د. ياسر ثابت فى مصر تتداخل السياسة مع الرؤيا أحيانًا . تذوب المسافات بينهما، ما بين مصدق ومنتقد، لتبقى العلاقة الغامضة بين الشخصيات الدينية والسياسية والرؤى والمنامات ذات أبعاد وتفاصيل مثيرة، تستحق أن تروى، ولو من باب التأمل أو حتى محاولة فهم أسرار الارتباط بينها، بعد أن تحول أى منام أو رؤيا ذات بعد أو تأويلات سياسية إلى مادة دسمة للجدل والنقاش الإعلامى والسياسى على حد سواء. قبل أيام قلائل، أثير نقاش واسع بعد تسرب مقطع صوتى منسوب إلى الفريق السيسي، خلال حواره مع ياسر رزق، رئيس تحرير جريدة «المصرى اليوم»، تحدث فيه عن أربعة أحلام فى فترات مختلفة كلها تنبئ بأنه سيكون حاكمًا لمصر. فى المقطع الصوتى المذكور، والذى يُفترض أنه ليس للنشر، يقول السيسى إنه حلم بأنه يقال له «سنعطيك ما لم نعط أحدًا من قبل»، وأضاف أنه حلم بأنه يحمل سيفًا مكتوبًا عليه لا إله إلا الله باللون الأحمر. سخر الإخوان المسلمون من أحلام السيسي، فى حين أنهم تحدثوا كثيرًا عن رؤى لأنصارهم تتعلق برؤية الرئيس المعزول محمد مرسى مع الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم- خلال اعتصام رابعة العدوية. إن الخطاب الغيبى وقصص المنامات والأحلام التى اتكأ عليها أنصار جماعة الإخوان المسلمين، أكثر من أن تحصى، فهذا أحدهم واسمه جمال عبدالهادى يقول على قناة «اليقين»: إن هناك رؤى تواترت على ألسنة الصالحين بأنهم شاهدوا جبريل -عليه السلام- بمسجد رابعة العدوية، وأضاف أنهم يقولون: شاهدنا جبريل فى مسجد رابعة العدوية يثبت المصلين بالمسجد، ويردد وراءه المستمعون له: الله أكبر، فقد ضمنوا النصر على مخالفيهم ما دام، كما ادّعى أن جبريل فى صفّهم، ولم يلبث أن أضاف رؤيا جديدة تقول: إن أحدهم رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم- فى مجلس ومعه الرئيس مرسى المعزول، وحان وقت صلاة العصر، فقدم الرسول عليه الصلاة والسلام مرسى ليؤمهم فى الصلاة، ومعهم الرسول، الذى لم يصل مأمومًا قط. ورأى الراوى أن هذه الرؤيا دليل على «عودة مؤكدة للمعزول إلى الحُكم مرة ثانية». لم يكتف جمال بهذا، فأضاف رؤى جديدة لهذا الترويج السياسي، وذلك أن أحدًا رأى فى المنام أنه قد حط على كتف مرسى ثمانى حمامات خضراء، وأوّل ذلك بأنه سيبقى حاكمًا ثمانى سنوات، إلاّ أن الرؤيا فيما يظهر لم تكن صالحة، فعزل مرسى بعد تمام سنة من حُكمه بإرادة شعبية. أخذت بعض تلك الروايات تأخذ أشكالاً مغالية ومتطرفة، فقد روى أحدهم أنه رأى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- والرئيس مرسى ينامان على حجره، وهو يدلك لهما رأسيهما، ويحرسهما، وانتشرت بعد ذلك الرؤى والأحلام التى تروّج لحكم الإخوان لمصر، وأن منهم الإمام الذى لا يُقهر، وتجاوب مع ذلك مواقع للرؤى على شبكة الإنترنت مثل موقع صائد الرؤى، وموقع المسلم، وبدأ التأييد لها، والتحريض على تكفير من لم يؤمن بها . هذا الغلو فى التوظيف الأيديولوجى والسياسى للرؤى والأحلام، يجعلنا نرجع إلى معرفة معنى الأحلام وكيف يلجأ الكائن البشرى والجماعات المختلفة لتوظيفها لصالح أجندة أيديولوجية وسياسية معينة؛ إذ يقول رائد علم النفس التحليلى سيجموند فرويد فى كتابه «تفسير الأحلام» إن الأحلام ليست إلا محاولة من الإنسان لتحقيق الرغبات المكبوتة فى داخله . ويجوز القول: إنه عندما تفقد الأيديولوجيات التى تقوم على الاعتقاد الدينى قدرتها على التعامل مع الواقع، فإنها تلجأ إلى الخيال وعالم الأساطير، من أجل إثبات وجودها والاحتفاظ بقاعدتها الشعبية بين الجماهير، التى تؤمن بأيديولوجيتها وأفكارها، ومن ذلك التوسل بالرؤى والأحلام، التى تبشر