أوضاع اقتصادية حرجة تمر بها البلاد وتكاد تضعها على حافة الهاوية فى ظل طاقات إنتاجية معطلة وانخفاض ملحوظ فى الناتج المحلى، استنزاف الاحتياطى النقدى الأجنبى، انفلات أمنى وسعرى، اقتراض خارجى، مخزون إستراتيجى سلعى أصبح فى المنطقة غير الآمنة، أمور ألقت بظلالها السوداء على النظام الغذائى حتى بات رغيف الخبز ليس فى متناول المواطنين البسطاء ممن يتجرعون الشقاء يومياً وقد يدفعون حياتهم ثمناً لرغيف خبز قد يكون فى بعض الأحيان كل قوت يومهم، ولم تتوقف الأزمة عند هذا الحد المخزى، ولكن امتدت أياديها الأخطبوطية لتقتنص أحلام الفقراء فى الحصول على أنبوبة بوتاجاز فى ظل استفحال دولة البلطجة وغياب الأجهزة الرقابية وهيبة الدولة، أصبح الحديث عن العدالة الاجتماعية ضرباً من الخيال فى ظل توحش التجار والقفزات السعرية غير المبررة واقتصاد حر بلا ضوابط ينهش فى جسد هذا الشعب المكلوم المنهك بحثاً عن «لقمة العيش»، ملفات ساخنة وضعناها بين يدى الدكتور جودة عبدالخالق، وزير التموين، لنضع النقاط فوق الحروف ونتلمس طريق الإنقاذ مؤكداً أنه جاء لخدمة الفقراء لا رغبة فى منصب سياسى أو وزارى، بل لمحاربة الفساد والمفسدين من أجل العدالة الاجتماعية فكان هذا الحوار.. فى قراءة تحليلية عام 2010، وصفتم اقتصاد مصر بأنه حطب جاف سيتحول إلى حريق هائل إذا اقترب منه عود ثقاب، وبالفعل قد تحققت مخاوفكم، فكيف ترون المشهد الاقتصادى الحالى؟ المشهد صعب للغاية وتشوبه أمور شديدة الالتباس وإن كانت هناك بعض الإيجابيات إلا أن الوضع فى مجمله يثير القلق والمخاوف، وهو نتاج الزلزال الذى شهدته البلاد فى 25 يناير 2011، وما أعقبه من توابع كانت لها آثارها على الأمن والاقتصاد والسياسة والأخلاق والاجتماع وانصياعاً لقوانين الطبيعة فما إن يقوم زلزال ويهدأ حتى ينذر بزلزال جديد وهذا ما تعرض له الوضع الاقتصادى إضافة إلى حدوث أخطاء سياسية جسيمة فى إدارة المرحلة الانتقالية جعلت مصر حالياً أشبه بقارب يبحر فى أمواج متلاطمة وأصابت محركه بعطب ودفته بأذى والعطب الذى أصاب المحرك لا يزعجنى فيمكن إصلاحه، ولكن ما يؤرقنى الأذى الذى طال الدفة لأنها تعنى عدم السيطرة على الاتجاه وبالتالى إمكانية حدوث اصطدام. وما الأخطاء التى تشيرون إليها؟ الخطأ الجوهرى الجسيم فى إدارة المرحلة الانتقالية هو إجراء الانتخابات قبل وضع الدستور بما يشبه وضع العربة قبل الحصان، فلا تكون هناك حركة ويصاب الجميع بالشلل التام وخصوصاً أن القوى السياسية التى أفرزتها ثورة 25 يناير لم تعط الفرصة لاكتساب الشعبية المطلوبة لخوض الانتخابات والتى تعتبر فى حد ذاتها ترجمة للبناء السياسى التى تقوم عليه شئون البلاد فلا يستقيم الوضع بإجراء انتخابات دون تحديد ملامح هذا البناء السياسى من خلال وضع دستور للبلاد، وبرغم أن التعديلات الدستورية التى تم الاستفتاء عليها فى مارس الماضى تخلصت من عداء النظام السابق الذى نحاول إسقاطه إلا أنها استبقت عناصر أخرى لها نفس التأثير السلبى المخل مثل الإبقاء على نسبة ٪50 للعمال والفلاحين ومجلسى الشعب والشورى، والناس سئمت هذا الوضع غير المبرر، كل هذه الأمور مجتمعة كان لها أسوأ الأثر على الاستثمارات الأجنبية التى مازالت فى حالة انتظار حتى تتضح الرؤية وتنقشع الضبابية المخيمة على كل أمورنا وقراراتنا، خصوصاً أن التغيرات التى تشهدها الساحة السياسية الآن تفرض عدداً من التساؤلات عن هوية النظام