بتسوانا هذه الدولة الإفريقية الصغيرة تشهد حالة من إقبال المستثمرين.. بسبب الشفافية وتسهيل إجراءت المستثمر الأجنبى اهتم المؤتمر بمسألة دعم القدرات البشرية فى مجال مكافحة الفساد.. وتوطين هذا المفهوم فى الذهنية العامة يشكل منتدى مكافحة الفساد فى إفريقيا، والذى انعقد بمدينة بشرم الشيخ المصرية خطوة أولى على الطريق الصحيح والطويل والذى معه تستطيع القارة الواعدة أن تستفيد من ثرواتها الهائلة، وربما تستطيع القفز إلى حالة التنمية المتوازنة والمستدامة وهى الشرط اللازم لتحسين مستوى جودة حياة الأفارقة، وتجعل مواطنهم المحلية أماكن قابلة للحياة بدلا من التضحية بالحياة نفسها والقفز إلى مجهول الهجرة غير الشرعية. وربما يكون هذا الإدراك الشامل للواقع الإفريقى وطبيعة التحديات التى تعرقل نمو الاقتصادات عبر القارة بسبب ظاهرة الفساد هى التى دفعت إلى بلورة المبادرة الرئاسية، بشأن مكافحة هذه الظاهرة والإعلان عنها من جانب الرئيس عبد الفتاح السيسى فى يناير الماضى، باعتباره رئيسا للاتحاد الإفريقى لهذا العام وعضوا فى الترويكا الرئاسية العام المقبل. المؤتمر الأول لمكافحة الفساد فى إفريقيا، عقدته هيئة الرقابة الإدارية المصرية التى هى الآلية المنوط بها ملاحقة الفساد فى مصر، وتقوم بعمليات منتظمة لرفع قدرات العديد من الدول الإفريقية فى هذا المجال، كما تساعد فى إنشاء الأجسام والآليات اللازمة لهذه العملية لدول إفريقية لم تملك بعد آليات متابعة وملاحقة الفساد والفاسدين. مؤتمر شرم الشيخ لمكافحة الفساد، استعرض محاور أساسية مرتبطة بظاهرة الفساد وتداعياتها على حالة مؤسسة الدولة الإفريقية من حيث القدرة على الحصول على عوائد عادلة للموارد الطبيعية مع حفظ الاستقرار الداخلي، والسيطرة على أمن الحدود، وذلك باعتبارها الشروط اللازمة لحفظ الأمن الجماعى الإفريقي،فضلا عن الأمن المحلى للدولة بطبيعة الحال. وقد انعقد مؤتمر مكافحة الفساد بمشاركة إفريقية لافتة للنظر، وحضور عربى مميز من دولتى الإمارات والمملكة العربية السعودية باعتبارهما ضيفتى شرف المؤتمر. وربما يكون من اللازم قبل التعرض لمحاور المؤتمر المهمة، وشرح طبيعة ظاهرة الفساد فى إفريقيا وتداعياتها السياسية قبل الاقتصادية على أمن كل دولة إفريقية على حدة، وعلى الأمن الجماعى الإفريقى. ويمكن القول إن تكلفة فاتورة الفساد الإفريقى، هى 50 مليار دولار سنويا طبقا لأرقام الاتحاد الإفريقى، التى هى تقديرات متواضعة مقارنة بأرقام أخرى تطرحها هيئات دولية معنية بمكافحة الفساد حول العالم، حيث أظهر تقرير منظمة الشفافية الدولية الذى يرصد منذ 1995مؤشرات انتشار الفساد والرشوة فى العالم، أن الدول الإفريقية تحتل مواقع متدنية فى التصنيف، حيث إن غالبها لم يحقق خلال عام 2017 مثلا أى تقدم فى مجال مكافحة الفساد، وأن اهتمام الدول الإفريقية بهذا الملف ضئيل للغاية. وبطبيعة الحال تم تصنيف إفريقيا بوصفها أسوأ منطقة فى العالم فى مجال تعاطى الفساد والرشوة خلال عام2017 وذلك بتسجيلها 32 نقطة على السلم البالغ 100درجة؛ وكانت الصومال