السيد رشاد الدماء التى أغرقت أسفلت المدن وزراعات القرى هنا وهناك، ومعسكرات الإرهاب التى أقيمت فى متاهات الصحراء، وكهوف الجبال، والخلايا النائمة فى انتظار أوامر الحرق والقتل والاغتيالات. كل ذلك وغيره يجعل المؤامرة الإخوانية الكبرى ضد أقطار العالم العربى، ومن بينها دولة الإمارات العربية المتحدة، قضية شائكة وشديدة التعقيد، مكدسة بالأسرار والخفايا، التى يعرف البعض القليل بعض حقائقها، بينما يختفى الكثير من التفاصيل فى أروقة التنظيم السرى، والخلايا العنقودية وغيرها، مما يجعل من الضرورى بعد أن اقتربت المؤامرة من ذروتها، أن نحاول العودة إلى نقطة البداية للمؤامرة الإخوانية على الإمارات.. وتفاصيل تحركات خلاياهم وكيف نجحت المخابرات الإماراتية فى كشف وإحراق أوراق الإخوان هناك. إن كثيرين تحدثوا وكتبوا فى تلك القضية، لكن قلة فقط هم الذين حاولوا تفسير أسبابها الحقيقية وتعرية دوافعها، والتحذير من نتائجها، ومجموعة أقل أرادوا كشف الحقائق واضحة أمام الرأى العام العربى والعالمى، ووضعوا سيناريوهات الخطر والمواجهة بعيدا عن ظلام التضليل والتغييب، حتى لا تدفع الشعوب والأنظمة العربية ثمنا فادحا لأى تقصير أو خلل أو عجز، أو تجاوز فى حق الأوطان، فالحقيقة وحدها هى أقوى الأسلحة لكسب المعارك المصيرية. من هنا تستمد هذه الوقائع والوثائق والتحليلات والآراء التى جمعها وفك الكثير من ألغازها، وقدمها الكاتب محمد عبدالحليم أبوجاد فى كتابه «المحرقة.. المؤامرة الإخوانية الكبرى ضد الإمارات» الذى صدر حديثا عن دار الدوحة للنشر والتوزيع، تستمد أهمية خاصة فى هذه المرحلة الفارقة، من تاريخ الإمارات والأمة العربية كلها، حيث تحتل قضية الإمارات العربية المتحدة وجماعة الإخوان المسلمين، مساحة جدل واسعة الآن فى المشهد الإماراتى والخليجى والعربى كله. وهو ما يجعلنا نتساءل مع صاحب هذه الأوراق: ماذا تخطط جماعة الإخوان للإمارات؟ ولماذا استهداف الإمارات؟ وكيف واجهت المخابرات والأجهزة الإماراتية المؤامرة؟ البداية كانت قبل نحو أربعين عاما أو أقل قليلا، حينما استقبلت الإمارات، كما جاء على لسان القائد العام لشرطة دبى ضاحى خلفان، مثل غيرها من دول الخليج، العديد من أعضاء جماعة الإخوان حين فروا من دولهم، و أتوا مشايخ ومدرسين، واستقبلتهم الإمارات كعادتها استقبالا طيبا، وتولى بعضهم مسئولية بعض المراكز العلمية والدينية، وعمل أكثرهم مدرسين، ودخل البعض الآخر فى مجال الشئون الإسلامية والأوقاف، ولم يكن للإماراتيين وقتها أية معرفة بتنظيم الإخوان، ولا غاياته ومخططاته وتوجهاته، بينما الإخوان فى ذلك الوقت بدأوا فى تشكيل خلايا، ظاهرها تعليم الطلاب العلوم الإسلامية، لكن حقيقتها كما يؤكدها خلفان هى تكوين تنظيم يخرج مستقبلا على ولاة وحكام الإمارات الذين استقبلوهم خير استقبال. كانت الخطوة التنظيمية الأولى للإخوان فى الإمارات هى تأسيس جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعى، وكان هدفها الأساسى فى البداية هو جمع الأموال لتمويل عمليات التنظيم الدولى، مثلها فى ذلك مثل نظيراتها فى الكويت وقطر وغيرها من دول الخليج وحظيت الجمعية برعاية قطرية، حيث إن نشاط الإخوان فى الإمارات انطلق من مقر البعثة التعليمية القطرية فى دبى عام 1962. كانت الشرارة التى نبهت السلطات الإماراتي إلى تغلغل نفوذ الإخوان إلى حد سيطرتهم على قطاع التعليم، هو نشاط كوادر الإخوان فى تأسيس جمعيات الإصلاح فى الإمارات، ومن خلالها يقومون