ما كاد التونسيون يتجمّعون مجددا حول كلمة واحدة لمواجهة كارثة الثلوج التى دفأت المشاعر والقلوب، وأنستهم الخلافات السياسية إلى حين، حتى عجّل حلول الشيخ وجدى غنيم فى تونس بالعودة إلى الفرقة والتناحر، فزاد الشتاء السياسى القارص قسوة، حيث أشعلت خطبه أعصاب الكثيرين واستفزت عقولهم - حتى إن البعض أطلقوا عليه “الداعية للفتن" ليتسبب فى مزيد من التّوتّر بين التّيّار الإسلامى والتّيّار الحداثي.. وبأسلوب التهكّم تحدّث الشّيخ عن افتخار التونسيين بالمساواة بين الرجل والمرأة وردّ بالقول “الرجل رجل والستّ ستّ، والدّيك ديك والفرخة فرخة" وسخر طويلا من تقديم الأخبار فى قنوات عربية من طرف “رجل وستّ" جالسين جنبا لجنب وليسا متزوجين. كما اعتبر ختان الإناث مكرمة دينية وطالب الرجال بإطالة اللحى واعتبر أن القائلين بالديمقراطية مرتدّون عن الإسلام، لكن قمة هتكه لرمز وطنى عندما استهزأ بالنشيد الوطني، والسبب غير خاف.. إنه بيت شعر الشابى أيقونة الثورات “إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر".. وتخمّر مريدو الشيخ عندما خطب فيهم مرتديا الزى التقليدى التونسى (الحبّة والكبوس) وسالت دموعه من حرارة الاستقبال ورددت مواقع إلكترونية تابعة للشيخ إن امرأة “نصرانية" أسلمت بين يديه حيث حلّت بركاته عندما وطأت قدماه أرض تونس مثلما كان يحدث أيام الصحابة رضوان الله عليهم والفتوحات. وللمفارقة فإن من اخترع الخبر تبركا يجهل أن تونس لا يوجد بها مسيحيون إطلاقا.. كان عليه أن يذاكر قليلا من التاريخ قبل أن يشطح بخياله!! وفى خطبته بالمهدية، لم يكد ينتهى غنيم من الاستفتاح بالبسملة حتى هاج الحاضرون مردّدين وراءه “موتوا بغيظكم، الله أكبر، لا إله إلا الله رغم أنف الكافرين والحاقدين.. تونس تونس إسلامية.. لا لا للعلمانية.. الجهاد قادم".. وكأنما “يطلّع لسانه" للتونسيين ويقول هذه دفعة تحت الحساب، قبل بدء الخطبة! وكذا فى صفاقس، آخر محطة زارها الشيخ ثار خلاف بين أهالى المدينة بعد أن تردد أن وجدى غنيم سيؤم المصلين فى صلاة الجمعة، وللخروج من الانقسام أفتى أحدهم بأن المذهب المالكى - وهو مذهب غالبية التونسيين - لا يجيز صلاة الجمعة خلف مسافر، فاكتفى بالخطبة. وقد خرجت مسيرة منددة بالزيارة جابت أرجاء المدينة فحدثت مناوشات بينهم وبين أنصاره تطورت إلى تراشق بالحجارة و العصيّ. ويضجر العقلاء من تكرار زيارات الدعاة والتى تلهى عن الأولويات الملحة الآن، فبالأمس عمرو خالد واليوم الشيخ غنيم وغدا طارق رمضان، ويتساءلون: لماذا لا توجّه الدعوات لعلماء الذرّة والاقتصاد والتكنولوجيا بدل شيخ يدعو لختان المرأة وارتداء النقاب وإطالة اللحى ومحاربة النصارى وتكفير كل من يمر بعيدا عن زاويته؟ وتستنكر صفحة على الفيس بوك هذه الخطب التى تجاوزها التونسيون - بمن فيهم أنصار النهضة والتى أشعلت خلافا بينهم وبين حركات سلفية - وقالت “ناس ميّتين من الثلوج والشيوخ عدّاو نصف الأسبوع لولانى يحكيو على الشطر اللّوطاني" - أى يقضى الشيوخ نصف الأسبوع يتحدثون عن نصف المرأة السفلى فى إشارة إلى دعوة غنيم لختان البنات!! وامتدت حبال رخوة من حوارات لا تنتهى بعيدة كل البعد عن أولويات التونسى “العيّاش".. أرأيتم إلى أين جرّ غنيم التوانسة، فى وقت تعانى فيه البلاد موجة برد غير مسبوقة كشفت عن واقع اجتماعى واقتصادى وإنسانى متردِّ، وتزامنت مع توجيه المعارضة انتقادات للحكومة تتهمها بالبطء فى التحرك لمواجهة الكارثة، مع تفاقم البطالة التى تجاوزت معدلاتها بنحو27% ، وتراجع السياحة، ناهيك عن الإحراج لحكومة النهضة ذات المرجعية الإسلامية والتى مافتئت تطلق الوعود داخليا وخارجيا بتبنى الاعتدال. واضطر الرئيس منصف المرزوقى للاعتذار على وصف “جراثيم" تعليقا على زيارة غنيم مشددا فى لقاء تليفزيونى على أن “التربة التونسية بهويتها العربية والإسلامية المعتدلة، لن تقبل هذه الجراثيم، وسترفض التشدد".. حتى مفتى تونس وعبدالفتاح مورو - أحد مؤسسى حركة النهضة - عارضا غنيم، بينما حذرت وزارة الصحة من مخاطر ختان الإناث، مؤكدة فى بيانها أن “عمليات بتر الأعضاء التناسلية للإناث هى ممارسات مدانة، ولا تمت بصلة إلى ثقافة وعادات تونس". وتقدم عدد من المحامين بدعوى قضائية ضد الجمعيات السلفية التى استضافته بينما قدمت 6 جمعيات فى صفاقس بلاغا للنائب العام لمنع غنيم من إلقاء الخطب. التونسيون الحالمون استيقظ حزنهم حد الأسى لأن الثورة جمعتهم ولكن فرقتهم ولاءات البعض لجماعات سعودية والبعض الآخر لقطر والبعض الثالث إلى الغرب.. فهذا الشيخ المقيم فى ماليزيا، وعانى من الاعتقال فى أمريكا والطرد من اليمن والكويت، وصدر ضده حكم بالسجن 5 سنوات فى مصر فى قضية تمويل التنظيم الدولى للإخوان، ووجهت إليه تهمة غسيل الأموال، جاء إلى تونس ذات النمط الثقافى المختلف بنفس عقليته الجهادية التصادمية، فأخطأ الحسابات وهو يهتف “إسلامية إسلامية" وأراد أن يتجاهل تاريخا عريقا للإسلام وجامعة الزيتونة والمدارس القيروانية الفقهية وشيوخها الذين هاجر إليهم الإمام محمد عبده فى مطلع القرن العشرين ليحتضنوا فكره المجدّد بعدما أدار له شيوخ فى المشرق ظهورهم ومهما تحلّق المريدون والمنبهرون حول الشيخ غنيم إلا أن المشهد خادع.. ربما لا يعلم هؤلاء أن معارك الشيخ غنيم لا تعد ولا تحصى مع شخصيات إسلامية مثل عمرو خالد وفهمى هويدى وعبد المنعم أبو الفتوح والكتاتنى والعريان وصبحى صالح والشيخ حسان وحزب النور.. ولكن مهما أصاب الوهن المناخ الدينى بفعل تضييق وعسف عقدين سابقين فإن التونسى ينتفض للدفاع عن استنارته ولا يقبل أن تكون أفكاره صدى لغيره، وليست هذه شهادتى لوحدى فى عشق وطن متفرّد فى وسطيته، لكن ذكرها عبد الرحمن بن خلدون فى مقدمته. لو كان الموتى يشهدون لكان جدّى قام من قبره ليقول لهذا الداعية إن جيله كان يحترم نساءه وينأى بنفسه عن تشبيه المرأة بالفرخة!