ماذا وراء قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بسحب قواته من سوريا فى وقت "قريب جدا" حسب تعبيره؟ ولماذا أسرع بوقف الدعم الإضافى لقوات سوريا الديمقراطية؟ وهل هذا القرار يعنى عودة الاستقرار لسوريا؟ وما الأطراف التى يمكن أن تستفيد من هذا القرار، خصوصا أن ترامب قال إنه سوف يترك سوريا للآخرين؟ ولماذا جاء هذا القرار فى هذا التوقيت برغم حديث الإدارة الأمريكية الدائم بأن بقاء قواتها فى سوريا سيستمر لفترة غير محددة؟
أولا: الولايات المتحدة حققت كل أهدافها فى سوريا، لأنها استفادت من الصراع السورى فى ثلاثة مسارات، الأول هو تحويل سوريا إلى معسكر تدريب وتأهيل للإرهابيين لانتقال هؤلاء الدواعش بعد ذلك إلى روسياوالصين، وهذا يفسر لماذا أرسلت روسيا الجيوش إلى سوريا من منطلق أن نذهب لسوريا قبل أن تأتى سوريالروسيا، كما يحل ذلك لغز استخدام الصين حق النقض الفيتو لحماية الحكومة السورية 6 مرات برغم أنها فى كل مرة كان يمكن لها أن تخسر كل تجارتها مع الدول الشرق أوسطية التى تدعم المقاتلين السوريين، كما أن سورياوالعراق تحولتا نظرياً لمكان للتخلص من "النفايات البشرية" وهم العناصر المتطرفة فى الغرب، وذلك بخلق ساحة قتال "جهاد" لهؤلاء، فلو قتلوا تخلص الغرب منهم، وإن اكتسبوا خبرة قتالية يمكن نقلهم إلى ساحات قتال جديدة فى روسياوالصين، وهذا ما أكده جهاز الاستخبارات الألمانى، وجهاز الاستخبارات الخارجى البريطانى mi6 الذى أكد فى نوفمبر 2017، أن عدد المتطرفين العائدين من ساحات القتال فى سورياوالعراق إلى أوروبا لا يزيد على 1% ، وما يؤكد هذا الاتجاه أن الحرب على داعش فى الموصل كانت من ثلاثة محاور حتى يكون هناك "ممر آمن للإرهابيين، نفس الأمر تكرر فى معركة الرقة، حيث كشفت صور الأقمار الصناعية الروسية أن طائرات التحالف الدولى، خصوصا الطائرات الأمريكية وفرت الدعم الكامل لإرهابى داعش للخروج بأمان وسلام من الرقة نحو الأهداف البعيدة، وهذا يشير إلى أن الولايات المتحدة تدخر الإرهابيين لمعركة كبيرة خارج الشرق الأوسط.
ثانياً: إذا كانت حماية إسرائيل هدفا رئيسيا من الوجود الأمريكى فى المنطقة، فإن إضعاف الجيوش العربية فى سورياوالعراق، و"تبريد" الصراع الإسرائيلى الفلسطينى من خلال محاولات تصفية صراع العرب مع تل أبيب، جعل إسرائيل فى أمان كامل على الأقل فى المدى القريب والمنظور، فبالإضافة إلى أن مفردات العمل العسكرى تطورت على نحو هائل جعل من "الطائرات بدون طيار" و"الحرب السبرانية" أساليب جدبدة يمكن من خلالها حماية إسرائيل فى المدى البعيد، فإن الولايات المتحدة نجحت فى خلق بذور الخلاف بين المكونات الدينية والطائفية والإثنية فى المنطقة، بما يشكل ذخيرة للصراع والحروب الصغيرة فى المنطقة لعشرات السنين، وهو ما يوفر الأمان الكامل لإسرائيل.