باستقطاب طلاب المدارس منذ الصغر، ثم يزرعون أفكارهم وأدبياتهم فى هؤلاء الطلاب، إضافة إلى تحكمهم التام فى نشاط البعثات التعليمية فى الخارج، والمعسكرات الشبابية الصيفية، إلى حد أن «إخوان الإمارات» أصبحوا هم الصوت الأوحد والأقوى فى مؤسسات الدولة التعليمية، وفى جامعة الإمارات أيضا. وبهذا لم يكن مسموحا لطالب مهما كان تفوقه، أن يذهب فى بعثة تعليمية للخارج إلا إذا كان منتميا للجماعة ومعتنقا أفكارها، وهو ما أغضب السلطات الإماراتية ودفعها لاتخاذ إجراءات لمواجهة جمعية الإصلاح وفروعها، وتقليص نفوذها، خصوصا بعد أن كشفت تحقيقات لأجهزة الأمن المصرى عن تورط إخوان الإمارات فى تمويل عمليات إرهابية قامت بها جماعة الجهاد المصرية داخل مصر، وأن هؤلاء الإرهابيين تلقوا تبرعات مالية ضخمة عبر لجنة الإغاثة والأنشطة الخارجية لجمعية الإصلاح الإماراتية. نتيجة لذلك كله قامت سلطات الإمارات عام 1994 بتجميد الأنشطة الخارجية لجمعية الإصلاح، وحل مجلس إدارتها، وإسناد الإشراف على الجمعية وفروعها إلى وزارة الشئون الاجتماعية الإماراتية، وبذلك أنهى القرار فصول النشاط المشبوهة لجمعية الإصلاح، والتوجيه الاجتماعى التى استمرت ما يقرب من واحد وعشرين عاما. لم يستوعب إخوان الإمارات درس جمعية الإصلاح واستمروا فى الاعتداء على سيادة الدولة واصطدموا بالقوانين والتشريعات الاتحادية بإصرارهم على قضية «البيعة» والارتباط بتنظيم خارجى، وهو ما اعتبرته دولة الإمارات اعتداء على سيادتها، وحاولت الحكومة الإمارات فى البداية معالجة القضية عبر التحاور مع قيادات الإخوان، وإقناعهم بالعدول عن هذا المنهج، خصوصا أن الإمارات مع بداية الألفية الثانية تحولت إلى أرض الأحلام، وحققت الرفاهية التامة لمواطنيها من خلال نجاحات تنموية واقتصادية غير مسبوقة، وأن القيادة الإماراتية والمواطن الإماراتى، يرفضان أخذ بلاده إلى المجهول، لكن أسفرت سلسلة اللقاءات التى جرت مع كوادر الإخوان عن رفضهم التام، لقطع العلاقات مع تنظيم الخارج، وإيقاف الأنشطة المهددة لسلامة الدولة فى الداخل. المثير للدهشة، ورغم تأكيدات المرشد العام ونائبه الشاطر بعدم التدخل فى شئون الإمارات، فإن السلطات الأمنية الإماراتية فى بدايات عام 2013 ألقت القبض على خلية تضم أكثر من عشرة أشخاص تضم كوادر من إخوان مصر ينشطون على أرض الإمارات من أجل جمع أموال طائلة وتحويلها إلى التنظيم الأم فى مصر. هنا لم تكتف الإمارات بموقفها الحاد والصريح ضد جماعة الإخوان فى الداخل والخارج، لكنها دعت الدول الخليجية إلى تكوين اتحاد خليجى ضد جماعة الإخوان المسلمين لمنعهم من التآمر وتقويض حكومات دول الخليج، وكانت أولى بوادر هذا التعاون إعلان الإمارات القبض على خلية إرهابية بالتنسيق مع المملكة العربية السعودية. وفى قراءة مهمة للرؤية الإماراتية لقضية الإخوان، يقدم لنا محمد عبدالحليم أبو جاد فى أوراقه جانبا من كتابات محمد الحمادى، رئيس تحرير صحيفة الاتحاد الإماراتية، ويمكن إجمال ملامح هذه الرؤية فى عدة نقاط: إن الإمارات لا تريد من الإخوان أى شىء فقط أن يكونوا بخيرهم وشرهم بعيدين عنها، عن شعبها وأرضها، مع رفض الإمارات واستهجانها لإرسال إخوان مصر وحكومتهم وفدا رسميا لطلب الإفراج عن متهمين يحاكمون أمام القضاء، وأن استمرار الزج باسم دولة الإمارات فى الأحداث الداخلية بمصر، ومحاولة تأليب الشارع المصرى عليها، لن يخدم الجماعة الحاكمة، ولن يفسد العلاقة بين الشعبين المصرى والإماراتى، وعلى جماعة