وجنوب السودان أسوأ بلدان العالم تصنيفا فى هذا التقرير، بينما تحتل نيجيريا موقعا أفضل بقليل فى هذا التصنيف . وقد دعت منظمة الشفافية العالمية فى تقريرها الاتحاد الإفريقى إلى المساهمة بفاعلية فى محاربة الرشوة على المستوى القارى،كما أوصت الاتحاد الإفريقى بدعوة زعماء دول القارة للالتزام العلنى والشخصى بمكافحة الرشوة، وبعدم توجيه الاستثمارات نحو البلدان التى تنتشر فيها الرشوة . وقد استجاب الاتحاد الإفريقى لهذه الدعوة بالفعل فعقد مؤتمرا لهذا الهدف تحت عنوان "لنجعل من عام 2018عام الانتصار على الرشوة". وربما استجابة لهذه الدعوة وكذلك للضرورات التنموية، اختارت القمة الإفريقية فى دورتها الحادية والثلاثين التى عقدت بالعاصمة الموريتانية نواكشوط 11 يوليو "يوم للحرب على الفساد" فى إفريقيا، ويبدو فى هذا السياق أن المكافحة الشاملة الجماعية لآفة الفساد على مستوى القارة، هى مهمة قتالية، وواحدة من أهم وأشرس معارك الشأن الداخلى. وبطبيعة الحال تشكل مناطق النزاعات فى إفريقيا بيئة صالحة للفساد ونهب ثروات الشعوب، عبر رشوة النخب السياسية المتحكمة فى هذه المناطق، ولعل الحالة فى الكونغو خير مثال، حيث تملك الكونغو ثروات هائلة من الألماس والمعادن، لكن الحرب المستمرة فى إقليم كيفو شرق البلاد، أسهمت بشكل فاعل فى عدم استفادة الدولة من ثرواتها وترسيخ الفساد وإفشال جهود محاربتها. وفى المقابل فإن بتسوانا هذه الدولة الإفريقية الصغيرة، تشهد حالة من إقبال المستثمرين بسبب الشفافية، وترسيخ القواعد المنظمة للعمل وتسهيل إجراءت المستثمر الأجنبى، وكذلك مكافحة الفساد بالآليات المتعارف عليها عالميا. كما تسجل السنغالوغانا نماذج مشرفة فى مجال مكافحة الفساد. هذه الحالات المشرفة وجدت منصة لاستعراض تجاربها فى منتدى مكافحة الفساد الذى حضره 200 مسئول إفريقى بشرم الشيخ. ويبدو أنه من المتفق عليه فى مجال الدراسات الأكاديمية الإقليمية والعالمية، أن هناك دورا سلبيا تلعبه الشركات العابرة للجنسية فى توطين الفساد فى إفريقيا، حيث تلجأ هذه الشركات إلى استمالة النخب الحاكمة لتسهيل الحصول على ثروات البلاد بدون عوائد عادلة، ولعل ذلك هو السبب الرئيس فى استمرار حالة الفقر المدقع لجزء من القارة الإفريقية، وهو الفقر الذى وصل إلى المجاعة فى كل من الصومال وجنوب السودان مثلا، وبسبب عدم التزام الشركات بمحددات النزاهة والشفافية التى يتعاملون بها فى بلاد المنشأ، فإن حجم الفساد الذى تمارسه هذه الشركات يصل إلى 60% من حجم الفساد الكلى الموجود بإفريقيا، وذلك طبقا لتقديرات عالمية. وربما تكون المعضلة التى تواجهها هنا القارة الإفريقية هى حاجتها للاستثمار الأجنبى والذى غالبا ماتتنافس الدول الإفريقية للحصول عليه، وتقدم له التسهيلات الكبيرة لجذبه، مما يتسسب غالبا فى بخس قيمة الموارد، ولعل هذه المعضلة تحتاج إلى حوار معمق بين الأفارقة للإجابة عن سؤال هو كيف نستفيد من الاستثمار الأجنبى فى إفريقيا دون هدر الموارد الإفريقية وعلى قواعد الشفافية العالمية . أما الفاعل الثانى المسئول عن حالة