كاتبة موهوبة,تملك عالما خاصا,تختلط فيه الطفولية المدهشة المندهشة,بالأسئلة الوجودية,التى تصل أحيانا إلى مواجهات عبثية,ليس مع الكون والحياة والمفردات الكبرى,ولكن مع أبسط الأشياء,وعاديات السلوك اليومى,فهى مثلا تفتتح مجموعتها القصصية "إشعال ذاتى" ب "مدخل " تقول فى بعضه: عاشت أول عقدين من عمرها في وهم كبير؛ فكانت تظن أن لونها المفضل هو الأحمر، لتنظر حولها فلا تجد سوى اللون البني يحاصرها، كادت أن تتراجع فلن يتحول دمها إليه، كما أن فريق الأهلي لن يرتديه يومًا، لكن عشقها البني كان أقوى من كل هذا. يعجبها أبيض البطيخ عن أحمره... لكنها لا تفضل التصريح بشيء كهذا. فلا تتعجب إذا علمت أنها تشرب الجيلي ساخنًا، وتفضل الفوشار حصى عنه مطرقعًا. وحين تستمر فى سرد تفاصيل مواجهاتها,يمكن أن تظن للوهلة الأولى,أن طفولية الامساك باللحظة او بالأشياء او العادات,سوف تتشكل فى النهاية,راسمة عالما بسيطا وساحرا,لكنها فى نهاية المدخل,تقصم ظهر كل شئ,لتفاجئنا أن المدخل عادى التفاصيل هذا,مدخللاهم ما تملكه,مدخل للذات,التى تحاول القبض عليها فى هذا العالم الذى يمحى إنسانيته,من اجل هذا فقط .." لا رغبة في التخريب، ولا بحثًا عن التجديد المفتعل، هي فقط تبحث عن ذاتها... وإن كانت تفخر بشيء فلن يكون سوى أنها... أنا." إنها دينا سليمان القاصة الموهوبة الواعدة,بنت الاسكندرية المنفتحة على العالم,والواقعة فى حياتها وكتابتها فى تناقضات الاسكندرية الآنية,التى يحاول البعض إرغامها,على أن تعطى ظهرها للبحر والوجود,لتنحسر وتنحصر فى اللحى العقيمة,والمدن هى التفاصيل صغرت أم كبرت,وكذلك الأنثى الناعمة فى دينا سليمان التى تصر على الاحتفاظ بتفاصيلها من ناحية ,كما تشكلوجودها ولحظات فرحها وحزنها,فى عمق دلالى,يعطى للمعانى البيسطة قضاءاتها الأنثوية والإنسانية فى آن,وانظر مثلا لأسماء بعض القصص فى مجموعتها مثل "الحذاء الجديد- عصا غليظة- فتلة- ... ) وهى قصص تنسب لابد للحظة الفارقة,على ما فيها من سخرية وتهكم يمتد ليكون إطار المجموعة كلها...مثلا يجتمع التهكم مع الألم.. فى ظاهره ألم حذاء وباطنه ألم فقد قادم على الطريق..كما فى قصة الحذاء الجديد: ( لم تخبره أن قدمها تؤلمها. اعتذر عن تأخره، وابتسمت لقدومه، ظهر عليه الحزن، استأذن للرحيل، رافقته... ولم تخبره أن قدمها تؤلمها. سار بها كثيرًا، تكلم عن كل شيء، دمعه، ضعفه، وجنونه. لكنه لم يلحظ حذاؤها الجديد، وهي لم تخبره أن قدمها تؤلمها. *** بالأمس كان غاضبًا من تأخرها، اعتذرت، لم يستمع إليها... أخبرته أنها تريد التحدث معه، لكنه لم يعجبه حذاءها. *** الآن... يخبرها أنه يفتقدها، يريدها، ينتظرها... جاءت بموعدها كما هو جاء... لكنها جاءت بدون حذاء. ثم المفارقة الفادحة فى قصة "عضا غليظة ",التى لا نفهم كنه بطلها,بقدر ما نفهم كنه العصا فى حياة عادية ... ( .. ولا تزال العصا غليظة، تحاول جاهدة أن تحتضن كفه الصغيرة، يبللها لعابه وهو يحاول الصعود،حتى يصل، فيجدها،عصا غليظة تتشبث بها يد لظهر منحنٍ...)أما قصة "فتلة" فتكاد من فرط سخريتها,ومن فرط ألمها,تشكل القصة الملمح العام لمجموعة دينا سليمان حيث : (.. تُسَائِلُ نفسها... هل حقًّا يفكر بها؟؟ هل يستحق أن تتحمل عذابها هذا لأجله؟؟ تزداد تركيزًا، تفكيرًا، وتعاسة، فحتى الآن لم ينقطع الخيط... وآلامها تزدادُ. *** أخبرتها صديقتُها أنَّ (الفتلة) أنسب الوسائل، لكنها تتألم منها كثيرًا، كما أن غيرها يفي بالغرض، وهي ليست بحاجة لتزيد أوجاعها. *** أعطاها طرف الخيط... الخيط الرفيع الذي يتمسك به، وما كانت إلا أنْ أخذته بقوة، وبصمت، فهي لا تمارس معه شيئًا سوى فعل الانتظار، ولا تنتظر غير انقطاع الخيط. *** تراقبُها بحركاتِها الرتيبة المكرَّرة، وكيف تتشابك (الفتلة) بين يديها وفمها. تقترب، فتبتعد، لتقترب... فتجيبها بحركات عشوائية مدبرة ...و(الفتلة) لا تنقطع! *** الخيطُ رفيعٌ جدًّا... لن يتحملَهُما معًا، والطريق أطول من فكرة نجاتهما، تخلع عنها أفكارها تلك، تحاول أن تزدادَ منه، تلتف حول خيطها ولا تدري قَيَّدَها أَمْ قَيَّدَتْهُ، فالألم واحد. والمتعة واحدة. *** يتزايد انقطاع (الفتلة) في كل مرة تمارس هذا الفعل الأنثوي. تتألم، تتحمل، وتسعد بهذا كثيرًا، تنظر إليها صديقتها بخبث... انقطاع (الفتلة) يدل على أن هناك من يفكر بها. تتظاهر بعدم الفهم، ترسم على وجهها علامات التوجع بإتقان. وتزداد تمسكًا بخيطها الرفيع... مع كل انقطاع. ومع رقة أبطال المجموعة,وعوالمهم البسيطة,يطل التحدى الواثق الناعم من ثناياهم,فهم لا يملكون على الأقل ترف فقد الأشياء أو المعانى او الأحباب,ويبدو أنهم مرغمين على الاستمرار فى الحياة كما يحلمون بها,حتى وإن جاءت المتيجة بخيبة قليلة أو كبيرة كما فى بقية المجموعة فى "ثقب كبير" ..( لن أشعر بأي خجل مهما طال لوم نظراتهم، سأسير بثقة تجعل لحذائي صوتًا مسموعًا، تتحول ملامح وجههم إلى كامل التعجب، فكيف تجرأت على هذا الفعل، يجب أن أخلع حذائي قبل الدخول، أعلم هذا جيدًا ولن أفعل، بدأ كلامهم يتصيَّدُني لأزداد ثقةً وتعلو ساقي فوق الأخرى، فلن أخلع حذائي هذا الذي كلفني الكثير، هم يدركون هذا جيدًا، فكيف لهم بحذاء مثله؟ وإن كان، فلن يتركوه أبدًا...) وفى "اوكسجين" و"إشعال ذاتى" التى تعد أيقونة المجموعة ,والتى منحتها اسمها,مع ملاحظة أن المجموعة ضدرت قبل الثورتين التونسية والمصرية.إذ تقول : ..( علبة ثقاب أخرى ولم أفلح بعد في الإشعال،هذا النوع رديء جدًّا،لا أعرف لم نشتريه!!؟ ألن ينتهي عهد الثقاب!! *** لا أمتلك القدرة على اتخاذ القرار، لدي الكثير لأقوم به، الحلم يزداد، يتملكني، حتى أصبح يطاردني، ولا أجد إليه طريقًا. *** الإشعال الذاتي معطلٌ منذ سنوات،لم نحاول إصلاحه، هو غير عملي، أتجمد من البرد، أبحث عن أحدهم ملقى هنا أو هناك، فشلت كل محاولاتي فى إنقاذ آخر الثقاب. *** اليأس لا يجيد المزاح، يدرك كيف يقتل بأقل الخطوات، وفي كل محاولة لإيجاد ذاتي يعرف جيدًا كيف يحرقها. *** أفكر في سخافة ما أفعل، فقد جاوزنا منتصف الليل، والنوم أحق بي من هذا الهراء، لن أتعجب إن وجدت قدَّاحتي لا تنفث النار، هكذا تكون اللعبة أكثر إتقانًا. *** أشتعل، أحترق، لن أنطفئ... *** نستخدم الغاز الطبيعي، أدير مفتاحه، ها هو ينفث اختناقه، أجعل القداحة الفارغة تصدر أصواتها، أقربها من مصدر الغاز، ها هي النار. *** أصبحت أمتلك طريقتي الخاصة في إشعال ذاتي...