الإخوان التوقف عن التدخل فى شئون الدول الأخرى، ومناطحة حكوماتها وزعزعة استقرارها، وأن مخططها معلوم لدى الإمارات ولعقود طويلة، وأن الاقتصاد المصرى لن تنعشه الخطب الرنانة، ولا الوعود الحالمة، ومصر لن تحتمل ما حدث فى تونس من العجز عن دفع رواتب الموظفين، وانشغال الجماعة الحاكمة بتصفية حساباتها الأيديولوجية على حساب مصلحة مصر والمصريين سيوصلها إلى طريق مسدود. فالإخوان يريدون السيطرة على كل شىء، وتصدير فكرهم لغيرهم، والخليجيون لن يسمحوا بذلك. وفى الحقيقة أن هذه الرؤية الإماراتية قابلها سوء فهم وغرور سياسى من إخوان الإمارات. وبسذاجة منقطعة النظير بدأ الإخوان فى الإمارات بتحريض الشباب على الحكومة واندفعوا اندفاعا أعمى بالعزف على نفس أوتار المشكلات الاجتماعية والأخلاقية، بالإضافة إلى الفساد المالى والإدارى الذى لا تخلو منه أية دولة، مع عدم التردد فى الاستعانة بأية جهة خارجية لتحقيق مخططاتها. وتشير الأوراق التى بين أيدينا إلى أن الخطأ الإستراتيجى الذى وقعت فيه جماعة الإخوان فى الإمارات هى، أنها اختارت المكان الخطأ والتوقيت الخطأ لتحركها، فالإمارات دولة ناجحة ومجتمعها متماسك، والإخوان فى الإمارات لم يقرأوا الواقع بشكل سليم، فتتالت أخطاؤهم، ونسوا أن الإماراتيين كانوا يتعاطفون معهم على أساس أنهم دعاة دينيون همهم «الآخرة»، فاكتشفوا عكس ذلك، لذلك أدخلهم شعب الإمارات قفص الاتهام، ووجدوا أنفسهم عاجزين عن الدفاع عن أنفسهم، ولهذا شهدت الشهور الأخيرة انسحاب عدد كبير من أعضاء الإخوان، وانشقاقهم عن الجماعة. والمراقب لعمل الإخوان فى الإمارات يلاحظ أنه يعتمد على أربعة سيناريوهات: التركيز على إبراز سلبيات المجتمع وتضخيمها، والتشكيك فى مؤسسات الدولة الرئيسية، كالقضاء والشرطة والجيش والإعلام، والطعن بشكل مباشر وغير مباشر فى أنظمة الحكم وشرعيتها، والمحور الرابع: رفع شعارات الحرية والعدالة والمساواة وترويجها عبر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعى، دون الإيمان بمضمونها، حيث يعلنون حب الوطن، ويمارسون النقد والأفعال التى تهدمه، ويطلقون على أنفسهم «دعاة إلى الله»، بينما يمارسون أحط الألاعيب السياسية، لذلك خسروا معركتهم فى داخل الإمارات، حيث قامت السلطات هناك بتوجيه ضربات قاسية ضدهم، منها القبض على 94 فى تنظيم إرهابى منهم 64 من أعضاء التنظيم السرى، والباقى من التنظيم النسائى، خططوا بالتنسيق مع التنظيم العالمى للإخوان لقلب نظام الحكم فى الإمارات بالاستعانة بقوى خارجية هى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهو ما أشار إليه قائد شرطة دبى ضاحى خلفان، فى حوار له مع جريدة الشرق الأوسط، ذاكرا أن الإخوان كانوا خدما لبريطانيا العظمى التى أسهمت فى تأسيسهم، والآن هم خدم لوريثتها أمريكا، مؤكدا أنه يجرى الآن اكتشاف وتطهير عدد من الإخوان تم تعيينهم فى مواقع مرموقة ومناصب حساسة، وبعد اكتشاف المسئولين ذلك، قامت الحكومة بتغيير التعيينات، وأن جميع قيادات الإخوان فى الخليج ممنوعون من دخول الإمارات، مطالبا باعتقال الشيخ يوسف القرضاوى، متسائلا من أعطاه الحق بالتدخل فى الشئون الداخلية الإماراتية، وتهديد الدولة بفتاوى مضللة تهاجم الإمارات من خلال استغلال قناة الجزيرة وبرنامجه فيها. ويبقى التأكيد فى ختام هذه المقاربة أن الإخوان خسروا كل معاركهم فى الداخل والخارج، وكسبت الشعوب العربية والأوطان، فهل تعى الأجيال الجديدة للتنظيم درس الحاضر القاسى مستقبلا؟