الاقتصادى الفواعل الاقتصادية فى الداخل والخارج وطبيعة علاقاتنا مع الدول والأطراف المختلفة حدودها ومداها والمشكلة الأكبر هى غياب الحزم فى إدارة الشأن العام فكيان الدولة غيّبت هيبته أمور عديدة ألقت بظلالها الرمادية على الوضع الاقتصادى فقد فقدنا 20 مليار دولار من الاحتياطى النقدى الأجنبى ومازال يتعرض للاستنزاف لأننا بلد يعيش على استيراد السلع الإستراتيجية، فأصبح النقد الأجنبى عند الحد الأدنى إضافة إلى تعطل بعض المرافق الإنتاجية مثل السياحة. وكيف ترون الخروج من المأزق؟ حتى لا يبدو كلامى وأنه يصب فى خانة التشاؤم واليأس، يجب أن نركن إلى التفاؤل حتى لا نفوت الفرصة الأخيرة للإنقاذ، فرغم كل شىء هناك إيجابيات يجب أن نستثمرها ونبنى عليها تحت مظلة شعار الثورة «خبز حرية عدالة اجتماعية» خصوصاً أن سكان مصر قبل 25 يناير كانوا 85 مليونا فى حكم الرعايا، يسمعون ويطيعون ويأكلون ويشربون دون أن يسألوا ماذا نأكل أو نشرب؟ ولكن التحول الجذرى الذى فجرته الثورة هو تحولهم إلى مواطنين فى سبيلهم إلى الخروج من «البرزخ» وعملية «المخاض» كبيرة وهائلة ومن ثم كى نفهم جيداً لابد أن نقدر لها أنها ستنطوى على تجاوزات خاصة فى ظل غياب الخبرة فى ممارسة الحرية وظهرت الصورة متخبطة، أسفرت عن مشاهد سلبية عديدة بدءاً من المطالب الفئوية التى لن تنتهى، بل إن بعضها لا يمكن قبوله وانتهاء بقطع الطرق وتهديد البؤر الحيوية وغيرها ووفقاً لقوانين الطبيعة ستستمر هذه الحركة العشوائية يميناً ويساراً حتى الاستقرار، بالنظر إلى تجارب دول أخرى تجد أن ثورة مصر البيضاء لم يتبعها تدمير للمنشآت أو البنية الأساسية للاقتصاد أو الطاقات الإنتاجية وإن كان أصابها التعطيل ومقارنة بما حدث فى يوليو 1981 عقب إضراب عمال بناء السفن انخفض الناتج المحلى بنسبة ٪7 مقابل انخفاض الناتج وفق تقارير موازنة يوليو 2010 2011 إلى ٪4,2 ثم حدثت زيادة بنسبة ٪2 والمأزق الحقيقى الذى يجب أن ننتبه إليه هو أننا نتعامل مع تراكمات 50 عاماً على الأقل مما يزيد الأمر صعوبة. وهل الوضع على هذا النحو يتحمل اقتصاد السوق الحر بلا ضوابط فى ظل ما نعانيه من انفلات سعرى وبطء العدالة الاجتماعية؟ النظام الاقتصادى الحر إذا ما تم تطبيقه بلا ضوابط يكون أشبه بمن يمتطى صهوة جواد بلا لجام أو سرج فتكون النهاية بالموت أو تكسير العظام، وهذا ما نحن نعانيه اليوم ومظاهر الفشل تبدأ بعدم التوزيع الكفء للموارد والتمسك بسوق حرة فى ظل سياسات احتكارية تسيطر على الأسعار دون تحقيق الكفاءة الاقتصادية بمعناها الإنتاجى وبالتالى فإن السوق الحرة تحقق العدالة الاجتماعية، والمعيار فى نجاح التجربة الاقتصادية هو نظام يحقق الكفاءة الإنتاجية من ناحية ويضمن العدالة الاجتماعية من ناحية أخرى، وهذا لا يعنى أن البديل هو أن تحل الدولة محل السوق فى توزيع الموارد وتقديم الخدمات، ولكن يظل الاعتماد على نظام السوق بعد ترويضه من خلال التدخل بأدوات تشريعية تتضمن تنافسية السوق بعيداً عن التربح والاحتكار وتضمن تحقيق العدالة الاجتماعية. تراجع المساحة المزروعة والإنتاج المحصولى له أسوأ الأثر على الوضع الاقتصادى واستمرار نزيف استيراد السلع الإستراتيجية وخصوصاً «القمح» من ناحية وارتفاع معدلات البطالة من ناحية أخرى فما تعليقكم؟ هذا صحيح، فقد شهدت العقود السابقة إعطاء أولوية مطلقة للسمسرة والمضاربة والمتاجرة لكل شىء على حساب الإنتاج والتربح ما بين سياسات الانفتاح تارة والإصلاح تارة أخرى، حتى أصبح وضع الأراضى الزراعية فى أسوأ حالاته بسبب العدوان الصارخ للمبانى على الأراضى الزراعية وتعديل العلاقة الإيجارية حتى أصبح عقد الإيجار يخضع للقانون المدنى بمعنى أن يتم التعديل لعقد الإيجار بين الطرفين فى أى وقت دون النظر إلى المواسم الزراعية وخطورة ذلك على الإنتاجية، فالأرض تختلف عن المسكن لذا لابد من حماية قدراتها الإنتاجية وعدم إرهاقها والجنى على خصوبتها واستنزاف مواردها، فمثلاً بلد مثل فرنسا تخضع للنظام الرأسمالى يحدد القانون بها مدة العقد الإيجارى للأرض الزراعية بمدة لا تقل عن 9 سنوات، فى حين أن القانون المصرى يسمح بتحديده كل عام، الأمر الذى أدى استمراره إلى تدهور الأراضى الزراعية وهذه جريمة عظمى يجب التصدى لها من خلال تشريع يوقف هذا النزيف. ظلت أوضاع الفلاحين لعقود عديدة من سيئ إلى أسوأ حتى إنه يمكن القول بأن هناك «هروباً جماعياً» من العمل الزراعى، فكيف يمكن التصحيح والإصلاح؟ فعلاً أوضاع الفلاحين صعبة للغاية خصوصاً أن العلاقة الإيجارية أشبه بعقد إذعان ينطبق عليه ما يسمى اقتصادياً «سوق البائعين» دون الخضوع لأية شروط حمائية ملزمة بسبب القانون رقم 97 لسنة 1992 المنظم للعلاقة الإيجارية للأراضى الزراعية الذى جاء ليصحح أوضاعا سابقة كانت العقود الإيجارية فيه شبه مجمدة ومؤيدة بما يتعارض مع مفاهيم العدالة الاجتماعية إلا أنه فى ذات الوقت لم يضع ضوابط للعلاقة الجديدة فأثرت سلباً على الأرض والفلاح، وبعد ثورة 25 يناير كان لابد فى إطار منظومة الإصلاح الاجتماعى من تقديم أسعار عادلة ومحفزة للفلاح وبخاصة الإنتاج الزراعى للمحاصيل الإستراتيجية تدعيماً للأمن الغذائى، وهذا ما راعيناه بتحديد أسعار محفزة لتوريد القمح وبالفعل زاد حجم التوريد من 2,1 مليون طن إلى 2,6 طن بزيادة نصف مليون طن، وكنا استباقيين هذا الموسم فحددنا سعر توريد القمح قبل الموسم الزراعى فى إطار خطة التحفيز ولضمان زيادة المساحة المزروعة وبالفعل تمت زيادة السعر للفلاح بنسبة ٪19. حالة من الاستياء تعم الشارع المصرى فى ظل أزمات ومطاحنات مستمرة بسبب رغيف الخبز الذى تحول إلى معركة مصيرية ضد شبكة فساد عنكبوتية تضم المطاحن والمخابز وهيئة السلع التموينية وغيرها، فهل نظل مكتوفى الأيدى؟ لا يجوز أن نتوقع أن أزمة الخبز ستنتهى بين طرفة عين وبرغم أننى غير مسئول عن المشكلة فإننى مسئول عن حلها خصوصاً وأننى لم أسع لمنصب سياسى أو وزارة ولا أرغب فى أى منهما، ولكنى فى هذا الموقع لخدمة الفقراء ومسببات هذه الأزمة متداخلة مما أوتى أحد من قوة قد يعجز عليه حلها بالسرعة التى يتوقعها المواطن خصوصاً فى ظل حالة الانفلات الأخلاقى والسلوكى، وفى مقدمة هذه الأسباب خروج الريف من منظومة إنتاج الخبز فتحولوا من منتجين للقمح إلى منتجين ومستهلكين للخبز فى إطار التحول الاجتماعى الذى أصاب القرية ونزعتها نحو المدينة، هذا بالإضافة إلى ما يشوب نظام الدعم الحالى العشوائى وغير المنطقى والذى يعد سبباً أصيلاً فى تنامى مشكلتى الخبز والبوتاجاز وارتفاع فاتورة الدعم وحجم الإهدار، فطن الدقيق يتكلف 250 جنيهاً ويتم توريده للمخبز ب 160 جنيهاً بالإضافة إلى زيادة سعر التوريد للقمح بنسبة 19% بما يزيد على السعر العالمى بنسبة تتراوح بين 1800 إلى 2000 جنيه ونعطيه للمطاحن ب 400 جنيه، ومن المفترض أن يتحول إلى قمح 82، ولكن للأسف يتم تسريب القمح من المطاحن وتسريب الدقيق من المخابز ليصل حجم إهدار الدعم إلى ما يتراوح بين ٪-30 إلى ٪40 ناهيك عن استخدام الخبز كغذاء للحيوان والذى من المفترض أن تصل تكلفته إلى ما يتراوح بين 25 إلى 30 قرشا للرغيف فيتم استبداله بالخبز المدعم بسعر 5 قروش. برغم مرور أكثر من عام على الثورة فإننا لم ننجح فى تحقيق العدالة الاجتماعية المرغوبة بل تأزمت العديد من المشكلات فى مقدمتها رغيف الخبز، فكيف يكون الحل فى تصوركم؟ لابد من تغيير النظام الذى تدار به عملية إنتاج الخبز بمعنى أن يكون التعامل مع المطاحن والمخابز وفق الأسعار السوقية وليس بالأسعار المدعمة وبالتالى لن تفرط المطاحن فى حبة قمح واحدة وكذلك المخابز لن تهدر الدقيق وسترتفع إنتاجية الطن على أن يتم توريد الخبز إلى منافذ توزيع تابعة لوزارة التموين تتولى توزيعه على المواطنين لضمان وصول الدعم لمستحقيه بالسعر الاجتماعى وفق مواصفات قياسية تحددها الوزارة وبالتالى نختصر سلسلة من الإهدار نعانيه حتى اليوم فى الدقيق والقمح بالمطاحن والمخابز ونضمن إنتاجاً جيداً بأقل تكلفة مع تفعيل الأجهزة الرقابية إضافة إلى هيكلة هيئة السلع التموينية التى للأسف كانت تلعب دوراً فاسداً فى ظل تبعيتها لوزارة الصناعة وكانت المسئول الأول وعن استيراد القمح غير مطابق للمواصفات، ولكن بتبعيتها لوزارة التموين اليوم سيقضى على هذه التجاوزات فى ظل إخضاعها لآليات رقابية حاسمة. هل هناك اتجاه لاستبدال الدعم العينى بدعم نقدى؟ على الإطلاق لأنه من الصعب تحديد المواطنين المستحقين لهذا الدعم فى ظل توزيع جغرافى وسكنى غير محدد فى بعض المناطق، وبالتالى يصعب الوصول إلى المواطنين بدعم نقدى فهو الذى يسعى للحصول على حقه فى الدعم العينى من أقرب منفذ تابع لنطاقه الجغرافى، المشكلة ليست فى نوع الدعم، ولكن كيفية وصوله لمستحقيه وهذا يتطلب إعادة صياغة منظومة الغذاء والتوسع فى زراعة الأقماح وتقليل الفاقد المهدد من القمح والدقيق. وماذا عن انفلات الأسعار الذى تعيش الأسرة المصرية تحت وطأته اليوم دون رقيب أو حسيب؟ الانفلات الأمنى والخضوع لاقتصاديات سوق حرة بلا ضوابط وراء تفاقم هذه الأزمة، ومع ذلك نحاول إيقاظ ضمائر التجار وفرض رقابة على الأسعار حفاظاً على البعد الاجتماعى, وقد أعلنت عن السعر الاسترشادى للسلع الاستهلاكية للحد من هذه القفزات السعرية ونسعى لتوفير كل الاحتياجات فى المنافذ والمجمعات الاستهلاكية بأسعار عادلة. هل هناك نية لرفع سعر رغيف الخبز؟ إطلاقاً لا توجد إلى نية لرفع سعر رغيف الخبز، نحن نسعى لخدمة الفقراء وتحقيق العدالة الاجتماعية بتوفير أسعار عادلة تضمن الأمن الغذائى للمواطنين وسعر رغيف الخبز الحالى معقول جداً. متى تنتهى أزمة البوتاجاز خصوصاً بعد أن أصبحت تحت وطأة دولة البلطجة؟ المشكلة الرئيسية فى أزمة البوتاجاز هو الغياب الأمنى والفساد المستشرى فى المستودعات والمحليات غير القادرة على ضبط الأسواق والإشراف على عمليات التوزيع، فبرغم جهود وزارتى التموين والبترول فى احتواء هذه الأزمة بضخ كميات إضافية من أنابيب البوتاجاز وإتمام عمليات التوزيع على المستودعات فإن المسئولية تقع على عاتق المحافظين والمحليات ولقد انتهينا من دراسة كوبونات البوتاجاز لضمان وصول الأنبوبة إلى مستحقى الدعم, وبرغم كل هذه التجاوزات نسعى لإقرار العدالة الاجتماعية, ولكن وزير التموين لا يملك عصا سحرية لحل كل هذه الأزمات فى مدى قصير.