مكن فشل تيار الإسلام السياسي في الانتخابات التشريعية الجزائرية مايو 2012، الجزائر من عدم اللحاق بموجة الثورات العربية في الشمال الإفريقي. الأمر الذي أثار دهشة الكثيرين في الداخل والخارج، ويطرح تساؤلات حول الإجراءات التي اتخذها النظام الجزائري برئاسة عبد العزيز بوتفليقة في مواجهة الحركة الإسلامية الجزائرية في ظل الصعود القوى لتيارات الإسلام السياسي في برلمانات دول الثورات العربية. حيث لم يلجأ النظام في مواجهة المظاهرات بالعنف، بل أسرع في إطلاق سراح المحبوسين، واستجاب على الفور لمطالب المتظاهرين المشروعة، فشرع في تطبيق إصلاحات سياسية واقتصادية، معتمداً على لهجة خطابية مؤثرة توجه بها للمواطنين العاديين دون المسيسين ركز فيها على عدم دعمه لأي أحزاب، والسماح ل 500 مراقب دولي بمراقبة سير الانتخابات التشريعية، كما نبه إلى أن البرلمان الناشئ سيتحمل وحده الموافقة على التعديلات الدستورية، وهو ما دفع أحزاب التيار الإسلامي والمعارض للمشاركة وتجهيز مرشحين بدلاً من إثارة العنف. إن تذكر العشرية السوداء وما ارتبط بها من مآس ودمار، دفعت المواطن الجزائري للتخوف من تكرار التجربة، فابتعد عن المظاهرات ورفض التصويت لصالح الأحزاب الإسلامية التي كانت تعمل في أحضان النظام ثم أطلقت المظاهرات ضده مما أفقدها مصداقيتها. أسهم في ذلك حالة اللامبالاة التي سيطرت على المواطن جراء متابعته لما كان يجري في دول الحراك العربي وتكشف الموقف الدولي المضاد للأنظمة المستقرة. حيث لم يستطع التيار الإسلامي في الجزائر اقتناص الفرصة مثل نظرائه في دول الحراك العربي لعدة أسباب منها: اختراق الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنافس الأقوى لحزب جبهة التحرير الوطنية من قبل الأجهزة الأمنية، وإبعادها عن الساحة السياسية. والتصارع والاختلاف بين الأحزاب الإسلامية، فضلاً عن تمثيلها في الحكومات الجزائرية المتعاقبة لأكثر من 15 سنة مما جعلها لا تمثل أحزاباً راديكالية معارضة حرمت العمل السياسي، على عكس التيارات الإسلامية في تونس ومصر. فقد قام الرئيس بوتفليقة بإجراء سلسلة إصلاحات لتكون بمثابة الخطوة الأولى في إخراج الحياة السياسية الجزائرية من الجمود الذي ساد لفترة طويلة. ويرى الباحث أن الإصلاحات التي قام بها الرئيس الجزائري لم تكن نابعة من إرادة سياسية، ولكنها أتت استجابة لعاملين رئيسيين: أولاً: الضغوط الداخلية: لم يكن الشارع الجزائري بمعزل عن موجة الاحتجاجات العارمة في الوطن العربي، فقد أخذت الحركات الاحتجاجية الجزائرية التي أطلقتها أحزاب المعارضة والمواطنين في التصاعد للمطالبة بالإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي متخذين من الحراك العربي دافعاً لهم. ثانياً: الضغوط الخارجية: والتي تمارسها القوى الكبرى التي تتعامل مع الجزائر مثل فرنسا والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن الثورات العربية التي أثارت تعاطف شعوب دول الجوار. وقد أطلق النظام الجزائري إصلاحاته على مراحل بدأت بإعلان إلغاء حالة الطوارئ في فبراير 2011، لكن ذلك القرار لم يهدئ من موجة الاحتجاجات حتى جاء خطاب “بوتفليقة" يطلب فيه من البرلمان القيام بإصلاحات سياسية تتضمن مراجعة قانوني الانتخابات والأحزاب، وتعديل الدستور لأول مرة بمشاركة التيارات السياسية الفاعلة بما يعزز المسار الديمقراطي. كما قام بمجموعة من الإصلاحات الاقتصادية لتهدئة رجال الأعمال وقطاع الاستثمار. استمدت الانتخابات الجزائرية أهميتها من اعتبارين: أولهما، نجاح النخبة الحاكمة في استيعاب الاحتجاجات وتغيير السيناريو الذي حدث في مصر وتونس وليبيا بإجراء انتخابات تكون بمثابة بديل تعويضي عن الثورة. وثانيهما، تزامن الانتخابات مع صعود النخب الإسلامية في دول الثورات العربية في صورة يغلب عليها ما يمكن تسميته «ربيع الإسلام السياسي». فبدأت الانتخابات التشريعية الجزائرية في ظل موجات احتجاجية ساعية للتغيير، وخاض الانتخابات صف ممزق بين ست فرق محسوبة على التيار الإسلامي تنحدر معظمها من مدرسة الإخوان المسلمين. ومن أقدم