مصطفى عبادة فى هذا الحوار يطلعنا شريف صالح على آليات الكتابة لديه، فالقصة القصيرة إبداع شريف الأساسى تناسب حالة الترحال الدائمة التى تصاحبه التى بدأت من الانتقال من الريف إلى المدينة، ثم الاغتراب، لذلك تتنوع أجواء المجموعات القصصية التى أصدرها، لا يؤمن شريف صالح بفكرة المجايلة، ويرى أنها عبارة عن تجمع مصالح، وتقسيم غنائم، الأمر نفسه ينطبق على الجوائز التى يرأى أنها تمنح حسب السن وترضية للمرضى، وتفاصيل أخرى فى هذا الحوار: لنبدأ من العام: أين تضع نصك القصصى فى سياق كتابة جيلك؟ تحكمنا تراتبية مُهينة، ومزعجة لى روحياً، تنظم العالم عسكرياً من «مشير إلى خفير» وكهنوتياً من «شيخ أكبر فما دون» وإدارياً من مدير عام إلى موظف صغير. وعملية «وضع النص فى سياق ما» هى اختلاق تراتبية ما، بغيضة أيضاً، تقوم على التهميش والانتقاء والمجاملة. بينما الكتابة نزق حر، وفردى تماماً، تنتجها سياقات متعددة، فكيف أضع كتابتى بين أبناء جيلي، إذا كنتُ قضيت عمرى ما بين الريف والمدينة والاغتراب فى الكويت، بينما بعض زملائى يعيش جغرافية واحدة؟ هل أزعم أننى أنتمى إلى جيل التسعينيات بحكم تاريخ الولادة ونشر القصص والفوز بجوائز.. أم إلى جيل الألفين بحكم نشر أول مجموعة قصصية «إصبع يمشى وحده» عام 2007، متأخرة عشر سنوات! وإذا كان معظم أبناء ما قد يُسمى «جيلي» اتجهوا إلى الشعر والرواية، فيما أكاد أكون أنا الوحيد بينهم ربما الذى واظب على كتابة القصة فى أربع مجموعات نشرتها خلال ست سنوات.. فما السياق الذى يربط بينى وبين زميل آخر إذا اختلفت تجربتنا الحياتية والقرائية، والجنس الكتابى لكل منا؟ لا شيء سوى مصادفة الميلاد أو مصادفة الإعجاب بصوت أبلة فضيلة! أنت إذن لا تؤمن بفكرة المجايلة؟ «المجايلة» أكذوبة راجت بشكل فاحش مع ما يسمى «جيل الستينيات» .. فبالله عليك ما الرابط بين إبراهيم أصلان وجمال الغيطانى؟! لا تاريخ الولادة، ولا التجربة الحياتية، ولا طريقة الكتابة، ولا حتى الفلسفة وراء الكتابة ولا طبيعة الشخصية؟ هذا المفهوم ليس أكثر من «نادى المصالح المشتركة» لمجموعة تعد على أصابع اليد.. ثم خفت بريقه فيما بعد.. وأدى إلى تهميش وتغييب كتابات كثيرة لصالح هؤلاء.. وربما لعبت السلطة دورها آنذاك فى تلميع أسماء ما، ك «سلطة ثقافية».. لأن دولة بيروقراطية عتيدة مثل مصر تمنح الجوائز بالأقدمية ولدواعى المرض، تتطلب أن يكون للرواية جنرال وللشعر كاهن أعلى! تأمل حولك ستجد أن لجنة الشعر فىما يسمى «المجلس الأعلى للثقافة» معقود لواؤها إلى شخص ما، وكذلك الجوائز والمهرجانات والندوات. تأمل حتى رائحة العسكرة فى «الأعلى» وليس «الوطني» مثلاً! هى إذن ليس «مجايلة» بل اصطناع جنرالات وبيادق للثقافة، وشللية تنفيع ومصالح، ويومياً أقرأ مقالات تنتقد جوائز وكتابات، على طريقة إدارة المماليك للإقطاعيات، يكفى فقط أن تعرف السبب الخفى لماذا كتب فلان ضد الجائزة العلانية الآن ولم يكتب عنها من قبل؟ هذا كله يختلف عن فكرة المدرسة التى تجمع أشخاصاً لديهم رؤية وهموم وقراءات، كالسرياليين مثلاً.. أو الشكلانيين الروس.. وحتى هذه النعمة حُرمنا منها فهام كل منا يصنع كتابته على عينه. لا تزال مصراً على كتابة القصة القصيرة ، فيما كل زملائك اتجهوا إلى الرواية؟ لا أدعى أنه إصرار، أو خطة. تروق لى القصة القصيرة، وتناسب انتقالى من جغرافيا إلى أخرى، وهامش الوقت يتيح لى إطلاقها كدفقة.. هى مثل «قُبلة» بينما الرواية علاقة كاملة تتطلب وقتاً واستقراراً ما، لهذا السبب تعثرت معى، ووجدتنى بدلاً من كتابة رواية أكتب مسرحيات قصيرة منها مونودراما «رقصة الديك» الفائزة بجائزة الشارقة. ما الحاجة التى تشبعها لديك القصة القصيرة؟ أكون تحت ضغط حلم أو غضب أو صورة ما فأكتب.. بينما فى الرواية أو على الأقل هذا ما حدث معى أفقد مع الوقت هذه الحالة وأشعر بالحيرة والملل والفتور وأجدنى بعد عشرات الصفحات أسأل نفسى: لماذا أكتب كل هذا الهراء؟ تلعب الفانتازيا دورا فى علاقات نصك القصصى «بيضة على الشاطئ» مثلاً، ما الذى ترفضه فى الواقع؟ الواقع كله مرفوض بالنسبة لى.. ولو كان مقبولاً لتوقفت عن الكتابة واستمتعت به. لكننى لا أعرف هل ما أكتبه «فانتازيا» حقاً؟ أحب الجنس كحافز إنساني، وبما أننى أعيش فى واقع يكبته، فالنص فرصة للانتصار له. وأحب الحلم بكل تأثيره المدهش وهروبه الفتان عند الاستيقاظ.. لذلك الحلم فى كتابتى يلعب دوراً أهم من الواقع.. وأومن أكثر بالكتابة التى تخلق عالمها، ولا تُحاكى أى واقع خارجي. كتبت رواية ثم قمت بتمزيقها إلى ماذا تطمح فى روايتك الأولى؟ فى عصر الكمبيوتر سيبدو تعبير «تمزيقها» مجازياً، بالفعل انتهيت من مسودة رواية استغرقت منى ثلاث سنوات، وقرأها أصدقاء بعين الرضا والمحبة.. لكننى لم أشعر بالرضا عنها، ولا أنكر أننى «موسوس» قليلاً، أشعر بأن عنوانها لم يأت بعد، وأن شيئاً ما أود قوله وعجزت.. فقررت الاحتفاظ بها فى اللاب توب.. ربما أنشرها.. ربما لا.. فى النهاية هناك لحظة أستمتع فيها بالكتابة وتستنفد طاقتي، وهذا لم يحدث مع مسودة الرواية. ولستُ مضطراً لنشرها كى ألحق سباق إصدار كتاب كل عام أو الحصول على لقب «روائي». إذا اعتبرنا العمل الأدبى مؤشراً على خيارات صاحبه الفكرية.. ما خيارك الفكرى السياسى من عملك؟ لا توجد سياسة فى العالم العربى، يوجد جهاز سرى هائل يدير شئون رعية بائسة وما بينهما «مكلمة» إعلامية عفنة الرائحة.. لهذا أشعر غالباً بأننى حشرة سقراط التى عليها أن تبقى حصان أثينا متيقظاً فتلسعه من حين إلى آخر. هذا هو دورى الأخلاقى والسياسى الوحيد ككاتب. وكما ترى هو دور مزعج لا يوفر صديقاً ولا عدواً. جرت فى مصر ثورتان كنت خارجهما بحكم الغربة، كيف تواصلت مع ما يجرى فى مصر وما تجليه الأدبى لديك؟ تواصلت معهما بكل حواسى وغضبي.. وفى كل زيارة إلى مصر كان لابد من «ميدان التحرير».. وبرغم أننى لم ولن أيأس.. لا أستطيع أن أُخفى حزنى الشخصى العميق على أكثر من ثلاثة آلاف شهيد.. تواطأ ضدهم الإخوان والسلف الصالح والفلول والثورة المضادة ومجلس طنطاوى ومافيا الإعلام.. تخيل.. ثلاثة آلاف روح أزهقت ولا أحد يرف له جفن! لا قضاء حاكم شخصاً واحداً وأدانه! بالطبع كان الأسهل مواكبة ذلك بمقالات أما إبداعياً فلم يخرج معى شىء حتى الآن. تنتقل من عالم إلى عالم آخر بين مجموعاتك القصصية ففيما كان الجسد محورا رئيسيا فى مثلث العشق كانت الغرائبية محور عالم «بيضة على الشاطئ» كيف ترى هذا الانتقال؟ لا تلزمنى المجموعة القصصية بأن تكون هناك ثيمة عامة لنصوصها.. لكن لأننى أكون تحت وطأة تجربة ما، وحالة مزاجية بعينها، تظهر القصص مترابطة جمالياً أو على مستوى الثيمة الرئيسية.. بالفعل حضر «الجسد» بكل ضراوته فى «مثلث العشق» التى حازت على جائزة ساويرس.. فيما حضرت الفانتازيا أكثر فى «بيضة على الشاطئ» الفائزة بجائزة دبي.. وحتى فى مجموعة «شخص صالح للقتل» المظلومة قليلاً.. كنت تحت هيمنة لشرط جمالى يتمثل فى كتابة نصوص بالغة القصر مع تنوع ثيماتها. وكل هذا طبيعي، مع مرور الكاتب بين تجربة وأخرى، ورغبته فى أن يضيف لا أن يكرر ذاته. أنا مثلا تعاملت مع بيضة على الشاطئ على أنها نص ذو روح واحدة أقرب الى مفهوم الرواية بالمعنى التجريبى.. هل تعاملى هذا صحيح؟ لست وحدك.. كثيرون قالوا ذلك عنها وأيضاً عن «مثلث العشق».. ربما هما روايتان لا تحترمان قواعد الرواية! لكن فى النهاية ما يبقيهما فى خانة القصص أنك تستطيع قراءة أى نص وتستمتع به وتكتفى به وحده. وربما هى رغبة تراودنى منذ مدة لكتابة رواية، لم تأخذ صيغتها المُثلى حتى الآن.