الشعب السورى فى محنة عظيمة، لكن معادن الرجال لا تختبر إلا فى الشدائد وكما يقال الذهب لا يتوهّج تألقاً سوى فى النار. هزائم وخيبات تتوالى على الشعب المحاصر بقتلاه وجرحاه وجوعاه، فتعصف الرياح الخريفية بأحلامهم النضرة وتلتحق بعواصف الشتاء فتنزل بهم المزيد من الفجائع ومعها الإحباطات. الدخول إلى حمص تطلب شجاعة وإقداما كبيرين من قبل مراسلى سكاى نيوز وبى بى سي، وعدد قليل من المراسلين والمراسلات والمصورين الشجعان الذين ينقلون الصورة الحقيقية لما يجرى إلى العالم. انسداد الأفق هو أول أسباب الثورات ومهارة أى نظام سياسى تتجلى فى قدرته على استشراف آفاق جديدة لمواطنيه، وهذا ما يعزّ فى المنطقة العربية . أضيف هذا الهمّ العامّ وثقل فاتورة الخسائر البشرية فى سوريا على الهمّ الخاصّ عندما ذبحنى خبر مصرع روز مارى كولفين الصحفية الأمريكية الأصل أثناء تغطياتها الأحداث فى حمص ومعها زميلها المصور الفرنسى ريمى أوجيليك . ألم الفقد يتضاعف عندما نعرف الشخص الذى فارقنا معرفة لصيقة . لقد جمعتنى بكولفين لقاءات فى مواقع المعارك، إبان الثورة المصرية ثم اللّيبية، نزل على النبأ المشئوم الذى قرأه مذيع ال سى إن إن كالصاعقة، قال:"ببالغ الحزن والأسى علمنا بمقتل اثنين من الصحفيين الذين قتلا فى حمص الأربعاء 22 فبراير 2012، بعد التفجير الذى ضرب مركزا إعلاميا أقامه المعارضون السوريون.. غادرنا المصورالفرنسى ريمى أوجيليك والمراسلة الأمريكية روز مارى كولفين، كانا يمثلان لنا الكثير فى وقت قريب جدا...أفكارنا ومشاعرنا مع عائلاتهم وأصدقائهم". كانت مارى كولفين ذات ال55عاما ترسل تغطياتها لصحيفة صنداى تايمز فى مقرها بلندن، وهى من أشهر وأشجع من قاموا بتغطيات الحروب وعلى وجه الخصوص غطت منطقة الشرق الأوسط على مدى 20 عاما، وحرب تيمور، والشيشان وكوسوفو وأفغانستان والعراق، وسريلانكا، حيث فقدت عينها اليسرى هناك، إضافة إلى تغطيتها أحداث الثورات العربية طيلة العام الماضى. آخر مرة التقيتها كانت فى ليبيا حيث ودعتنا باتجاه مصراتة التى كانت كتائب القذافى تمطرها بالمدفعية والصواريخ التى تكفى لهدم قارة، ومع ذلك لم تخف كولفين أو تتراجع، وقررت دخول المدينة أثناء القصف ضمن القليلين الذين استطاعوا ذلك. حكت لى عن سبب فقدها لعينها التى وضعت عليها عصابة سوداء،سألتها ماذا يقول لك أبناؤك ووالدتك عندما يشاهدونك فى أتون المعارك والحرائق وعلى مرمى الرصاص والقذائف وأنت تدلين بشهادتك إلى السى إن إن من موقع الأحداث؟ أجابت :"لابد من وجود عيون تسجل هذه الوحشية، فعندما يموت أطفال ونساء وتسحق أرواح بلاذنب لابد أن يجدوا أحدنا إلى جانبهم!". بقيت على اتصال بكولفين حتى آخر رسالة إلكترونية منها عندما كانت تستعدّ لدخول سوريا للذهاب إلى حمص بعد أن يئست من وصول تأشيرة الحكومة . وفقيدا الكلمة ريمى وكولفين سُجِّل حتفهما بعد أقل من شهرين على مصرع زميلهما جيل جاكيى أول صحفى غربى يقتل أثناء تغطية تلك المجازر. وقد أصيب فى الهجوم نفسه الصحفية الفرنسية أديث بوفييه مراسلة لوفيجارو مع زميلها المصور وليم دانيال والمصورالبريطانى بول كونروى .. كانوا جميعا فى الطابق الأرضى من المبنى حين تعرضت الطوابق العليا لقصف بالصواريخ . وسارعت كولفين إلى مدخل المبنى لاستعادة حذائها والفرار. وعندها سقط صاروخ آخر على واجهة المبنى التى غطى ركامها الصحفية الأمريكية وزميلها الفرنسى. ولم تنجح محاولات فرق الإغاثة والصليب الأحمر والهلال الأحمر لاستعادة جثمانها..حتى إن والدة كولفن استسلمت لليأس وأعلنت لشبكة ‘سى. إن. إن' أن ابنتها ستدفن على الأرجح فى سوريا. غير أن السفير الفرنسى فى دمشق إريك شوفالييه،نجح فى تأمين نقل جثمانى الصحافيين بالطائرة إلى باريس الأحد الماضى. ولم تُخرس الجريمة ضد الصحفيين فى بابا عمرو عيون الحقيقة فالنار لم تصوب إلا نحونا وسقوطهم لم يكن يعنى سوى سقوط شهود العيان على عدّاد الموتى الذى يحصى الآلاف، لكنّ العالم مازال يشخّر فى غرفة نعاس الضمير!. أما المصور البريطانى “كونروي"، الناجى من الجحيم فكانت الكاميرا آلة الألم التى أسكنها قلب الموت الدسم فجعلتنا نركض معها لنلاحق الأخبار المسمومة فنرى الأطفال فى انتظار الموت وقد جمعوا فى غرف يترقبون إجهاز القوات الحكومية على حى بابا عمرو بعد أن انسحب مقاتلو المعارضة من المدينة. ومن غرفته بمستشفى فى لندن يسعى كونروى أن يهز الضميرالنائم فيصف القصف بأنه مذبحة عشوائية للرجال والنساء والأطفال ويقول: إن الآلاف ما زالوا محاصرين فى المدينة، بلا كهرباء أو ماء،أو طعام وسط البرد الشديد وهطول الثلوج. وقبل أن يستسلم للجزع وينهزم بالعجز يصرخ المصور كونروي: “ سنتساءل فى المستقبل كيف سكتنا على هؤلاء الذين يقصفون أعمار الشعب السورى، إنهم يموتون، وهم بحاجة إلى المساعدة، لابد للمجتمع الدولى أن يفرض وقفا للقصف حتى يدفنوا موتاهم وينقلوا جرحاهم، لابد من إنقاذ سكان بقية المدن التى سيأتى عليها الدور للإفناء بعد حمص!"....ولامجيب لهذه الصرخات.. حتى مؤتمر أصدقاء الشعب السورى فى تونس ينطبق عليه ما أطلق عليه العوام من أهل الشام “ تمساية “ وهو الطقس الخاص بالتعزية للموتى، حيث يحضر أهل و أصدقاء الفقيد فيعدّدون مآثره ومحاسنه. ثم تنتهى الجلسة كما بدأت، بفنجان قهوة مرّة أو بمصمصة دموعهم المالحة, ويقول المعزون : «عظّم الله أجركم » فيأتى الرد : “شكر الله سعيكم". الأصدقاء فى الشام المكلومة بعدما تفاءلوا بمؤتمرتونس" الثائرة" استفاقوا على واقع صادم “أن التغيير فى تونس بعيد عن أن يرقى إلى ما هو متوقع من نظام يؤسس لعدالة المسحوقين والإنصاف لآلامهم . سيظل السوريون الأبطال يتضرعون إلى الله ويرددون “ما لنا غيرك".. لعل الله يستمع لدعائهم, فيهرب الخوف أمام عظمتهم ويستسلم القاتل على أعتاب الحرية!