الفساد فى إفريقيا وبنسبة 40%، فهى الجريمة غير المنظمة والتى تمارس تهريبا لكل الموارد بما فيها البشر، والناتج النهائى لهذه الحالة هو خسران القارة الإفريقية حتى مواردها البشرية الشابة. ولعل هذه الحالة هى السبب المباشر وراء تبنى منتدى مكافحة الفساد بشرم الشيخ مسأالة التنسيق الإفريقى البينى فى مجالات الرقابة والمتابعة والمكافحة، حيث تم تدشين آلية إلكترونية مؤمنة تسمح بالتعاون الفورى بين المسئولين الأفارقة، وذلك لمتابعة ورقابة الجرائم غير المنظمة عبر القارة، والتعامل معها بفعالية، ولعل هذه الآلية تساعد أيضا على تجفيف منابع تمويل الإرهاب والجماعات المتطرفة فى إفريقيا. وفيما يخص محاور منتدى شرم الشيخ فقد ركزت على دور مكافحة الفساد فى تنمية القارة الإفريقية، وهو المحور الذى استعرضت فيه بعض الدول خبراتها فى هذا المجال مثل مصر وزيمبابوى وكينيا فضلا عن غانا، ولعله من اللافت للنظر فى هذا السياق هو حالة بورندى التى يوجد فيها وزير للحكم الرشيد، وهو الذى قدم الخبرة البروندية فى مجال ضبط الأداء الحكومى وضمان تطبيق آليات الحكم الرشيد. وقد شرفت بإدارة الجلسة الثانية من المؤتمر التى ركزت على دور مكافحة الفساد على دعم التنمية فى إفريقيا، وهى الجلسة التى توجتها النساء الإفريقيات بفاعلية ونجاح، ولعل الوزيرتين المصريتين هالة السعيد وسحر نصر، كانتا واجهة إيجابية للحكومة المصرية فيما يتعلق بجهودها التشريعية والوقائية ضد حالات الفساد خصوصا الإدارى منه، بينما اهتمت مسئولة الحوكمة بالبنك الدولى بشرح الفساد كتحد كبير أمام الخطط التنموية عامة، وكذلك خطة الاتحاد الإفريقى للانطلاق التنموى 2063-2013 . وقد اهتم المحور الثالث فى المنتدى باستعراض آليات مكافحة الفساد على المستوى القارى، وكان لهذا المحور حضو مميز لكل من ممثلى الرقابة الإدارية ورئيس الجهاز المركزى للمحاسبات المستشار هشام بدوي. وكان من اللافت للنظر هو توطين التكنولوجيا الحديثة فى كل آليات مكافحة الفساد فى إفريقيا، ولعل أهمها الذكاء المالى والميكنة، والتحول الرقمى كسبل للحوكمة المالية والإدارية. وبطبيعة الحال اهتم المؤتمر بمسألة دعم القدرات البشرية فى مجال مكافحة الفساد، ولعل الانتباه لتحديد ماهية الفساد ومفهومه، وتوطين هذا المفهوم فى الذهنية العامة هو المطلوب على مستوى القارة الإفريقية فى الوقت الراهن، فمن المطلوب أن يلعب كل من الإعلام والتعليم أدوارا قائدة فى مجالات نشر مفهوم الفساد لدى العامة،فلعل توطين قيم النزاهة والشفافية واحترام العمل وتدقيقه مسألة مطلوبة فى المناهج التعليمية وذلك ضمن إطار أوسع هو آليات الحكم الرشيد. أما الإعلام فعليه أدوار كبيرة فى شرح ماهية الفساد للجمهور، ولعل بعض القنوات الفضائية المصرية قد مارست هذه المهمة لبعض الوقت، لكنها قد توقفت للأسف. ولعلى فى هذا السياق أقترح بضرورة الاستفادة من خبرات الأممالمتحدة فى مجالات محددات الفساد وصوره وسبل مكافحته على مستوى التعليم والإعلام، لأنها لا بد وأن تكون مفيدة على المستوى القارى وعلى المستوى المصرى أيضا.