ثالثاً: شكل البترول العربى سبباً قوياً وراء نشر الولايات المتحدة 28500 جندى أمريكى فى القواعد الخليجية، والآن أصبحت للولايات المتحدة بدائل للطاقة عموماً وللبترول العربى خصوصاً، فهناك البترول الصخرى، والبترول الجليدى، وهو ما يلفت النظر إلى أن قيمة البترول العربى تراجعت فى الذهنية الأمريكية خصوصا بعد قرار الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما بتصدير البترول الأمريكى عام 2016 لأول مرة فى التاريخ.
يضاف لكل ذلك أن الرئيس ترامب منذ أن كان مرشحاً للانتخابات وهو يقول إنه لن يحمى دولا أخرى دون تكلفة، لكن يبدو أن الولايات المتحدة تحتاج قواتها المنتشرة فى الشرق الأوسط لنشرها شرق آسيا، نظراً لوجود تقارير من الاستخبارات الأمريكية أكدت أن عدد القوات الأمريكية المنتشرة خارج الحدود الأمريكية، التى تبلغ 200 ألف جندى أمريكى، لا تكفى لتأمين مصالح الولايات المتحدةالأمريكية وحلفائها فى العالم، وتحديداً فى شرق آسيا والدول المحيطة بالصين، وأوصى التقرير الذى نشر فى يناير الماضى بإعادة نشر القوات الأمريكية فى الخارج، كما أشار لحاجة الولايات المتحدة إلى عدد كبير من الطيارين، وكشف عن نقص كبير فى عدد الطيارين الأمريكيين، وربما هذا ما أشارت إليه أكبر ميزانية عسكرية أمريكية فى التاريخ ب 717 مليار دولار هذا العام، التى بها جزء مهم لتدريب الطيارين ، ودعم القدرات الذرية الأمريكية بقنابل إستراتيجية اقل حجماً يمكن أن تمثل لأول مرة "وسيلة للحرب" بعد أن كانت الأسلحة القديمة "وسيلة للردع".
الاتجاه شرقا لكن المؤكد أن قرار ترامب ليس مفاجئا لأن هناك إستراتيجية أمريكية أعلنتها هيلارى كلينتون فى 2012 تقوم على فكرة "الاستدارة شرقا" نحو الصين وجنوب شرق آسيا، بمعنى أن واشنطن تستعد للتخلى عن مسئولياتها "الأمنية فقط" فى الشرق الأوسط، ولذلك لمغارم ومغانم، المغانم تبدأ من تقرير البنك الدولى الذى قال إن دول جنوب، وجنوب شرق آسيا لديها أكثر من 800 مليون مستهلك من أصحاب الدخول المرتفعة، وهؤلاء هم الزبائن المحتملون للبضائع الأمريكية الأعلى جودة وسعراً من البضائع الصينية والآسيوية الرخيصة، أما المغارم فهى كثيرة تبدأ من النمو الهائل للصين اقتصاديا وعسكريا، فالإنفاق الصينى على التسليح فاق فى عام 2017 الإنفاق الروسى، والبحرية الصينية باتت تشكل خطراً على الهيمنة البحرية الأمريكية فى بحر الصين الشرقى، وبحر الصين الجنوبى، وأن السبيل الوحيدة لوقف النمو العسكرى والاقتصادي الصينى يأتى من ثلاثة محاور هى "عسكرة" بحر الصين الجنوبى وخلق صراع إقليمى بين الصين وجيرانها وفى مقدمتها فيتنام والفلبين وبروناى وإندونيسيا وتايوان، بالإضافة للصراع التاريخى بين الصين واليابان، كما استثمرت الولايات المتحدة فى "الفزاعة الكورية الشمالية" بنشر منظومة الدفاع الصاروخية ثاد فى كوريا الجنوبية، وهو ما يكشف الأراضى الصينية والروسية أمام أجهزة التجسس الأمريكية، والمحور الثالث تمثل فى تشجيع الولايات المتحدة تمرد أقلية الإيجور فى منطقة جيانججنج "تركستان الشرقية" ودعم نقل الدواعش الصينيين من سورياوالعراق، وتحديداً من الرقة نحو الصين ، ناهيك عن إقناع ترامب للقيادتين فى كوريا الجنوبية واليابان، بشراء سلاح ثقيل بمليارات الدولارات لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية.