هذه الحركات حركة مجتمع السلم “حمس" والتي تمثل التيار الإخواني الرئيسي التي خاضت الانتخابات بالتحالف مع حركة النهضة وحركة الإصلاح الوطني في قائمة موحدة أطلق عليها اسم “الجزائر الخضراء". وعلى الرغم من قدرة هذا التحالف على حسم الأكثرية من الأصوات لصالحه، فإن أصواتاً من الإسلاميين قد توجهت إلى أحزاب دينية أخرى. فظل التحالف هشاً منذ بداية الحملة الانتخابية حتى يوم التصويت. وقوبلت هذه التكتلات بالهجوم من قبل الأحزاب الليبرالية باعتبار أن تكتل الأحزاب الإسلامية في قوائم موحدة سيصعب من تصنيف نوابها وفق انتماءاتهم الحزبية، ورأوا أن التحالف جاء بهدف تقاسم المناصب في البرلمان. كما رفضوا إطلاق تسمية “الإسلامية" على هذه الأحزاب باعتبار أن الإسلام دين الجميع. وجاءت نتيجة الانتخابات مخيبة للآمال بالنسبة للتيار الإسلامي مقابل الفوز الكاسح لحزب الرئيس بواقع 220 مقعداً من أصل 462، وأرجع الباحث هذا الإخفاق للتيار الإسلامي. ويبدو مستقبل الحركات الإسلامية في الجزائر انطلاقاً من انتخابات مجلس النواب لعام 2012، مختلفا والتي أظهرت نتائجها فوزاً كبيراً للحزب الحاكم مقابل انتكاسة الأحزاب الإسلامية خلافاً لما شهدته دول الربيع العربي من اكتساح الإسلاميين في الانتخابات. حيث تبين أن حجم الأحزاب الإسلامية في الشارع الجزائري سيبقى على حاله، إن لم تصبه انشقاقات داخلية تضعف من وجوده ومقاومته للحزبين الحاكمين اللذين سيتمكنا - بفضل هذا الفشل - من تمرير جميع القوانين التي تحجم منافسة الأحزاب الإسلامية في المستقبل. من هنا سيستمر الوضع القائم للحركة الإسلامية كما هو. انطلاقاً من تمكن النظام إعادة إنتاج نفسه في الانتخابات الأخيرة، وتكريس سيطرته على الوضع في البلاد، بالإضافة إلى تحمس المواطن الجزائري للاستقرار أو التغيير الثوري وهو ما أكدته نتائج تصويت الجزائريين لمن يعرفونهم بنسبة 42.3%، في حين أن نسبة 58% قد امتنعوا عن التصويت. الأمر الذي يعني أن الأحزاب الإسلامية بعد فشلها لن تستطيع أن تكسب المزيد من المواطنين سواء من حيث تصديقها أم التحرك خلفها. واقتصر دور الأحزاب الإسلامية في الشارع فقط، بالاعتماد على المزيد من الاحتجاجات والتهديدات، والضغوط على السلطة لتحقيق مطالبها وإثبات وجودها في الشارع مع استمرار المطالبة بحكومة توافقية أو حل البرلمان وهو ما طالب به رئيس حركة “مجتمع السلم". وهذه المطالب ذات السقف العالي لتيار خرج منكسراً من الانتخابات ورفض المشاركة في الحكومة؛ تؤكد أن هذا التيار يتحرك دون حسابات سياسية منطقية. فتخفيف التصعيد الإسلامي ضد السلطة لصالح خطة قد تؤثر في مجريات الأمور في المستقبل القريب، والاكتفاء بإطلاق تصريحات ساخنة ضد السلطة تنذر بالخطر على شاكلة تصريحات بعض زعماء الأحزاب الإسلامية مثل “البقاء على استعداد للربيع العربي المؤجل" أو “ أن السلطة ضيعت فرصاً للسلم". عودة التقارب والعمل مع السلطة سواء بإرضائها أم بالضغط عليها. فوجود حركة “حمس" بالتشكيلة الحكومية ضرورة سياسية للرئيس بوتفليقة، لأنها تعطي تنوعاً تحتاجه التعددية، بالإضافة إلى امتصاص التيارات ذات المرجعية الإسلامية الأخرى ، وخلق تنافراً - إن لم يكن تناحرا – فيما بينهما. محاولة الحركة الدفع بمرشح رئاسي في الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها 2014. والمحتمل أن تلحق بهزيمة شبيهة بهزيمة الانتخابات التشريعية، بسبب تخوف الشعب من تكرار مأساة العشرية الحمراء. وفي ضوء ما تقدم فإن مستقبل الحركة الإسلامية في الجزائر ضعيف نتيجة عدم الرضا الشعبي، وستقتصر حركتها على الاقتراب أحياناً من السلطة والابتعاد عنها أحياناً أخرى متشوقة لتفعيل موجة الربيع العربي داخل الجزائر. لكن الباحث يجزم أن ذلك لم ولن يتحقق نظراً لقوة النظام الحاكم الذي تسيطر عليه المؤسسة العسكرية، ومحاولاته الدفع بسلسلة من الإجراءات التي تدعم عملية التحول الديمقراطي؛ بالإضافة إلى اعتماده على الريع النفطي من أجل كسب الولاء السياسي ومواجهة الاضطرابات الاقتصادية التي يتعرض لها الشعب الجزائري وتجعله يثور ضده.