المؤمنين بالأمل بانتظار الفرج الموعود والانتصار، وأقرب مثال على ذلك ما رأيناه فى اعتصام رابعة العدوية . كتب الباحث الأمريكى روبرت ودووك، فى مجلة أمريكية، مستغربًا انتشار الأحلام والمنامات، وكثرة الحديث عن الغيبيات، فى أوساط المعتصمين أنصار الرئيس المعزول. استغرب الرجل، تدليل جماعات تنادى بالديمقراطية، والانفتاح فى عصر الآيباد، على صحة مواقفهم السياسية.. بالمنامات والأحلام. قارن ودووك، بين تفكير أنصار مرسى فى رابعة العدوية، وبين مواقف قبائل الهوسا الإفريقية، مع كل هزيمة من قبائل التوتسي. فالهوسا يرجعون، كل هزيمة من التوتسي، إلى نوم كبراء القبيلة، ودخولهم فى الأحلام، دون غسل الأقدام. وبعد الإفراج عن القيادى الجهادى عبود الزمر فى مارس 2011، راج الحديث عن منام رآه قبل ذلك التاريخ بأكثر من 20 عامًا؛ إذ قال الزمر إنه رأى رفيق كفاحه خالد الإسلامبولى فى المنام "وخالد هو المنفذ الأساسى لعملية اغتيال الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وصدر بحقه حكم بالإعدام".. متى سنخرج؟ فضربه الإسلامبولى بيده.. ثم قال: ستخرج حينما تخرج الملايين فى الشوارع.. ثم تأتى إلى السجون فتخرجكم. وقد وصلت العلاقة الودية بين الرئيس أنور السادات وحسن التهامى إلى درجة كبيرة.. وكان الأخير من أقرب المقربين إلى الرئيس المصرى على الرغم مما اشتهر عنه من عدم الاتزان وتفسير الأحلام والغرق فى الغيبيات، حتى إن الرئيس المصرى اختاره كمندوبٍ له للتقارب مع حكام إسرائيل وقابل موشى ديان فى قصر العاهل المغربى الملك الحسن الثانى للتمهيد لزيارة السادات للقدس وإعلان مبادرته المعروفة. ويقول أحمد بهاء الدين فى كتابه "محاوراتى مع السادات": "وفى إحدى المرات ضحك السادات طويلاً عندما سمع التهامى يروى له أنه رأى منامًا وقال له: "رأيتك فى المنام تصلى فى المسجد الأقصى بالقدس ونحن جميعًا حولك وأنا بالذات بجوارك، والمسجد كله مليء بالمشايخ الذين يلبسون العمائم". ويضيف بهاء الدين قائلاً: "ولكن على أية حال كانت تلك أول قطرة ماء غير محسوبة وغير جادة فى موج الأحداث الغامضة حتى الآن التى أدت إلى رحلة السادات للقدس". "ولعل كثيرين من أصدقاء الرئيس السادات لاحظوا بعد ذلك – من دون معرفة السبب- أن السادات بدأ يلازم حسن التهامى ويقربه أكثر من المعتاد، وأنه بدأ يقول للناس بشكلٍ جدي: "إنه فيه شيء لله، ومكشوف عنه الحجاب" . وبعد إدخال الطب والهندسة فى علوم جامعة الأزهر، بدا الشيخ محمد متولى الشعراوى معترضًا على هذا التوجه، حيث كان يرى أن الأزهر للعلوم الدينية فقط، وكان يرى عبد الناصر أن الأزهر يجب أن يكون فيه الطبيب والمهندس بجانب العلوم الدينية. إلا أن الشعراوى رأى ذات يوم رؤيا قال عنها: لقد أتانى عبد الناصر فى المنام ومعه صبى صغير وفتاة صغيرة، والصبى ممسكٌ بمسطرة هندسية كبيرة والبنت تمسك بسماعة طبيب، وأخذ يقول لي: ألم يكن لدى حق أيها الشيخ ، فقلت له: بلى يا عبد الناصر، أصبت أنت وأخطات أنا. يذكر د. أحمد عمر هاشم أن الشيخ عبدالحليم محمود رأى، قبيل حرب رمضان المجيدة، رسول الله فى المنام يعبر قناة السويس ومعه علماء المسلمين وقواتنا المسلحة، فاستبشر خيرًا وأيقن بالنصر، وأخبر الرئيس السادات بتلك البشارة، واقترح عليه أن يأخذ قرار الحرب مطمئنًا إياه بالنصر. وقد تطرق إلى تلك الواقعة د. محمود جامع أيضًا فى كتابه: "كيف عرفتُ السادات؟"