قواعد الناتو جاهزة ما يفسر الاتجاه الأمريكى الجديد فى سوريا هو اتفاق الولايات المتحدة مع دول حلف الأطلنطى أن تحل "القواعد الأطلنطية" محل القواعد الأمريكية فى الشرق الأوسط، ولذلك لم تتوسع الولايات المتحدة منذ عشر سنوات فى قواعدها فى منطقة الخليج، لكن التوسع كان من نصيب حلفائها الأطلنطيين وخصوصا فرنسا وبريطانيا وتركيا، فبريطانيا أعلنت عن استثمار 30 مليارات جنية استرلينى فى آمن منطقة الخليج خلال السنوات العشر القادمة وذلك خلال حضور رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماى القمة الخليجية 2016 ، كما توسعت فرنسا داخليا فى قواعدها فى الخليج، بالإضافة إلى القاعدة التركية فى قطر، وربما هذا يفسر الانخراط الفرنسى فى شمال سوريا سواء من خلال قواتها الموجودة على الأرض، والتهديد بقصف قوات الحكومة السورية لو ثبت تورطها فى استخدام الأسلحة الكيماوية، أو فى الصوت الفرنسى العالى فى الاعتراض على احتلال تركيا لعفرين.
لماذا قوات سوريا الديمقراطية؟ لكن السؤال الذى يطرحه الكثيرون لماذا تسحب الولايات المتحدة جنودها وأموالها من قوات سوريا الديمقراطية بعد أن دعمتهم خلال الفترة الماضية؟ فالثابت أن العلاقات التركية الأمريكية ليست كما كانت فى الماضى، فتركيا الآن تشترى منظومة دفاع صاروخية أس 400 من روسيا، وهى التى لا تتناغم مع الأنظمة الأخرى من حلف الناتو، كما أن تركيا تسعى للانضمام لمنظمة شنغهاى بما يضعف علاقاتها بالاتحاد الأوروبى وحلف الناتو، لذلك نظرت الولايات المتحدة لمحاولات التمدد العسكرى جنوبا "العراقوسوريا" بأنه تهديد سيصعب التعامل معه مستقبلاً لو وصل لمحطته النهائية، ولذلك دعمت الولايات المتحدة قوات سوريا الديمقراطية لتكون "قوة صد" للتمدد التركى، وعندما وصلت قوات سوريا الديمقراطية إلى هذا المستوى القتالى اتخذت واشنطن القرار بسحب قواتها من هناك، وهى تعلم أنها تستطيع أن تدعمهم فى أى وقت كما كانت تدعم المجموعات المسلحة الأخرى قبل تأسيس قوات سوريا الديمقراطية.
إيرانوروسيا التقدير الأمريكى منذ البداية لدخول إيرانوروسيا على خط الحرب فى سوريا يقوم على أن تتحول سوريا لمستنقع لموسكو وطهران، وبعد 8 سنوات من الحرب ترى واشنطن أن مناطق إدلب فى شمال غرب سوريا، التى تجمع فيها ما يقرب من 30 ألف إرهابى، بالإضافة إلى آلاف المسلحين فى الجبهة الجنوبية التى تضم القنيطرة والسويداء يمكن أن تشكل عمادا حقيقيا لسلسلة من "الحروب الصغيرة" تستمر لسنوات تشتت فيها موسكو وطهران جزءًا كبيرًا من قوتها قد يقود فى النهاية لانتفاضات داخلية (النموذج الإيرانى) أو استنزاف اقتصادى (النموذج السوفيتى) لتسود نظرية الانهيار من الداخل دون أن تطلق واشنطن رصاصة واحدة سواء على أعدائها الحاليين فى إيرانوروسيا أم خصومها المحتملين فى تركيا.