السيد رشاد إذا كان الاستبداد السياسى هو نتيجة لاحتكار الحكم، والاستبداد الاقتصادى نتيجة لاحتكار الثروة، فإن الاستبداد الاجتماعى هو المحصلة المريرة للاحتكارين السابقين، وفى مصر أسفر تزاوج السلطة «الفاسدة» مع رأس المال «الفاسد» منذ النصف الثانى من السبعينيات، وتسخير مقدرات الدولة لخدمة هذا التزاوج فقط فى العقد الأخير عن ولادة نموذج اجتماعى مصرى مشوه ليس له نظير فى العالم، لايزال - مع الأسف - هو الحاكم حتى الآن، ساعد على بقائه وتوحشه ضياع الطبقة الوسطى التى كانت تحافظ على النسق القيمى والأخلاقى والمنظومة السلوكية للمجتمع. وأصبحت القاعدة العريضة من المصريين إما ضحية لنزوات ونزق أهل القمة الذين لا يزيدون على 5 % من المجتمع، ومعهم السلطة والمال، ويظنون أنهم ليس لديهم شىء «يخافون منه»، فهم فوق القانون، كما تجسد ذلك أوضح ما يكون فى أواخر عهد الرئيس المخلوع مبارك، أو ضحايا أهل القاع الذين يمثلون الآن أكثر من نصف المجتمع - مع الأسف - من البلطجية والسماسرة وباعة ومدمنى المخدرات، وجيوش المتسولين والباعة الجائلين وكل إفرازات العشوائيات وسكان القبور والعشش وأطفال الشوارع، وهؤلاء ليس لديهم شىء «يخافون عليه»، بل القانون نفسه يتحاشاهم أو يتواطأ معهم أو حتى يخاف منهم كما يحدث الآن ونشاهده باعتباره طقسا عاديا فى كل شبر بمصر، تواكب مع ذلك «فقر مدقع فى القمة» على مستوى الرؤية والتخطيط والقرار والإجراء، استمر جاثما على مقدرات هذا الوطن أكثر من خمسة عقود، أوصلنا إلى «قمة الفقر» فى كل شىء، لكن الأخطر هو هذا التجريف المريع لمنظومة القيم المصرية التى حفظت لهذا البلد خصوصيته وفرادته، فتحول الطبيب إلى جامع مال وتاجر ألم، والمدرس إلى بائع دروس خصوصية، وأستاذ الجامعة إلى سمسار مذكرات، وسمعنا عن الضابط تاجر المخدرات، والقاضى المرتشى.... وأخيرا الرئيس الجاسوس، وهى التهمة التى يحاكم بها الآن الرئيس المعزول مرسى ضمن تهم عديدة، والأخطر انتقل مخزون القيمة فى المجتمع المصرى من «العلم أو الأخلاق أو الشرف العائلى أو الكفاءة والتفوق»، إلى قيمة وحيدة هى المال، وأفرز هذا - ضمن ما أفرز - إدماجا فاضحا للمصالح الخاصة فى المصالح العامة، ومعاداة كل ما هو شرعى وقانونى، وأخلاقى وانتشار فلسفة التحايل على البقاء، والمزاحمة على الموارد والفرص المحدودة بسلوكيات الغش والمحسوبية والرشوة، والفهلوة، وإهدار القانون أو تطبيقه بصورة انتقائية وتحلل قيم الطبقة الوسطى مع سيادة ثنائيات اجتماعية كارثية، جعلت جوهر المجتمع المصرى مناقضا - غالبا - لمظهره، فانقسم على نفسه، بين تدين ظاهرى واعتراف سلوكى، وطنطنة بالقيم وشخصنة فى الفعل، وصار المجتمع ضحية التفكير بالأذن، حيث ينخدع بالشعارات والشائعات، أو فى أحسن الأحوال التفكير بالقلب، فيصبح سجينا لعواطف، يستغلها البعض فى تنفيذ أغراضهم وأجنداتهم السياسية الخاصة، وفى أقل الخسائر تسجن قدرات هذا الشعب فى مشاعر جوفاء تستنفد قدراته، وتسخر مقدراته «راجعوا تصرفات سماسرة النهب والنصب وسلب ما تبقى من جنيهات المصريين فى بيع بطاقات وعمل لافتات لشخصية أجمع المصريون معظمهم على حبها واحترامها وتمثل بطلا قوميا لهذه الحقبة، حيث تصب هذه الملايين فى جيوب هؤلاء السماسرة بدلا من أن تضخ فى تنمية الوطن، وذلك نتيجة غياب التفكير بالعقل والبحث عن المفهوم. ومع استمرار الضجيج السياسى الفارغ الذى يقوده من يسمون أنفسهم ناشطين سياسيين ومن كل لون - وقانا الله آراءهم - تستمر بالتوازى مظاهر الانفلات الاجتماعى، وتتسع الفجوة بين المصريين وتراثهم الحضارى ومنظومتهم القيمية والأهم حلمهم فى مصر العظيمة كما يليق بها، وكما يريدون لها, كل هذا يفرض علينا، ونحن نعيش فى لحظة جارحة فى عمر الوطن، وننتظر خلال أسابيع اكتمال مؤسسات الجمهورية الثالثة، يفرض وضع المفهوم الاجتماعى للثورة على رأس الأولويات، مع البدء بسرعة وحسم بتفعيل آليات الضبط الاجتماعى. ولتكن البداية بتلك السيدة «معصوبة العينين» التى تتصدر واجهات مؤسساتنا القضائية، وهى تحمل ميزان العدالة، ولا ترى أحدا، فالجميع أمام القانون سواء، لكنها غائبة - مع الأسف - عن واقعنا الفعلى، فتطبيق القانون على الجميع وبالجميع سيعزز مفهوم المساواة ويبشر بسيادة العدالة، ويخلق نوعا من الطمأنينة ويحد من سلبيات الفوضى والانفلات الأمنى، ويحاصر العديد من الأمراضى المجتمعية وفى مقدمتها الرشوة والمحسوبية والنفاق، ويساعد على تحسين العلاقة بين الفرد والدولة، خصوصا فى ظل التصدى الجاد والحقيقى للفساد والإفساد وإعادة الاعتبار للنظام المؤسسى الذى يحقق توافق أفراد المجتمع ومن ثم يعتمدونه أساسا للحكم فى الجمهورية الثالثة وفلسفة لنظامها ومنظومة قيمية لمجتمعها، وتتم تهيئة المناخ لرفع مستوى المواطن المصرى الصحى والمادى والعلمى والثقافى، وتنمية الوعى لدى فئات المجتمع المختلفة، والبدء الجاد فى وضع حلول جذرية للطارئ والمزمن من مشاكلنا وأزماتنا، دون سياسة المسكنات الكارثية التى تحيل كل شىء إلى لافتة المستقبل مع إعادة النظر فى نظم اختيار القيادات والمناصب العامة على جميع المستويات، وتمكين الكوادر المؤهلة من الشباب ومراجعة غابة التشريعات المعوقة، وتفجير طاقات الخلق والإبداع عبر منظومة تعليمية قادرة على اكتشاف المواهب بل صنعها لتسهم فى تقدم وطنها. لقد كان المجتمع المصرى وثرواته ومقدراته دائما فى قبضة السلطة، وحان الوقت أن تصبح الثروات والمقدرات والسلطة فى قبضة المجتمع فى الجمهورية الجديدة التى نريدها جمهورية «السيدة معصوبة العينين».