، إذ كتب قائلاً: "لا ننسى أنه بشرنا بالنصر فى أكتوبر 73 عندما رأى حبيبه رسول الله عليه الصلاة والسلام فى المنام، وهو يرفع راية "الله أكبر" للجنود ولقوات أكتوبر". فى المقابل، كتب د. فؤاد زكريا مقالاً فى جريدة "الأهرام" بتاريخ 18 نوفمبر 1973، انتقد فيه الشيخ عبدالحليم محمود وتركيزه على الغيبيات، وهو ما رأى أنه يظلم حسن التخطيط والتنفيذ فى تلك الحرب. قال د. فؤاد زكريا ما نصه: "أستطيع أن أفهم، وإن لم أكن أستطيع أن أغتفر، انتشار ألوان من التفكير اللاعقلى بيننا بعد يونيو 1967. أستطيع أن أفهم ذلك لأن قسوة الهزيمة غير المتوقعة، والإحساس بالهوان والمذلة والعجز، والشعور بأن كل شيء يسير فى طريق مسدود، كل هذه كانت عوامل ساعدت على انتشار موجات من التفكير اللاعقلي، وجعلت الأذهان أكثر استعدادًا لقبول تفسيرات غيبية للظواهر، وهيأت العقول لنوع من الاستسلام جعلها تفقد ملكاتها القديمة، وتركن إلى التصديق الساذج لكل بدعة وكل خرافة تجد فيها أى نوع من التعويض. "على أنه إذا كان انتشار التفكير اللا عقلى أمرًا مفهومًا، بالرغم من أنه لا يغتفر، فى ظروف الهزيمة، فإن الأمر الذى لا يمكن فهمه ولا اغتفاره هو أن تظهر ألوان جديدة من هذا التفكير بعد السادس من أكتوبر. فذلك لأننا كنا قد أعددنا العدة لكل شيء منذ زمن طويل، وحسبنا لكل عامل من العوامل حسابًا، وأجرينا مئات التجارب على العبور. وكان واضحًا أن التدريب الشاق والحساب العلمى الدقيق والتوقيت الذكى والتضليل المخطط والمرسوم للعدو، وفوق ذلك كله حماسة الجندى المصرى وشجاعته، كل هذه كانت العوامل الرئيسية فى النجاح الباهر الذى أحرزناه فى العبور وفى معارك الضفة الشرقية. ومع ذلك فقد عادت التعليلات اللا عقلية تطل برأسها من جديد، وكان ما يثير الإشفاق فى هذه التعليلات هو أنها تهيب بقوى غير منظورة قيل إنها حاربت معنا. ولم يدرك مرددو هذه الأقاويل أن تصديقها معناه أن الذى انتزع النصر ليس هو الجندى المصرى الباسل بدمه وعرقه وشجاعته، ومعناه أن العلم والتخطيط والحساب الدقيق لم يكن له إلا دور ثانوى فى كل ما حدث". وفى أواخر تسعينيات القرن العشرين، أصدر أحمد الصباحى زعيم حزب الأمة كتابًا من تأليفه بعنوان "الأحلام السياسية – فكر جديد أيضًا"، والكتاب صادر عن مركز التنبؤات السياسية التابع للحزب. فى كتابه المذكور، يقول الصباحي: إن الأحلام هى وسيلة الحزب الوحيدة لضمان مسيرة العمل السياسى فى الطريق الصحيح؛ لأن الإنسان لم يستطع حتى الآن أن يخترع وسائل أخرى ذات فاعلية للاسترشاد بها فى العمل السياسي، وهذه الأحلام هى مركز التنبؤ بالأحداث والمشكلات والحروب قبل وقوعها، ولهذا السبب فإن مركز التنبؤات السياسية الذى أنشأه الحزب هو من ضمانات القوة والصواب فى الفكر السياسى وفى اتخاذ القرار الصائب فى كل أمر من الأمور التى تتعلق بمصالح المواطن. فى آخر صفحة من الكتاب ينقل الصباحى ما كتبه أحمد رجب فى جريدة "الأخبار" فى عموده الشهير "نصف كلمة"؛ إذ قال: "قرأت فى "أخبار اليوم" أمس أن الحاج أحمد الصباحى رئيس حزب الأمة أنشأ إدارة فى الحزب لتفسير أحلام المواطنين الخاصة بالحكومة ورفعها إلى المسئولين، وأرجو من الحاج أحمد تفسير المنام الذى رأيته أمس؛ إذ شاهدت د. عاطف عبيد يمشى فى طريق طويل مفروش بالدولارات الخضراء، وكلما أمسك بدولار تحول إلى جنيه مصري، والجنيه فى الحلم سعد وهنا، فاللهم اجعله خيرًا". وعلى ظهر الغلاف كلمة أخيرة لأحمد الصباحى تحت عنوان "أحلم لمصر" يقول فيها: "أرسل رؤياك المنامية الصادقة مكتوبة إلى مركز التنبؤات السياسية بحزب الأمة بالقاهرة لتأخذ مكافأة مجزية إذا كانت الرؤيا السياسية صحيحة قابلة للنشر والتداول والتفسير ومقدمة من مواطن صالح.. إدارة المركز - عمارات العرايس- شارع قصر العيني- عمارة (ب) الدور (11)، ت: (7955996). وفى مصر، كم ذا بالرؤى من مضحكات.. لكنه ضحك كالبكاء!