة عن هذا السؤال . لكن بقيت أسئلة تمثل عصبا حيويا، كما أشرت، وأنا أسميها أسئلة نخاعية، أى تتعلق بمرجعيات القوام الروحى وليس بالهيكل العظمى الذى يشير إلى الشكل، لكنه يحتقر المضامين ولا يعبأ بالفلسفة التى تقف خلف صناعتها. من هنا كان نص " لعنات مشرقية " طامحا إلى الإجابة " شعريا " عن بعض هذه الأسئلة . ففضلا عن وفائه للشكل أو القالب فهو تعبير مضمونى عن الأسئلة التى تشغلنى وربما تشغل كثيرين غيري. وكان التراث فى بعده المشرقى واحدا من تمثيلات استعادية لهذه المضامين، وما وجود بورخيس وطاغور وغيرهما فى النص سوى لتعزيز ملمح هذه المشرقية عبر أصوات من تعاطفوا مع تجلياتها الروحية . ربما من هذه الناحية أردت القول إن تعريب الروح النثرية لقصيدتنا العربية، على صعوبتها، ليس نافلة من نوافل الشعر، بل الأدق، أنه فرض من فرائضه . يرى الناقد السورى صبحى حديدى أن هناك استجابة ملحوظة لإغواء الإيقاع والتشكيلات الإيقاعية فيما تكتبه فى قصيدة النثر.. هل يعود ذلك إلى بداياتك بكتابة قصيدة العمود ثم الانتقال إلى التفعيلة قبل الاستقرار فى محطة قصيدة النثر؟ هذه هى العلة التى ساقها الناقد الكبير صبحى حديدى تعضيدا لوجهة نظره . ولم أر أمامى بدا من التعامل بنية حسنة مع ذلك التوصيف الذى أعتبره دقيقا . لكن إذا كان عامل الزمن ينطوى على أهمية خاصة هنا، فلابد من القول إن هذه الدراسة كتبها حديدى فى العام 2003 عقب صدور ديوان " الشيطان فى حقل التوت "، ولا أستطيع التخمين بما يمكن أن يقوله حديدى إذا ما طالع إصدارات جديدة للشاعر نفسه بعد مرور ما يربو على السنوات العشر . لكننى، على كل حال، أعتبر أن مسألة الإيقاع هى من أكثر قضايا قصيدة النثر تعقيدا، فثمة إجماع لدى شعرائها أنها تنطوى على إيقاع غير ملموس أو مقنن ربما يكمن فى لغتها أو سرودها، وهذا ما أشارك فيه أقرانى، غير أن الإيقاع نفسه ليس شيئا مصمتا، فهو واحد من نتاجات التفاعل المجتمعى والحضارى ومن ثم اللغوى . لذلك يبدو حديث الناقد صبحى حديدى مرتبطا بما يمكن تسميته ب " حوشية اللغة " أو " غرائزها البكر كما عبر عن ذلك تحديدا . ومن نافلة القول، طبعا، أن اللغة بوظائفها الأدائية التقليدية ليست عرضا من أعراض الشعر، بل هى جوهر يحتوى الفنون القولية بعامة، غير أن تلك الوظيفة " أقصد الوظيفة اللغوية " فى الشعر تتجاوز حدود المستقر. فانعطافات فن الشعر فى الذاكرة العربية أكبر من الفهم أحيانا، وبجانب كونه " لحمة فن القول وسداه " كما تقول العرب ؛ لم يكن يعنى ذلك بالضرورة أن تكون اللغة سيدا فى كل حين، ولم تكن قصيدة النثر مخلصة بشكل كبير لتلك المسلمات، ففى الوقت الذى عبرت فيه الكثير من النماذج الشعرية السبعينية بشكل صارخ عن درجة من الرضوخ لسلطان اللغة تحت لافتات ثورية، ذهبت قصيدة النثر مذهبا آخر، حيث تعاملت معها بكثير من الأنفة، ولم تكن فكرة التعالى على اللغة، على الأقل فى النماذج المؤثرة، تعنى وضعها خارج الإدراك الشعرى، بل كان يعنى تجاوز أنماطها التى استقرت إلى أنماط أكثر استجابة للصراع التاريخى بموجبات ذلك من عمليات هدم وإعادة بناء.